ديسمبر 07, 2024

الفقه الجديد وحقوق الإنسان

banna_nequabنحو فقه جديد” هو عنوان لكتابين صدرا في 1995 و 1997 للأستاذ جمال البنا عن “دار الفكر الإسلامي” التي يملكها المؤلف(1), ومن المفترض أن يصدر الجزء الثالث في شهر سبتمبر 1999. إلا أن الهدوء الذي رافق صدور الجزئين الأول والثاني لم يعد القاعدة، فمنذ انتقاد مفتي مصر لأطروحات الأستاذ البنا ومطالبته بمصادرة كتاب “السنة ودورها في الفقه الجديد” (الجزء الثاني) بعد عامين على صدوره. عادت مسألة التجديد الإسلامي إلى الواجهة ومع هذه العودة، قراءات أساسية لموضوعات شائكة وهامة للعلاقة بين الإسلام والشرعة الدولية لحقوق الإنسان.

فقراءة أولية لمؤلفات الأستاذ البنا (وهو الشقيق الأصغر لحسن البنا مؤسس جماعة الأخوان المسلمين في مصر ويبلغ من العمر سبعين عاما وقد طبع أكثر من مئة كتاب وكتيب) تظهر القطيعة بينه وبين المدارس الفقهية التقليدية من جهة، ومع الحركات الإسلامية الأصولية بقراءتها للدين. فهو يختلف في المنطلق ويختلف في المنهج. الأمر الذي يعبر عنه بالقول: ” لا نرى في برامج وكتابات الدعوات الإسلامية إشارة إلى الإنسان وما يكتنفه من مشكلات، وما يثيره من قضايا.. وإنما نرى الكلام كله هو عن أوامر الدين ونواهيه، شريعته وأحكامه.. مجردة منعزلة تماما عن الإنسان والحياة ! (…) وهذه المفارقة تعود إلى أن الدعوات الإسلامية استلهمت الفقهاء التقليديين والمذاهب السلفية دون أن تستلهم القرآن. فالإسلام كما يبلوره القرآن- يريد الإنسان.. ولكن الفقهاء يريدون الإسلام! وإنما أراد القرآن الإنسان لأن الله تعالى إنما أنزل الإسلام لهداية الإنسان فلإسلام هو الوسيلة والإنسان هو الغاية” (2).

من هنا اللقاء المبدأي والأساسي بين الأستاذ البنا ونشطاء حقوق الإنسان الأمر الذي يتجلى في جملة الحقوق الأساسية التي كانت موضع نقاش بعد صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العالم العربي. فكون الغاية الإنسان، تعني تخطي الخطاب اللفظي حول حقوقه وحرياته إلى الفعل ولن يتم ذلك بإقرار الحريات الأساسية: “الحرية هي “المناخ” الفكري الذي يحقق إنسانية الإنسان، وبدونها يظل إنسانا ناقصا، إنسانا محروما من أهم ميزة للإنسان وهي الفكر” (3).

كان للأستاذ البنا فضل فتح ملف المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تنص على “لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء كان ذلك سرا أم مع الجماعة”. ومعروف أن هذه المادة هي أكثر مواد الإعلان العالمي مثارا للجدل وقد وقف الأستاذ البنا بكل حزم مع التوافق الكامل بين الإسلام وهذه المادة.

يؤكد الأستاذ البنا على فكرة مركزية وهي أن قضية الإيمان والكفر قضية شخصية لا تهم إلا صاحبها بمعنى أنها ليست من قضايا النظام العام، وبالتالي فلا تدخل ولا إكراه عليها من أي جهة، كما أن الرسل ليسوا إلا مبشرين ومبلغين وليس لهم سلطة الإكراه أو الجبر، فالهداية من الله تعالى وطبقا لمشيئته والأنبياء أنفسهم لا يملكون هداية الناس لقوله تعالى “ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون” وقوله تعالى ليس عليك هداه مولكن الله يهدي من يشاء”. كما أن الاختلاف والتعدد بين البشر مما أراده الله ومما يفصل فيه يوم القيامة ولا يوجد حد دنيوي على الردة. فقد ذكر القرآن الردة مرارا وتكرارا من دون أن يفرض عقوبة دنيوية عليها وهو يعطي مثل حالات عديدة ارتدت في عهد النبي أفرادا أو جماعات وبعضهم لعدة مرات فما قتل منهم أحدا (ارتد اثنا عشر مسلم على عهد النبي خرجوا من المدينة إلى مكة ما أهدر دم أحد منهم، وارته عبد الله بن جحش فما أهدر دمه …) ويظهر ضعف رواية الحديث “من بدل دينه فاقتلوه وتناقضات عقوبة الردة وعدم دخولها في الحدود وكيف شكلت منزلقا خطيرا في التشريع.(4)

ومن الموضوعات المحرمة التي يتناولها الأستاذ البنا، موضوع حقوق المرأة وقوانين الأحوال الشخصية. وقد خصص لذلك كتابا يلخص وجهة نظره (5) يقول : “المبرر الأصيل لتحمل المسؤوليات (في الإسلام) هو القدرة والكفاية وليس الجنس أو الحسب أو النسب أو اللون أو القربى” (6). وهو يدافع عن رأي قاسم أمين معتبرا إياه من صلب الدين الإسلامي. ويتبنى استنادا إلى الاقتداء بالمجتمع الإسلامي الأول والطبيعة الإنسانية مبدأ الاختلاط حيث يقول: ” المجتمع المختلط الذي يتلاقى فيه الرجال والنساء في الدراسة والعمل والنشاط العام هو المجتمع الذي يتفق مع الفطرة وأن أي محاولة للفصل بين الرجال والنساء هي تعسف ومخالفة لطبيعة الأشياء” (7). ويهاجم البنا المبالغة في قضية الحجاب والنقاب والعزل باعتبارها دخيلة على المبادئ الإسلامية : “يمكن القول بدون مخالفة للوقائع أن المجتمع النسوي في عهد الرسول كان مجتمعا محتشما، ولكنه لم يكن منقبا، وإن لم يخل من منقبات اعتبرن شذوذا عن الوضع العام”(8). ويقول: “الحجاب في مضمون القرآن ليس نقابا أو حجابا، ولكنه باب أو ستر يحجب من في الداخل ويفرض على الداخل الاستئذان، وهذا هو المعنى الذي جاء في القرآن لكلمة “حجاب” وأنها اقترنت بآيات الاستئذان كما أنها لم ترد إلا بصدد الحديث عن زوجات الرسول” (9).

ويتجلى موقفه الثوري في قضية قوانين الأحوال الشخصية منضما للمصلح المغاربي الكبير الطاهر حداد، يطالب المفكر الإسلامي بإصلاحها: “يمكننا القول إن قوانين الأحوال الشخصية في مصر المستمدة من أحكام فقهاء وضعت من ألف عام تعد سبة في معايير العدالة ويتعين تغييرها بما يتفق مع القرآن الكريم ومبادئ الفقه الجديد”(10).

ويحاول المفكر الإسلامي جمال البنا إنصاف مفهوم العلمانية والبحث عن تقاطعاته مع الإسلام. فقد كتب تحت عنوان علمانية الإسلام : “أول ما يلفت الانتباه أن الإسلام على نقيض الأديان السابقة لم يجعل دليلا على مصداقيته معجزة خارقة للعادة، مخالفة للنواميس، كأحياء الموتى أو عدم الاحتراق بالنار أو تحويل عصا موسى إلى حية تسعى إلخ… إن معجزته هي “كتاب” ووسيلته إلى كسب الإيمان هي تلاوة هذا الكتاب، ورفض القرآن طلب المشركين معجزة “وقالوا لن نؤمن حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا، أو تأتي بالله والملائكة قبيلا، أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه. قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا (الإسراء 90-93). فهذه الآيات ليست فحسب تنفي ما طلبوه من معجزات ولكنها أيضا تقرر ببساطة رائعة بشرية الرسول “هل كنت إلا بشرا رسولا”.

ويصور القرآن نفسية الناس وقتئذ عن ما يجابهونه من جديد “وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل الله إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون أن تتبعون إلا رجلا مسحورا (الفرقان 7-7). .. فانظر كيف عزل القرآن عالم المعجزات عن عالم الدنيا ووكل الأول إلى الله وخص الرسول بأنه “منذر مبين”، وكيف جابه المشركين بأن في الكتاب ما يكفي.

ولا يقل دلالة في ما نحن بصدده ما أشرنا إليه آنفا من أن الإسلام لا يعترف بالمؤسسة الدينية التي تحتكر التفسير والتأويل والتحريم والتحليل وتكون واسطة بين الفرد والله وتؤدي وظائفها داخل مبنى له شروط معينة ككنيسة أو معبد ولا تجوز ممارسة الشعائر الدينية في أي مكان آخر أو على أيدي رجال آخرين.

قضى الإسلام على المؤسسة الدينية بوجهيها قلبا وقالبا واعتبر أن قيام الأحبار والرهبان بالتحليل والتحريم والوساطة بين الفرد والله نوع من الشرك… كما لم يربط بين أداء الشعائر بالمبنى المعين الذي تقيمه المؤسسة فالأرض كلها مسجد طهور تجوز الصلاة فيه (…) وقد كان من الأسباب التي أدت إلى انتفاء المؤسسة الدينية في الإسلام بساطة ونصوع فكرة الألوهية وعدم قيامها على لاهوت يشق على الرجل العادي إدراكه ويحتاج إلى حبر أو قس أو كاهن متخصص.

وهذه الحقيقة كانت من أكبر أسباب “علمانية الإسلام” لأنه أبعد كل المحاولات اللاهوتية التي تستعصي على العقول من مجال العقيدة.

إن تقرير حرية العقيدة والفكر وانتفاء المؤسسة الدينية وبساطة فكرة الألوهية أبعد الإسلام عن الثيوقراطية قدر ما قربها من العلمانية فضلا عن أن التصوير الإسلامي الديناميكي للحياة الذي يقوم على التدافع، القريب من الصراع والجدل ما بين قوى الخير وقوى الشر، هداية الأنبياء وغواية الشياطين يجعل الحرية جزءا لا يتجزأ من كيانه ومكوناته.” ويضيف : “يتفق الإسلام مع العلمانية في أنه يرفض الدولة الثيولوجية ويجعل الحكم عقدا سياسيا فكأن الإسلام حقق العقد الاجتماعي الذي تصوره جان جاك روسو.. قبله بقرون طويلة”. ويخلص المفكر الإسلامي إلى القول : ” وما نتوقعه بحكم دروس التاريخ أن تنتهي هذه المماحكة بظهور صورة شرقية من العلمانية تحتفظ بالقيم الإسلامية ويستلهمها المجتمع بنسبة تفوق كثيرا استلهام المجتمع الأوربي للقيم المسيحية، وبهذا يحصل نوع من التوازن ما بين عناصر الحفاظ والثبات وقوى التقدم والتطور”.(11).

كان الإمام أبو حنيفة يؤكد لكل من يعطيه ثقة الإنصات “علمنا هذا رأي أحسن ما قدرنا عليه، فمن قدر على غير ذلك فله ما رأى ولنا ما رأينا”. ولم تتولد فكرة مأسسة الفقه وإغلاق باب الاجتهاد إلا مع دخول العالم الإسلامي حقبة الانحطاط، باستعارة تعبير أكثر المسلمين الهنود سلفية، أبو الحسن الندوي. ومعروفة جملة الشهرستاني في تناوله لاختلاف الملل والنحل في الإسلام: “كل مجتهد مصيب”. فالاجتهاد كان مولد الفقه ومولد مدارسه وبقدر ما كان حاضرا بقدر ما كان الوجود العربي الإسلامي في صلب التاريخ والحاضر والمستقبل.

للأسف فقد هيمنت خلال حقب طويلة اتجاهات متحجرة ومتكلسة أفقدت الفكر الإسلامي ديناميته وخصبه وجعلته يقف على أعتاب اجتهادات تعود لأكثر من ألف عام. وفي ظروف يصفها الأستاذ البنا بالقول:

“والناظر في التاريخ الإسلامي يجد أن الوصمة الكبرى فيه أن الحكام لم يعودوا “معلمين الدين – وقضاة العدل-كما أرادهم عمر” ولكن جلادين ومغتصبين. وأن هذا حدث بدءا من معاوية حتى السلطان عبد الحميد، باستثناءات قليلة جدا كانت تلمع كما يلمع الشهاب في الظلام ثم يسقط” (ص 182 ج2).

إن قراءة المشروع الفكري لجمال البنا تتطلب منا وقفة متأنية ودراسة دقيقة لمؤلفاته، وهذا ما نعكف عليه بانتظار الجزء الثالث من كتابه “نحو فقه جديد”. وما نريد التأكيد عليه في هذه القراءة السريعة، هو النتائج المباشرة وغير المباشرة لمشروع الأستاذ البنا على حركة حقوق الإنسان في العالمين العربي والإسلامي.

منذ نشأتها، وجدت الحركة العربية لحقوق الإنسان في رموز الإصلاح الإسلامي نصيرا هاما في الفكر والممارسة. ومن المفيد التذكير بمواقف الشيخ عبد الله العلايلي والشيخ محمود محمد طه والعديد من تلامذتهما.

ولا يشكل هذا الموقف لحظة استثنائية في فكر البنا، فهو مجدد في تناوله للحريات النقابية والعامة والخاصة، في مفهوم إقامة العدل و استقلال القضاء وفي حقوق المرأة كذلك في علاقة الإسلام بالعلمانية. وهي مواضيع حساسة وهامة بالنسبة لمناضلي حقوق الإنسان.

إن هذا التوافق بين معركة الاستاذ البنا من أجل التجديد والإصلاح الإسلامي مع معركة المدافعين عن حقوق الإنسان في الدفاع عن حرية الرأي والعقيدة، مثل هام للتفاعل الفكري والنضالي بين عالم حقوق الإنسان والقضايا الكبرى للمجتمع الذي نعيش فيه، وهي تظهر مدى التفاعل والتقارب بين المدافعين عن حقوق الإنسان ورواد الإصلاح الإسلامي.

* نشر في   1998

1-    الجزء الأول بعنوان “نحو فقه جديد” والثاني مع عنوان إضافي “السنة ودورها في الفقه الجديد”

2-     جمال البنا، ما بعد الإخوان المسلمين ، دار الفكر الإسلامي، 1996، ص 147-148.

3-     نفس المصدر، ص 150.

4-   جرى تناول هذه النقطة في أكثر من مكان منها:  الجزء الثاني من نحو فقه جديد، وفي “حرية الفكر والاعتقاد في الإسلام” و”كلا لفقهاء التقليد وكلا لأدعياء التنوير”.

5-     المرأة المسلمة بين تحرير القرآن وتقييد الفقهاء، دار الفكر الإسلامي، القاهرة، 1998.

6-     نفس المصدر، ص19 .

7-     نفس المصدر، ص 188.

8-     نفس المصدر، ص 35.

9-     نفس المصدر، ص31.

10- نفس المصدر، ص 125.

11- أنظر هيثم مناع، مادة الإسلام والعلمانية في “الإمعان في حقوق الإنسان، موسوعة عالمية مختصرة، تصدر قريبا.