أكتوبر 13, 2024

الديمقراطية الجديدة في أميركا اللاتينية

09__america-latina_111210_ad_s.inddحاول الاحتكار الغربي للإعلام تصوير هزيمة المعسكر البيروقراطي الشرقي كانتصار لأنموذج الحياة الغربية وسعت الماكينة الإعلامية الأميركية لتخصيص الأنموذج الأميركي بذلك بما فيه النظرة الأميركية التقليدية والجديدة لاعتبار السوق الكل الفاعل في الوجود البشري الذي يسمح له بالتقدم والتنمية وحسن الإدارة وديمقراطية المؤسسات.

هذا الربط بين وثنية السوق وإطلاق العولمة الاقتصادية مع نسبية دور الآخر ورفض هوية العالم المتعددة كذلك رفض التصور الإنساني الشامل للحقوق والحريات، خلق فجوة فعلية بين المركز الشمالي من جهة وحاجيات الشعوب والأشخاص في محيط المنظومة الدولية الجديدة للهيمنة التي ورثت، بالحق أو بالباطل، حقبة الصراع الثنائي القطب والحرب الباردة. فألقت بما في الميراث من عناصر غير ملائمة لتصورها للحياة والوجود إلى القمامة، محتفظة بما يعزز تصورها الأحادي في التحليل والممارسة.

وقد خاض هذا التصور معاركه على الصعيد العالمي دون رحمة وبكل الوسائل من أجل تعزيز هيمنة دفعت ثمنها دول الجنوب. بهذا المعنى، كانت القارة الأميركية اللاتينية الحقل الذي قامت فيه الحكومات الأميركية المتعاقبة بكل ما جال في رأسها من هواجس تسمح باستمرار الهيمنة وامتصاص الخيرات وبعثرة وسائل النهوض وخلق فئات اجتماعية راضخة لمصالحها.

منذ ما قبل صناعة دولة بنما وحتى انقلاب بينوشيه وإدارة الكونترا وسياسة تفريخ “صبية شيكاغو” والمؤسسات المعيدة لتصوير الأطروحات الأميركية بشكل مباشر أو غير مباشر, إلى دعوتها للعزوف عن العمليات الانتخابية باعتبارها أداة شعبوية ضارة لشعوب القارة اللاتينية في البلدان التي لا أمل لأنصارها بأي نجاح.

وقد أعطت هذه السياسات حكومات تجمع بجدارة الفساد الفائق والبيروقراطية المتكلسة والتفاوت الاجتماعي الهائل والمديونية والتأخر الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

الليبرالية الجديدة حولت عبارة فانسون دوغورناي الشهيرة “دعه يعمل، دعه يمر” إلى عبارة أكثر دقة تؤصل للتمييز في صلب اقتصاد السوق “دع الغربي يعمل، دع البضاعة تمر”. مع كل ما يترتب على ذلك على صعيد الحقوق الأساسية للبشر الواقعين خارج مركز الهيمنة.

اعتبرت الإدارات الأميركية دون تمييز يذكر الفضاء اللاتيني الأميركي حديقة المنزل الخلفية، تزرع فيها ما تشاء وسعت لإفشال كل محاولات الاستقلال أو تعدد التأثر.

ولم تتوان عن محاصرة الأنموذج الكوبي بشكل لا يسمح له إلا بالانغلاق السياسي والقمع الأمني لجعله أنموذجا مضادا لطموحات القارة في الحرية.

ومع ذلك بدأت القراءة الليبرالية الجديدة بالانهيار عبر عجزها عن تقديم إجابات كافية لمعالجة ومواجهة أزمات القارة، وبعد أكثر من شكل للاحتضار تجلى أحيانا في تغييرات في القمة تتابع بأسرع من انقلابات سورية في نهاية الأربعينيات، صعدت أسماء وتصورات سياسية أكثر تماسكا من اليسار التقليدي، تحمل تجربته بشكل نقدي وتجدد فيما استطاعت وتفسح المجال لإنتاج محلي لأنموذج للحكم يسمح بعودة بلدانها للتاريخ.

بهذا المعنى شكلت أحداث 11/9 في القارة منعطفا تاريخيا عبر تحويل مركز الانتباه والمصلحة من هذه القارة إلى ما يعرف بالشرق الأوسط الكبير والحرب على الإرهاب وتوجيه عدسات الرؤيا الأميركية الشمالية إلى العالم الإسلامي.

هذه اللحظة التاريخية باستعارة تعبير عزيز على قلب هيغل ثم ماركس لم تفوت من شعوب تاقت للانعتاق وعملت له منذ الثورة البوليفارية والمكسيكية وحركات التحرر ومقاومة الدكتاتوريات المختلفة حتى اليوم.

فاستعادت من أعماق الذاكرة والتاريخ ما يعزز انطلاقة جديدة للتحرر.. الترجمة المبكرة لإعلان حقوق الإنسان والمواطن بعد صدوره بخمس سنوات ردا على النظام الإسباني المتخلف سيمون بوليفار وحركته التحررية ذات النظرة الأميركية اللاتينية التوحيدية، الحركة السوداء في هاييتي قبل قرنين ونيف، أنموذج كولومبيا الكبرى قبل 190 عاما (كولومبيا وبنما وفنزويلا والإكوادور في الحدود الحالية) كمثل لإمكانية توحيد القارة, استيعاب نقاط ضعف التجربة الكوبية، الإفادة من الحضارة الغربية وإغناءها للتناسب مع الواقع اللاتيني، تعزيز الحقوق السياسية والمدنية لتمكين الانتقال من ديمقراطية تمثيلية إلى ديمقراطية تشاركية ذات بعد اجتماعي يسمح بتقليص مساحات الفقر والمرض والجهل.. محاولة بناء هياكل موازية للمؤسسات الاقتصادية المعززة للهيمنة الأميركية الشمالية، الانطلاق من ضرورة وجود تعددية تسمح بإغناء الوجود البشري ورفض أي أحادية مهدوية مخلصة.. التخلص من عقدة تفوق الأنموذج الغربي وضرورة استنباط الإجابات العملية على مشاكل فعلية دون نسخ أو مسخ.

ويبدو التعدد في التصور والآفاق بين البرازيل وتشيلي وبوليفيا وفنزويلا والإكوادور ونيكاراغوا مادة خصبة تنتج اليوم ثقافة جديدة تعددية على صعيد القارة. وكون المثل الفنزويلي قد تميز بعدة خصائص تجمع طموحات التغيير وأزمة التغيير في القارة اللاتينية بآن، فمن المفيد التوقف عنده.

ارتبطت كل تحركات هوغو شافيز الشاب والرئيس المواطن بتجربة سيمون بوليفار (مات عام 1831) الذي حرر ستة كيانات سياسية قائمة اليوم من الاستعمار الإسباني قبل قرنين (بوليفيا وكولومبيا وبنما وفنزويلا والإكوادور والبيرو) وحمل جملة من المبادئ الثورية في أوروبا آنذاك إلى أميركا اللاتينية واستلهم فكرة التحرر المتعدد الأعراق والثقافات من الحركة السوداء في هاييتي.

إضافة لتجربة اليسار الراديكالي الفنزويلي واستيعاب فكرة مركزية هي أن الشعب الفنزويلي وبحكم أكثر من تجربة مرة شديد الحذر من الحزبية التي شكلت في عدة مراحل مفصلية موضوع إحباط له، وأن من الضروري إعادة مئات آلاف المواطنين إلى المشاركة السياسية التي أبعدوا عنها حينا وابتعدوا عنها أحيانا أخرى.

كذلك تحديد أولويات للإصلاح تسمح بالتعايش بين المكونات المختلفة للمجتمع. لذا قد يفاجأ المرء بأن السيرورة الكوبية الأولى (القضاء على الأمية وخفض الإجارات للنصف، وتأميم الكهرباء، وإرساء الإصلاح الزراعي في أقل من 5 سنوات) ليست المرجع، فالقضاء على الأمية والضمان الصحي في أوليات هوغو شافيز، ولكن أيضا محاربة الفساد وضمان حرية التعبير والتنظيم والاجتماع وشفافية الانتخابات وخلق فضاءات المشاركة الشعبية التي تعمل لضمان الحقوق الأساسية للإنسان باعتبارها الأساس في الدستور البوليفاري.

ولعلنا لا نبالغ إذا اعتبرنا دستور الجمهورية البوليفارية لفنزويلا الإنجاز الأول والأهم في هذه التجربة. هذا الدستور يعتبر فنزويلا دولة ديمقراطية واجتماعية، دولة قانون وعدالة ويثمن حقوق الإنسان مرجعية مركزية ويعتبر الفضاء الجغرافي الوطني منطقة سلم لا يمكن أن تقام بها قواعد أو منشآت عسكرية أجنبية (المادة 13).

ويعتبر التعليم حقا من حقوق الإنسان وواجبا اجتماعيا أساسيا ديمقراطيا ومجانيا وإلزاميا تتحمله الدولة (المادة 102)، وكذلك الحال بالنسبة للصحة (المادة 83) والضمان الاجتماعي (المادة 86)، والسكن (المادة 82)، والعمل (المادة 87)، وضمان حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة (المادة 81).

وهو يخصص فصلا للحقوق الثقافية والتربوية وآخر للحقوق الاقتصادية كذلك حقوق الشعوب الأصلية وحقوق البيئة. ولا يجوز للحالات الاستثنائية أن تمس الحقوق غير القابلة للتصرف في الاتفاقيات الدولية والاتفاقيات القارية الأميركية.

وتتكون السلطات العامة المستقلة من خمس، التنفيذية والتشريعية والقضائية والانتخابية وسلطة المواطن (خصص للأخيرة المواد 273-279 من الدستور).

وقد جرت 11 عملية انتخابية منذ انتخاب الرئيس الحالي في 1998 تميزت بالأمانة والشفافية، كان آخرها انتخاب الرئيس شافيز في 3 ديسمبر/ كانون الأول 2006 لولاية ثانية بقرابة 62% من أصوات الناخبين الذين تجاوزت مشاركتهم ثلاثة أرباع الجسم الانتخابي في البلاد.

كان الرئيس الحالي والتيار الذي يؤيده باستمرار ضحية الإعلام الفنزويلي الخاضع لأجهزة اقتصادية ومالية معادية لمشروعه، وقد سعى لتخليص الإعلام مما يمكن تسميته انحراف السلطة الرابعة التي تحولت في مناسبات عديدة إلى أداة تشهير ونيل لا أخلاقي من خصومها في حالة غياب كامل للمحاسبة القضائية.

من أجل هذا نظم قانون صحافة يضمن قواعد أخلاقية أساسية للمهنة تضمن كامل الحرية للصحافيين ولا تسمح بالتحريض على الحرب والنيل من التسامح الديني والعرقي وتدين التمييز.

وحتى اليوم الصحافة المكتوبة الأساسية بيد المعارضة، وهناك محطة تلفزيون واحدة لتيار الرئيس وعدة محطات للمعارضة. ولا يوجد في البلاد أي حالة للاعتقال التعسفي أو الإداري.

لم يكن من السهل على المواطن شافيز كما يسميه محبيه أن يحارب آلة الفساد والبيروقراطية في جهاز متكلس تسوده المحسوبية والزبونية وشبكات “المافيا” المتعددة, وفي العديد من مشاريعه الإصلاحية كان بحاجة مباشرة لعناصر من خارج الجهاز لتسريع وتيرة الإصلاح وتقديم الحقوق المهضومة للمواطنين خاصة منها الصحية والتعليمية خاصة في المناطق النائية وأحياء الصفيح barrios، فتم استيراد أكثر من 60 ألف طبيب كوبي لبناء مركز للرعاية الصحية ومتابعتها إلى حين توفر الكوادر المحلية، وهناك عملية سياسية لمشاركة الناس مباشرة في إدارة شؤون حياتهم عبر آلاف الحلقات البوليفارية والتجمعات الشعبية والنقابات الجديدة، وتجمعات النساء، والطلاب ولجان الأرض الحضرية أو الزراعية، وعشرات التجمعات السياسية.

ويحتاج تسجيل ما تنجزه هذه المجموعات ميدانيا لدراسة موسعة ولقد تمكنت من تتبع نشاط عدة مجموعات منها وهي تعبير حقيقي للجان غير حكومية تقوم على المبادرة الذاتية وتحديد المهمات والوسائل محليا.

وتختلف الكفاءة والفعالية باختلاف المناطق والكوادر واستيعاب فكرة الدولة الجديدة التي ترفض مبدأ الوصاية من فوق وتعتمد المشاركة في القرار وتحارب بامتياز البيروقراطية والفساد. ويلاحظ الدور الكبير للنساء في هذه المبادرات كذلك الحضور لمختلف المكونات الثقافية والعرقية في البلاد.

كذلك أقام المعهد الوطني للنساء آلاف “نقاط لقاء” في كل الولايات لتعريف النساء بأشكال العنف بالبيت أو بالعمل، وتذكيرهن بحقوقهن وتنظيمهن. وينظم المعهد ذاته النساء من أجل حصولهن على القروض الصغيرة العمومية، التي تتيح لهن أن يصبحن فاعلات مستقلات اقتصاديا.

حقوق الإنسان والديمقراطية في صلب المشروع البوليفاري باعتبار اشتراكية القرن العشرين قد فشلت لغياب الديمقراطية والمشاركة المباشرة.

من هنا كانت الانتخابات الأخيرة أنموذجا للنزاهة والشفافية، حيث استعمل التصويت الإلكتروني المعزز بالبصمات المميزة لكل صوت والمدقق بصناديق موازية من أجل تصويت بالورق بحضور ممثلي الشعب والمرشحين في كل مركز أثناء التصويت والفرز والتدقيق.

وقد كانت هذه الانتخابات نصرا لفكرة السلطة الانتخابية المستقلة التي تتجاوز في مصداقيتها وأمانتها الأنموذج الغربي، ولاستعمال الوسائل التقنية الحديثة لتعزيز الديمقراطية.

لا شك أن التجربة الفنزويلية تعيش أصعب لحظاتها كونها تشهد حالة انتقال حرجة تحمل العديد من المجاهيل، فقد ورث هوغو شافيز بلدا يعيش منذ 40 عاما من ريع البترول الذي يمثل 50% من مداخيل الضريبة و80% من الصادرات، ورغم الغنى الطبيعي تستورد 70% من حاجاتها الغذائية.

مع ذلك هي خامس مصدر عالمي للبترول وتقدير مواردها المنجمية اليوم يفوق حاجات شعبها، وقد وضعت أسس دولة قانون تحترم الحقوق الإنسانية الستة (اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية ومدنية وبيئية) وأعادت الثقة بالعمل السياسي والمشاركة لملايين البشر، ويمنحها غياب الإيديولوجية المغلقة القدرة على الابتكار والتجديد رغم كل العقبات الداخلية والتحديات الخارجية.

من المثير للانتباه في أوساط التغيير اللاتينية أنها لا تعاني من أي عقد، وهي مازالت بعيدة عن مجموعات الضغط الأوربية أو الأميركية الشمالية، حيث تقبع هذه المجموعات في معسكر مضاد للتغيير بحكم مصالحها وارتباطاتها بعقلية الهيمنة الأحادية.

لذا نجد معسكر التغيير هذا أقرب للقضايا العربية وأكثر تفهما لمعاناة شعوب الجنوب وأكثر قدرة على بناء جسور الحوار التشبيك والتنسيق مع تعبيرات المقاومة المدنية المختلفة في العالم العربي.

أما آن الأوان للمثقفين والحقوقيين والديمقراطيين العرب لأن يخرجوا من المرجعية الفكرية شبه الآلية للأنموذج الغربي للديمقراطية والمرور مباشرة إلى بلدان القارة الأميركية اللاتينية التي تعج بتجارب غاية في الأصالة لا تحمل عقد نقص أو زيادة ولا تحتاج لورقة حسن سلوك من أحد؟

 الجزيرة نت 2007