بدأت الحقبة الذهبية الأولى للعولمة في بداية القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الأولى، وقد شهدت انتعاشا لما سمي “النظرية الاقتصادية” وقتئذ. لم يعد السؤال يومها عن قدرة الرأسمالية على التقدم، باعتبارها أمرا واقعا أخرجه الاستعمار والاستغلال العالمي من إطار المجتمع الأوربي والشمال أمريكي إلى مختلف أصقاع الأرض. لذا؛ كان من المضحك عند المؤرخين الاقتصاديين حديث فوكوياما عن نهاية التاريخ، وقد تحدث أتباع “النظرية الاقتصادية” في “المشروعية الأزلية للرأسمالية” قبل ولادته بأجيال، بل ومنذ النصف الأول من القرن التاسع عشر، اعتبرها أكثر من اقتصادي بريطاني تعبيرا عن “نهاية التاريخ”.
منذ ثورة أكتوبر 1917 وحتى تفتت الاتحاد السوفييتي في مطلع تسعينيات القرن العشرين، تغيرت معالم التقسيم العالمي للثروات والنفوذ، واهتزت أركان ما سمي تجاوزا بالنظام البريطاني. دور الدولة في السياسات الاقتصادية لم يعد وفق مسلمات “الحقبة الذهبية الأولى”، هزت حركات التحرر الوطني أركان المنظومة الإمبريالية التقليدية، ورغم تباعد الفضاءات عن نفسها، تقاطعت الحركات الاجتماعية والمدنية في أوروبا مع المطالب الوطنية في الدول التي همشتها “المنظومة العالمية” World-System. صار التحديث والتصنيع هدفا للعديد من الدول الحديثة الاستقلال، وبالوقت نفسه تقدمت الحركات النقابية والمدنية والتقدمية، الأوروبية وغير الأوروبية، على صعيد حقوق أساسية مثل حقوق العمل وقوانين العمل وحق التعليم والصحة والضمان الاجتماعي، وإقامة نظم إدماج للنساء في الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
كانت الرأسمالية المالية الأوربية المتضرر الأكبر من هذه التغييرات؛ فقد ترك الجنيه الإسترليني في ثلاثة عقود وحربين عالميتين (1914 ـ 1944)، السيادة المالية للدولار والقيادة الأمريكية للمؤسسات المالية الجديدة، وبدا واضحا أن أسطوانة الحرية لم تعد تتعدى عمليا اقتصاد السوق. وفي مسيرتها للهيمنة والسيطرة على السوق، لم تمتنع الولايات المتحدة عن دعم ديكتاتوريات عسكرية دموية في بلدان الجنوب لمواجهة الحركات السياسية والاجتماعية في بلدان الجنوب، وما زالت دماء أليندي ولومومبا… لم تجف في سجلاتها.
في معسكر ثنائية القطب المقابل، كان التدخل العسكري السوفييتي في أفغانستان أول مؤشر على تصدّع سياسة الحزب الواحد والاقتصاد “المخطط”، وشكل تفكك الاتحاد السوفييتي نهاية حقبة، ولكن أيضا، درسا كبيرا للصين الشعبية التي اختارت الإنتاجية واقتصاد السوق جزءا مهما من استراتيجية بناء قوة عظمى من داخل المنظومة الجديدة، وعلى حسابها.
جاءت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا لتضع المنظومة الاقتصادية الدولية برمتها على محك البقاء. حيث أخرجت الحرب كل طفيليات المستنقع إلى السطح، فالعقوبات الاقتصادية القياسية للدول السبع الأغنى في العالم على روسيا، دفعت السلطات الروسية إلى خطوات، طالما رفضت خلال ثلاثة عقود، بتأثير الأوليغارشية الروسية المستثمِرة في الغرب، القيام بها.
لم يكن تفكك المعسكر السوفييتي انتصارا للأنموذج الأمريكي ـ الغربي، إلا أن العمر الزمني للهيمنة الأمريكية كان أوفر حظا لاحتلال الفراغ الناجم عن نهاية الحرب الباردة، وتثبيت العولمة النيوليبرالية في الموقع الأقوى على الأصعدة كافة، وكما ذكّر المفكر الاقتصادي سمير أمين منذ ربع قرن في حديثه عن معالم هذه العولمة: الخصخصة، “الانفتاح”، الصرف العائم، تخفيض مصروفات الدولة، إلغاء التقنين deregulation، إطلاق مطلق الحرية لفعل الأسواق وأيضا، رهن الدول الضعيفة بالمديونيات الفائقة… أي الاستثمار الأقصى في حقبة محدودة الآجال، باعتبار هذا الاستثمار هو الوسيلة لديمومتها.
لكن هذه السياسات، المسيطر عليها من نظام رأسمالي أمريكي القرار (يمسك برقبة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وسيادة الدولار)، لم تنصّب الولايات المتحدة على عرش الاقتصاد العالمي وحسب، بل جعلت العولمة النيو ليبرالية تحفر قبر توسعها بيدها: فإفيون السيطرة الهجينة يفقد بالضرورة حس البصيرة وبعد النظر.
بعد مؤتمر دافوس هذا العام، كتب الاقتصادي جوزيف ستيجليتس Joseph Stiglitz الحائز على جائزة نوبل ومؤلف كتاب “إنجاح العولمة Making Globalization Work”، مقالا في الاتجاه المعاكس بعنوان: الحق في الخروج من العولمة Getting Deglobalization Right.
لا يغيب عن الخبير الاقتصادي الأمريكي أن كلمة Deglobalization (إزالة العولمة) قد دخلت القواميس الاقتصادية والعامة قبل مقالته بأكثر من عشرين عاما، وأن باحثا من البلدان التي همشتها العولمة النيو ليبرالية (الفيليبين)، قد أمضى ليال بيضاء طويلة، في تأصيل هذا المفهوم قبل عتاة “العصف الذهني” في الغرب، ووضع لبنات تأصيل هذا المفهوم عالميا في كتابه: “إزالة العولمة، أفكار لاقتصاد عالمي جديد”.
فمنذ وقت مبكر، وفي تحليله للأزمة المالية الآسيوية لعام 1997، كتب والدن بيلو Walden Bello؛ “إن إزالة العولمة ليست مرادفا للانسحاب من الاقتصاد العالمي. إنها تعني عملية إعادة هيكلة النظام الاقتصادي والسياسي العالمي، بحيث يبني الأخير قدرة الاقتصادات المحلية والوطنية بدلا من إضعافها. إزالة العولمة تعني تحول الاقتصاد العالمي من اقتصاد متكامل حول احتياجات الشركات المتعددة الجنسيات إلى اقتصاد متكامل حول احتياجات الشعوب والأمم والمجتمعات”. وفي الفترة التي نال فيها عدد من أنصار العولمة النيو ليبرالية جائزة نوبل، حصل والدن بيلو في 2003 على “جائزة نوبل البديلة”، في وقت كان العالم يتابع فيه ثالث مغامرة عسكرية للولايات المتحدة الأمريكية في العراق بعد الكوسوفو وأفغانستان.
في كتابه “العولمة غير السعيدة”The Unhappy Globalization ، عرّف عالم السياسة توماس جينولي Deglobalization (إزالة العولمة)، التي أسماها “النظام المتغير” بالقول: “أية مبادرة، أي مشروع، أي برنامج سياسي، يكون هدفه رفاهية أكبر عدد من البشر، يتوافق مع أو يساهم في الحفاظ على النظام البيئي الكوكبي، يضعف الأوليغارشية المالية أو يمتنع عن تقويتها”.
شكلت سنوات الاحتجاج الواسعة لما يعرف باسم الحركة المضادة للعولمة Anti-Mondialisation المكونة من ائتلاف واسع من المنظمات والأشخاص، واحدة من أهم أصوات التغيير في ربع القرن المنصرم، وشملت المنظمات المدافعة عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، ورغم استهدافها مظاهر الغبن والتفاوت والتهميش لبدان وشعوب، والظلم المجتمعي، والخراب البيئي، وعقلانية أطروحاتها وراهنيتها، فقد تعرضت للضرب والاستهداف وتشويه الصورة العامة. حتى أصوات الاحتجاج المؤسسية في الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية بين الحكومية، لم تستطع تثبيت أقدامها في مواجهة “السيل العولمي”: مَن تَوَقّف من الحكومات والشركات مثلا عند تقرير UNDP في 2016 حول “الإنسانية المقسمة” الذي يتناول اتساع اللا مساواة بين البشر بشكل لا سابق له؟ ألم يرفض السيد غوتيريس التقرير الذي أعددناه للإسكوا حول “الظلم في العالم العربي والطريق إلى العدالة” في 2017؟ ألم تقابل كل اقتراحاتنا في المؤسسات الأممية من أجل ميثاق دولي لحق التنمية بالرفض؟
لم يكن تفكك المعسكر السوفييتي انتصارا للأنموذج الأمريكي ـ الغربي، إلا أن العمر الزمني للهيمنة الأمريكية كان أوفر حظا لاحتلال الفراغ الناجم عن نهاية الحرب الباردة، وتثبيت العولمة النيوليبرالية في الموقع الأقوى على الأصعدة كافة
رغم أن تقارير التنمية الدولية تؤكد أن “جوانب معينة من العولمة، مثل التكامل المالي غير المنظم بشكل كاف وعمليات تحرير التجارة، التي تم توزيع فوائدها بشكل غير متساو عبر البلدان وداخلها، الزيادة الهائلة في مديونيات الدول الضعيفة، التصحر والخراب البيئي، واستخدام العقوبات الاقتصادية سلاحا سياسيا إلخ.. كانت توضح الاتجاه التصاعدي لغياب المساواة الذي لوحظ على مدى العقود الماضية… لم تتخذ الأمم المتحدة أو الدول الأقوى في منظمة التجارة العالمية، أي إجراء يمكن أن يخرش السياسات العولمية النيو ليبرالية؟ بل سعت الدول صاحبة القرار، كلٌ من منظار مصالحه المباشرة الضيقة، لاستمرار مسيرة العولمة النيو ليبرالية، ولو أضحت عرجاء.
رغم نتائجه الكارثية على الدول الفقيرة، لم يتوقف “النظام الاقتصادي العولمي” عن السير بعناد نحو حتفه، ولم تستطع الحركة المدنية والحقوقية وأنصار العدالة والبيئة زعزعة بلدوزر اقتصاد السوق، كشفت الأزمة المالية الدولية لعام 2008، عن سقف وحدود النظام الاقتصادي العالمي السائد، لكنها لم تكن كافية لوقف مسيرته. ويمكن القول اليوم؛ إن الفضل يعود إلى الكائنات غير المرئية المسماة بالكوفيد 19 في وضع حدّ لمسيرة عولمة تعتبر حقوق ملكية اللقاحات وتجارتها، أهم بكثير من حق الحياة والصحة للبشر.
وكما في كل ضارة نافعة، جاءت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا لتضع المنظومة الاقتصادية الدولية برمتها على محك البقاء، حيث أخرجت الحرب كل طفيليات المستنقع إلى السطح، فالعقوبات الاقتصادية القياسية للدول السبع الأغنى في العالم على روسيا، دفعت السلطات الروسية إلى خطوات، طالما رفضت خلال ثلاثة عقود، بتأثير الأوليغارشية الروسية المستثمِرة في الغرب، القيام بها. سواء كان ذلك على صعيد الخروج من إمبراطورية الدولار المالية، أو بناء الهياكل الموازية القادرة على منع انهيار الاقتصاد الروسي، بالتعاون مع دول البريكست. قررت دول “الحديقة الخلفية” للمنظومة العالمية أن تخوض مغامرة عالم متعدد الأقطاب، ليس فقط بالمعنى الجيو سياسي، وإنما أيضا بالمعنى الجيو اقتصادي.
هكذا تحول منتدى دافوس، الملتزم تقليديا بمناصرة العولمة إلى الانشغال لأول مرة منذ ولادته، بإخفاقات العولمة: سلاسل التوريد المعطلة، وتضخم أسعار الغذاء والطاقة، ونظام الملكية الفكرية الذي ترك المليارات بدون لقاحات COVID-19 تماما. لأن عددا قليلا من شركات الأدوية يمكن أن يكسب المليارات من الأرباح الإضافية إلخ. لكن وكما ينوه الاقتصادي جوزيف ستيجليتس، صار من الضروري الاستجابة لهذه المشاكل “بإعادة التوطين” أو الإنتاج في “الشواطئ الصديقة” وسن “سياسات صناعية لزيادة قدرات البلدان على الإنتاج”. “لقد ولت الأيام التي كان يبدو فيها أن الجميع يعملون من أجل عالم بلا حدود؛ فجأة، يدرك الجميع أن بعض الحدود الوطنية على الأقل، هي مفتاح التنمية الاقتصادية والأمن”.
يخفف ديفيد باخ، خبير الاقتصاد السياسي في لوزان، من “عواقب” التوجه العالمي الجديد بالقول: “شهد تاريخ العولمة دوما، نوعا من لعبة شد الحبال بين المؤيّدين لعولمة تتسم بالاندماج والانفتاح على نطاق عالمي أوسع والمعارضين لها؛ تماما كما حدث في تاريخ التجارة الحرة”، ويضيف قائلا: “في الوقت الراهن، من الواضح أن القوى التي تدفع باتجاه إلغاء العولمة أقوى؛ لأن هذه القوى ليست مجرد ديماغوجيين وشعبويين. إن اضطرابات سلاسل التوريد التي أحدثتها الجائحة وفاقمت من تداعياتها الحرب الدائرة رحاها اليوم، هي اضطرابات حقيقية لا شك فيها”.
يطالب باسكال لامي ونيكولاس كوهلر سوزوكي بخطوات “تعجيزية” لمنظمة التجارة العالمية لمواجهة التراجع، منهيان دراستهما بالقول؛ “إن عواقب التراخي وخيمة إذا فشل أعضاء منظمة التجارة العالمية في التحرك بسرعة، فقد يصبح تراجع العولمة نبوءة تتحقق من تلقاء نفسها.”
في النظم الدكتاتورية، كما تقول حنا أرندت، كل شيء على ما يرام حتى الربع ساعة الأخيرة. يمكن القول إن هذه الحكمة صحيحة في الاقتصاد أيضا، ولن تُستثنى منها دكتاتورية الدولار.
*مفكر وحقوقي