انطلقت انتفاضة 18 آذار/مارس 2011 من مدينتي درعا… وشكلت شعاراتها الأولى تعبيرا راقيا للمقاومة المدنية: لا استبداد ولا فساد، لا إخوان ولا سلفية بدنا دولة مدنية… لعلها أول انطلاقة تاريخية من الريف تتمسك بالسلمية (ولو قتلوا كل يوم مية..).
منذ شهر نيسان، وردا على توريط السلطة للجيش السوري في الأحداث، أطلقت ثلاثيةً للرد على الحل الأمني العسكري الذي واجهت به السلطة الحراك المدني: لا للعنف، لا للطائفية، لا للتدخل العسكري الخارجي. وقد وقف تيارنا الديمقراطي المدني في مواجهة عسكرة الصراع التي كنا على قناعة بأنها لا تغطي على بشاعة الحل الأمني العسكري وحسب بل وتزيده وحشية وتختزل حركة الاحتجاج المليونية المدنية والمتحضرة في مجموعات مسلحة ملوثة بالتطرف والمذهبية والتبعية الخارجية.
بعد شهرين من الحراك، أطلقت السلطات السورية سراح الجهاديين السلفيين المعتقلين في سجن صيدنايا (الذين أسسوا جيش الإسلام وأحرار الشام وصقور الشام..) في وقت اعتقلت فيه المئات من مناضلي المقاومة المدنية.
في النصف الأول من شهر آب 2011 اغتالت السلطة شقيقي معن العودات وجهاد شلهوب وعشرات المناضلين السلميين في دوما ودرعا ودمشق وحمص… ورغم الألم وعمق الجرح حافظنا على موقفنا الثابت من مدنية وسلمية المواجهة وضرورة التغيير الديمقراطي الجذري في البلاد.
وصلت إلى القاهرة في نهاية شهر سبتمبر مع اثني عشر قياديا من هيئة التنسيق الوطنية في مقدمتهم عبد العزيز الخير ورجاء الناصر وصالح مسلم (1) لمباشرة حوار مع المجلس الوطني السوري استمر ثلاثة أشهر. إلا أن الاتفاق الذي وقعناه في 31/12/2011 لم يصمد 24 ساعة. وصار معروفا أن التدخل المباشر لحمد بن جاسم، وزير الخارجية القطرية وقتها، والذي اعتبر الاتفاق سلميا ورخوا، كان وراء دفنه قبل أن يرى النور.
لقد حرصنا على رفض بيع الوهم لمواطنينا، وقلنا لمن طلب منا تحضير حقائب العودة بأن قصتنا طويلة. وجرى تخويننا وتوجيه كل التهم لنا لأننا طالبنا بالتوقف عن إسطوانة الأساطير الثلاثة عند السلطة والمعارضة المسلحة (تغيير موازين القوى، المطالبة بأسلحة نوعية والنصر العسكري).
خلق التطبيع مع فكرة التدخل العسكري الخارجي حالة جذب لا سابق لها لكل شذاذ الآفاق للقدوم إلى سورية والقتال مع طرفي الصراع. وها نحن بعد أربعة أعوام من نداءات “الجهاد” و”المقاومة” أمام قرابة ستين ألف مقاتل غير سوري على الأراضي السورية في مختلف الجبهات.
لقد فاقت تكاليف الهدم في البنيات التحتية والدمار البشري والمادي 300 مليار دولار، وأصبح أكثر من 55 بالمائة من المواطنين خارج بيوتهم. لدينا قرابة مليون جريح ومعاق، وقد تجاوز عدد القتلى 300 ألف إنسان.
نظمنا في 30-31 يناير 2013 مؤتمرا في جنيف “من أجل سوريا ديمقراطية ودولة مدنية” بمشاركة أكثر من 200 ديمقراطي علماني ينتمون لقرابة 30 حزبا ومنظمة مدنية. وقد وجهنا انتقادا واضحا للائتلاف السوري التي أعلن أن لا حوار ولا تفاوض. متناسيا أن التفاوض وسيلة متمدنة لحل النزاع دون كلفة التصنيف أو الاعتراف بالآخر. ودافعنا عن حل سياسي يعتمد “بيان جنيف”.
جاء اجتماع كيري-لافروف بعد شهرين من مؤتمرنا ليعيد الحياة لبيان جنيف ويفتح الطريق أمام مؤتمر جنيف 2.
ورغم الرعاية الروسية الأمريكية والدعم الدولي للمؤتمر إلا أن مؤتمر جنيف 2 قبل عامين فشل بسبب سوء التحضير وقضايا تتعلق بتمثيل المعارضة ورفض النظام السوري القيام بإجراءات بناء ثقة ومناقشة موضوع هيئة الحكم الإنتقالي قبل مناقشة ملف الإرهاب.
أعطى فشل مفاوضات جنيف 2 في 2014 تقدما للمنظمتين الإرهابيتين داعش والنصرة على الأرض وتمكنتا من السيطرة على أكثر من 40 بالمئة من الأراضي السورية. مع تدّخل إيراني متضخم ومتعدد الأشكال… ولكن أيضا زيادة في الهدم والقتل والحصار والتهجير الذي شمل ملايين السوريين.
صعد ملفا الإرهاب والتغريبة السورية إلى السطح، وكان الرد الغربي بتشكيل تحالف دولي ضد الإرهاب تبعه بعد عام التدخل العسكري الجوي الروسي المباشر. ولم يعد بوسع الطرفين الروسي والأمريكي الاستمرار في سياستهما العسكرية الفجة دون طرح الحل السياسي كضرورة عاجلة.
حتى لا نكون مجرد بيادق في قرارات دولية تفرض علينا، قمنا بتنظيم مؤتمر المعارضة السورية من أجل الحل السياسي (القاهرة 9-10 حزيران). وقد وضعت أمام السيد ستافان دي ميستورا المبعوث الأممي وفريقه مشروع خارطة الطريق المعدة للمؤتمر قبل إقرارها بخمسة عشر يوما. وقد تحدث وفدنا عن ضرورة صدور قرار من مجلس الأمن يخرجنا من العموميات ويضع مختلف الأطراف أمام واجب الإلزام والإلتزام وأجندة زمنية واضحة. سأل السيد ديميستورا: قرار مجلس أمن، ما مرتكزاته؟ فتح الدكتور وليد البني الجالس على يميني تلفونه النقال وبدأ بقراءة مشروع قرار لمجلس الأمن.
ولد تفاهم فيينا من اتفاق لافروف-كيري. وكانت نتائج الاجتماع الأول غير مشجعة لأي من أطراف المعارضة. وقد قامت لجنة متابعة القاهرة باتصالات مكثفة في القاهرة وبرلين وجنيف وفيينا في محاولة لإعادة شئ من التوازن يقرب فيينا من بيان جنيف. وقد توصلنا بمساعدة عدد من البلدان الصديقة وفي مقدمتها مصر إلى تحديد الخسائر في بيان فيينا 2.
جاءت الضربة الأولى من مؤتمر الرياض الذي فشلت المملكة في جعله تمثيليا ووازنا وأبعدت عنه أطرافا هامة وهمشت أخرى. تبعها التقاعس في إنجاز مهمة تصنيف المنظمات المقاتلة في سورية. التقيت نائب وزير الخارجية الروسية غينادي غاتيلوف في جنيف وفهمت منه أن مؤتمر نيويورك سيعقد في حال التوافق قبله على قرار لمجلس الأمن خاص بسورية.
ولد “مجلس سوريا الديمقراطية” في العاشر من ديسمبر 2015 في مؤتمر عقد في محافظة الحسكة. وقد أيد المجلس بعد أسبوع من ولادته قرار مجلس الأمن 2254. وقد وجهت رسالة شكر للسيدين لافروف وكيري والأمين العام للأمم المتحدة شاكرا لهم جهودهم في تسريع وتيرة الحل السياسي. وفي الأول من يناير 2016 وجهت رسالة إلى رئيس مجلس الأمن (ممثل الأورغواي) والسيد بان كي مون مطالبا إياهم بضرورة وجود وفد أو أكثر للمعارضة السورية يحقق سمة “الوازن والتمثيلي” كما جاء في “بيان جنيف”، ويشمل منتدى موسكو ومؤتمري الرياض والقاهرة كما نص قرار مجلس الأمن. وتبعت ذلك برسالة مفتوحة لمجلس الأمن والأمين العام تطالب بتفعيل المواد 10 إلى 14 من قرار مجلس الأمن المتعلقة بإجراءات بناء الثقة.
في لقاء زيوريخ بين كيري ولافروف في 20/-1/2016 دافع الأخير عن فكرة توسيع وفد الرياض بخمسة أسماء من مؤتمري القاهرة وموسكو، ثلاثة منهم من مجلس سوريا الديمقراطية. وفي حال الرفض، تشكيل وفدين مستقلين للمعارضة في مباحثات متعددة الأطراف.
اتصل بي عدد من السفراء الغربيين يحذرون من مخاطر استعمال وفدنا من قبل الطرف الروسي. من جهتها، وجهت الخارجية السويسرية الدعوة لخمسة منا للاجتماع في لوزان في 26 يناير من أجل تشكيل قائمة مشتركة لكل الذين تم إبعادهم عن مؤتمر الرياض. قبل انعقاد اجتماع لوزان بيومين، طلب السيد لافروف من السيد ديميستورا توجيه الدعوة لقائمة منتدى موسكو. فأرسل ديميستورا في 25 يناير عشرة دعوات مستثنيا خمسة أسماء من المواطنين السوريين الكورد. أعلنت على الفور بأنني “أرفض احتساء الشوربة الروسية”.
بعد نقاشات بين السوريين المدعوين إلى لوزان تم الإتفاق على تشكيل قائمة جديدة من 15 أساسيا وخمسة عشر احتياط ولجنة إشراف على الوفد الذي أطلقت الأمم المتحدة عليه اسم وفد القاهرة-موسكو وأسميناه وفد العلمانيين الديمقراطيين. وقد جاء في اليوم الثاني السيد أليكسي بورودافكين لتناول العشاء معنا وبارك اتفاق لوزان. في 28 أعلمنا نائب السيد ديميستورا أن علينا أن ندخل الصالة بدون رفاقنا الكورد فعبرت عن احتجاجي الشديد على هذا الموقف. مساء اليوم نفسه حاول السيد غاتيلوف إقناع صالح مسلم بقبول التغييب على وعد الدخول في الجلسات اللاحقة فأعلمه بأن القرار جماعي وليس شخصي، طلب السيد غاتيلوف اللقاء صباح اليوم التالي فذهبت ليكرر على مسامعي الخطاب نفسه، أجبته بحدة: هل هذا موقف روسيا، قال لا، قلت له وليست هذه قناعة الأمريكان أيضا، نحن لا نتلقى الأوامر من رجب طيب أردوغان. ولا يمكنكم أن تفرضوا علينا أي شرط. وغادرت القاعة.
بكل أمانة وشفافية، كنت أرى الفشل منذ بدء الإتصالات والدعوات. فالإجابة على السؤال (من يعمل ماذا؟) في هذه المفاوضات كان ملتبسا، وقد تراكمت الأخطاء ولم يتم التدارك منذ البدء:
1- لم يجر تحريك الملف المتعلق بمجلس الأمن والأمين العام في المواد 10-14 قيد أنملة.
2- من المفترض أن استراتيجية التفاوض وترتيباته من صلاحيات السيد ديميستورا إلا أنه عهد بالأساسي منها للإملاءات الروسية الأمريكية.
3- بقي طابع المفاوضات (ثنائية أم متعددة الأطراف) غامضا وكذلك دور الوفد الثالث وصفته. فقد تم الحديث مع كل طرف بما يرضيه حرصا على عدم انسحاب أحد.
4- فرضت التوافقات الروسية الأمريكية على الجميع: مشاركة “أحرار الشام” و”جيش الإسلام”، الفيتو التركي على وجود الكورد في الوفد الثالث، تغييب موضوع التقدم الميداني للجيش السوري وحلفائه بدعم جوي روسي، إشكاليات إجراءات بناء الثقة الحقيقية…
5- في الجهة المقابلة، جلس الوفد الحكومي على مقعد فاخر مكتفيا بطرح الأسئلة حول القضايا الإدارية والتنظيمية.
6- كان غياب استراتيجية واضحة للتفاوض قاتلا لانطلاقة المباحثات. ومن المأساوية بمكان أن يكون النقاش حول موضوع الأولوية: الملف الإنساني أو السياسي قد نوقش بين ديميستورا ورياض حجاب قبل عشر دقائق تقريبا من تعليق المفاوضات.
مباحثات حضّرت على عجل، وعلى قاعدة تراكم الأخطاء، والتخطيط تحت الوصاية، مُسيّرة بالقطعة، هاتف من هذا الطرف وطلب أو ضغط من ذاك… كل هذه التفاصيل أعطت انطلاقة رديئة الإعداد والإخراج.
في حال تم التأكيد على استئناف المفاوضات في 25 الجاري، يفترض إعادة النظر في المنهج والأسلوب والتنظيم والمنطلقات، حرصا على عدم ضرب العملية التفاوضية في مهدها.
——————
1) اختطفت السلطات السورية الدكتور عبد العزيز الخير مع المهندس إياس عياش والشاب ماهر طحان عند عودتنا من زيارة رسمية للصين في 20/09/2012. واختطفت أجهزة الأمن المحامي رجاء الناصر عند خروجه من الهجرة والجوازات في قلب العاصمة دمشق في 20/11/2013. غادر صالح مسلم دمشق بعد صدور مذكرة توقيف بحقه في الفترة نفسها.
2) تشكل مجلس سوريا الديمقراطية في 10/12/2015 إثر اجتماع في محافظة الحسكة أكثر من 22 تنظيما من المعارضة السياسية وقرابة 14 منظمة مدنية وإنسانية، ومشاركة المتحدث باسم قوات سوريا الديمقراطية.
—————–
هيثم مناع: مؤسس تيار قمح والرئيس المشترك لمجلس سوريا الديمقراطية.
الميادين 9/02/2016