جاء في مجلة “أممية مبدعي الأوضاع”، أكثر الأطراف جذرية في أحداث فرنسا 1968 وأقلها عددا وعدة: “تعيش السلطة من بيع المسروقات الخفية، فهي لا تبدع شيئا وتستولي على كل شيء وتحتويه. ولو كان لها أن تبدع معنى الكلمات لصار الشعر في خبر كان، ولما بقي غير “الإعلام” المفيد.. لا تعطي السلطة للكلمات إلا هويتها المزيفة. إنها ترغمها على حمل جواز مرور وتحدد لها مكانتها في الرؤوس … في ظل رقابة السلطة يدل الكلام دوما على شيء مغاير لما نحياه.. تضارع هيمنة السلطة على اللغة هيمنتها على كل شيء. وحدها اللغة التي أضاعت أي استحضار ثائر للحياة في شمولها، تستطيع أن تكون حجر أساس للإعلام. الإعلام هو شعر السلطة، إنه التزوير وقد بات وسيلة لما هو قائم”.
لم تعط الماركسية الأولى لقضية الإعلام ما تستحق من النقد، خاصة وأن الدمامل التي سببتها للرأسمالية جاءت من تفكيك المنظومة الرأسمالية ونقدها أكثر منه مما أطلق عليه فريدريك إنجلز “أحد تعبيرات البنية الفوقية”. “الصحفي” المتمرد كارل كراوس كان من أوائل من شرح آلية توظيف المطبعة في تزوير الوعي عبر الإعلام، وكتب في ذلك رسالة “ضد الصحافة”. أما المدرسة الدادائية ومن ثم السريالية فقد اعتبرت إعلام السلطة، مالية كانت أو سياسية، وسيلة تزوير علنية لوعي الناس الفردي والجماعي. وقد أعطت مدرسة فرانكفورت للفكر النقدي حجما هاما لنقد الآلة الإعلامية الجهنمية التي تحولت في نظرها إلى صناعة لتزييف الوعي وقولبته.
في خضم الحرب العالمية الثانية، نشرت “المجلة الجديدة” في مصر مقالة بعنوان “فن الدعاية كما وضعه هتلر في كتاب كفاحي”. ومن الاستشهادات الواردة للفوهرر الألماني: “الدعاية سلاح جبار في يد من يستطيع حمله، ولا يصلح لذلك إلا الخبير بدقائق النفس الإنسانية العارف بخفاياها وأسرارها”. “وظيفة الدعاية الأساسية هي الإيحاء إلى الناس بأن يموتوا”. “الجماهير هي شراذم وأفواج من الناس لا قدرة عندهم للفهم ولا صبر لديهم لتحريك الأفكار وتنشيط العقول ولا يملكون سوى الشك والارتياب… طبيعة الجماهير عاطفية وأمزجتهم تتلون دائما بألوان الشعور والانفعال.. الدعاية الناجحة هي التي تقدم إلى الجماهير في أساليب سهلة مستساغة.. من خصائص الجماهير أنها قليلة الفهم ضعيفة الذكاء ولكنها سريعة النسيان.. عقلية الجماهير تصدق الكذبة الكبيرة قبل الكذبة الصغيرة.. معظم القراء لا يكلفون أنفسهم مشقة فحص وتمحيص ما يقرأون من أخبار وهم بهذا يصدقون كل شئ..”.
لعل ستالين وهتلر من أوائل المعلمين في الأداء الإعلامي لعبادة الشخصية وتمجيد الحاكم وتأليه السائد وتحقير محاولات الخروج عن المنظومة وتعميم البلاهة. وكون الثورة المعلوماتية، أي الثورة المفترض أن تسمح لكل إنسان بتداول أية معلومة، قد سخّفت مهمة وزارة الإعلام، صار من الضروري تقييد وحجب ومنع واعتقال ومعاقبة من يستعمل هذه الآلات الجهنمية للتعبير حفاظا على “الذوق العام” وعدم الشعور بالدونية عند وزراء الإعلام. لكن ما هي البضاعة التي تعرض علينا من قبل عقلية وزارة الإعلام (نقول عقلية ولا نتحدث فقط عن مؤسسة، لأن دونالد رامسفلد كان يتصرف كوزير إعلام في بلد دكتاتوري وكذلك تتصرف عدة شركات إعلامية غربية)؟ لنأخذ مثلا موقع وزارة الثقافة والإعلام في المملكة العربية السعودية في يوم عشوائي (15/11/2008) نجد: ستة أخبار حول الملك، ثلاثة حول نائب الملك، واحد تسليم تمور مساعدة للسودان، وواحد ورقة عمل سعودية لمؤتمر البريد الدولي:
(خادم الحرمين يشارك في القمة الاقتصادية، خادم الحرمين يشكر رئيس ومنسوبي البريد السعودي، الملك يأمر بزيادة مكافأة المبتعثين 50%، ورقة عمل سعودية إلى مؤتمر البريد الدولي في شرم الشيخ، نائب الملك يرعى غدا افتتاح المؤتمر الدولي للموارد المائية، خادم الحرمين الشريفين : كفانا ما حصل من قتل وعداوة، خادم الحرمين الشريفين يستقبل بوش بمقر إقامته بنيويورك، القيادة (المقصود الملك ونائبه) تهنئ رئيس اتحاد ميانمار بذكرى اليوم الوطني، نائب خادم الحرمين يتلقى اتصالا من الرئيس اليمني، المملكة تسلم الحكومة السودانية 200 طن من التمور، انطلاق مؤتمر ثقافة السلام وحوار الأديان بكلمة خادم الحرمين الشريفين.)
طبعا، المجتمع السعودي يتأمل ويتابع باهتمام شديد جدا هذه المبادرات العبقرية لحكامه المصونين. وفي هذا اليوم لم يقم أحد من ملايينه، مواطنين وأجانب، بأي نشاط يستحق وسام الإشارة من الوزارة.
هناك اكتشاف آخر سمحت لي بملاحظته نباهة الإعلام الرسمي السوري، فإن كانت أوربة ترتعش من نتائج الأزمة الاقتصادية الأخيرة، بل حتى الصين الشعبية ستتأثر بالزلزال الاقتصادي العالمي ولو بشكل محدود كما يقول الخبراء، فسورية هي الأنموذج الوحيد في العالم الذي لا يقع فقط خارج نطاق التأثر، وإنما يعيش في ثلاجة واقية من كل الأزمات. ففي تصريحات لرئيس الوزراء السوري حول اقتصاد البلاد، نجد صلابة فولاذية للاقتصاد السوري تحول دون كلمة واحدة عن إمكانية تعديلات ولو بسيطة في السياسة الاقتصادية المحلية نتيجة سقوط ليمان بروذر وسيتي بنك وجنرال موتورز واحتمالات تغييرات أساسية في السياسة الاقتصادية العالمية. يقول الإعلام الرسمي عبر سانا والصحف الحكومية في 27/11/2008:
“قدم المهندس محمد ناجي عطري رئيس مجلس الوزراء خلال الاجتماع عرضا اقتصاديا تناول فيه حصيلة العمل الحكومي وما تم انجازه على صعيد استكمال برامج الاصلاح الاقتصادي والمالي والنقدي وما تحقق في مجال تنفيذ الخطط التنموية ومشاريعها الاستثمارية والخدمية خلال عام 2008. وقال عطري أن المعطيات الاولية تشير الى استمرار النمو الاقتصادي فوق معدل 6 بالمئة في عام 2008 وقد ازدادت قيمة الناتج المحلي الاجمالي بالاسعار الثابتة لعام 2000 من 1151 مليار ليرة سورية في عام 2005 الى 1211 مليار ليرة سورية في عام 2006 لتصل الى 1288 مليار ليرة عام”. لا داعي لسرد أقوال رئيس الوزراء عن ارتفاع مستوى المعيشة وزيادة المرتبات وتعدد فرص العمل تفاديا لتحول خط سير الهجرة الاقتصادية السرية من أوربة إلى سورية.
منذ صعود الإعلام السمعي البصري للفضاء، وانتشار الشبكة العنكبوتية، أصبح الصوت الحر كابوس الحكام العرب، وإخراسه المهمة الأولى لوزراء أعلامهم، الذين جعلوا من الحرب على حرية التعبير قضية تضاهي في أهميتها الحرب على الإرهاب، مع الاحتماء الثعلبي بعباءة الأخيرة. وقد تعددت الوسائل لتشمل التدجين والتوظيف والملاحقة والتغريم والإغلاق والحجب واللوائح السوداء، وأخيرا وليس آخرا، الاتفاقيات الثنائية لمنع استعمال إعلام الغير لأغراض عدائية.
وتبقى المشكلة الجوهرية في أن التسطيح المنظّم للثقافة والتزييف العدواني للوعي عبر أسلحة الدمار المشار لها أعلاه، تخلق جيلا لا يملك ما يخسر، حتى على صعيد الإدراك المعرفي. وبالتالي لا يبحث عن طريق عقلاني وسلمي لما يريد.. وذلك بغض النظر عن طموحاته.
البديل المصرية 5/12/2008