يناير 12, 2025

الألغام وانتهاك الحق في الحياة والسلامة الجسدية

لم تكن سلامة الجسد موضوع إجماع فلسفي وديني. كذلك شكلت هذه السلامة واحدة من الرهانات الأساسية لمنطق القوة ودور القوة في الهيمنة بصيغها المختلفة. فالتعرض للجسد موضوع ترهيب وترغيب منذ الألواح الأثرية الأقدم. وقد تأصلت فكرة المعاقبة بالتعرض للجسد في الحضارة الفرعونية وحضارات الرافدين والحضارات الصينية والهندية القديمة والحضارات قبل الكولومبية في أمريكا وفي إفريقيا. واستعمل التعرض للجسد كوسيلة من وسائل إضعاف الأعداء وكانت فكرة إعاقة الأفراد في جبهة العدو، مدنيين كانوا أم مقاتلين ابنة منطق إضعاف العدو نفسه. وبالتالي لم تكن تلقى أي استهجان أو رفض في منظومتي القيم والقوانين السائدتين.

لا نستغرب أن يواكب هذا الصراع النظري السياسي انطلاق نضال متفرع عنه من أجل حرمة جسدية لهذا الشخص الجديد لا زالت تنتظر الاعتراف بها بعيدا في إحدى منعرجات المستقبل. كما لا نستغرب أن لا ترجع أهمّ الكتابات المعروفة للدفاع عن سلامة النفس والجسد إلاّ لعصر التنوير أيّ لبداية القرن الثامن عشر. فجملة الكتابات التي اطلعنا عليها في الثقافات الشرقية تترك هوامش واسعة ومساحات ضبابية في قضية سلامة الجسد. وقد حاولت بعض المدارس الإسلامية طرح الموضوع بقوة عبر مفهوم الإنسان الكامل الذي دافعت عنه الاتجاهات الصوفية في الإسلام وابن عربي. لكن تهميش أطروحات المتصوفة في الثقافة السائدة حدد من دورهم في حماية النفس وصيانة الجسد واعتبار الحياة حق لا يجوز للبشر التصرف به.

إنّ المهمّ في هذه المعارك الفكريّة هو وجودها نفسه. ذلك أنّها تفضح تمرّدا متصاعدا ضدّ ما بدا طوال التاريخ أمرا بديهيا، أيّ دونية الفرد. كما تبرز تواصل التحرّر السياسي المتواصل للإنسان الغربي ونضاله من أجل حقوقه السياسية والاقتصادية والاجتماعية. معنى هذا أنّ الحركة الاجتماعية في الغرب تطوّرت في نسق تزامن فيه التحرّر الديمقراطي مع بلورة الشخص كقيمة لا تقلّ عن قيمة المجموعة وتزامن فيه تبلور الشخص كقيمة لا تقل عن قيمة المجموعة مع التحرّر الديمقراطي.

لقد مهد الاعتراف بأنّ الفرد أكثر من مجرّد رقم في معادلة وأنّ له ذات وكرامة أصيلة فيه وحقوق تفرضها هذه الكرامة لاعتبار سلامة النفس والجسد حقا أساسيا من حقوقه.

لكن هل يمكن تناول سلامة النفس والجسد في السلم والحرب بنفس الطريقة؟ ألم تفشل البشرية حتى يومنا في تحريم الحرب واختارت قوننة التصرف البشري في الحرب؟ ألا ندفع جميعا الثمن في ترك الحدود غامضة بين الإصرار على حق الإنسان في السلامة الجسدية والإنتاج الواسع لأسباب الإعاقة والتشويه والإصابة. وفي وضع كهذا، ألا تأتي قضية الألغام لتكسر كل الحواجز بين الحرب والسلم، بين المدنيين والعسكريين، بين الجماعات المستضعفة والجماعات القوية ؟ حيث اللغم هو السلاح الأعمى بامتياز. ألم تنجح لوبيات السلاح وعنجهية القوة في جعل أكبر دول العالم (الولايات المتحدة، روسيا، الصين والهند) تبقى خارج الجهود الدولية لحظر استعمال الألغام؟

رغم كل القصور الذي يعانيه القانون الدولي على هذا الصعيد، هناك ترسانة منع ومقاومة تتوزع بين ثنايا الاتفاقيات والإعلانات المختلفة: فبموجب القانون الإنساني الدولي، وهو المجموعة التي تؤلف القانون الدولي الذي ينظم سلوك أطراف النـزاعات المسلحة: تحظر اتفاقيات جنيف الأربع، المؤرخة في 12 أغسطس/آب 1949 في المادة الثالثة المشتركة، الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية وبخاصة القتل بجميع أشكاله والتشويه والمعاملة القاسية والتعذيب والاعتداء على الكرامة الشخصية وعلى الأخص المعاملة المهينة والحاطة بالكرامة.

وتطالب المادة 13 من اتفاقية جنيف الثالثة “بحماية الأسرى في جميع الأوقات وعلى الأخص ضد جميع أعمال العنف أو التهديد وضد السباب وفضول الجماهير وتحظر تدابير الاقتصاص من أسرى الحرب”. وتنص المادة 146 من اتفاقية جنيف الرابعة على تعهد الأطراف السامية باتخاذ إجراء تشريعي يلزم لفرض عقوبات جزائية فعالة على الأشخاص الذين يقترفون أو يأمرون باقتراف مخالفات جسيمة للاتفاقية. وتعتبر المادة 147 من الاتفاقية عينها القتل العمد والتعذيب أو المعاملة اللا إنسانية أو تعمد إحداث آلام شديدة أو الإضرار الخطير بالسلامة البدنية أو الصحة أو إجراء تجارب خاصة أو النفي وتدمير واغتصاب الممتلكات مخالفات جسيمة.

يوسع البروتوكولان الإضافيان الملحقان باتفاقيات جنيف واللذان اعتُمدا في العام 1977، قائمة الأفعال المحظورة المحددة. يوسع البروتوكول الإضافي الأول (الذي صدقت عليه الولايات المتحدة)، الذي يتعلق بالنـزاعات المسلحة الدولية، قائمة الانتهاكات الجسيمة (المادتان 11 و85). ويؤكد من جديد حظر “الاعتداء على الحياة والصحة أو السلامة البدنية أو العقلية للأشخاص”.

يحظر البروتوكول الثاني الإضافي، المتعلق بالنـزاعات المسلحة غير الدولية، “الاعتداء على الحياة والصحة أو السلامة البدنية أو العقلية للأشخاص.

الالتزامات المحددة في اتفاقيات جنيف والبروتوكولين الإضافيين ملزمة للدول الأطراف في هذه الصكوك. وجميع الدول هي فعلياً أطراف في اتفاقيات جنيف، كما أن معظمها أطراف في البروتوكولين الإضافيين. علاوة على ذلك، ليست الدول وحدها بل الأطراف الأخرى أيضاً في النـزاع المسلح ملزمة بتطبيق أحكام المادة الثالثة المشتركة، وحيث ينطبق ذلك، أحكام البروتوكول الثاني الإضافي.

في 1998، أقر القانون الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بجريمة التعذيب في نطاق تعريفه لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. فقد نصت المادة الثامنة على التعذيب وتعمد إحداث آلام شديدة أو الإضرار الخطير بالسلامة البدنية والاعتداء على الكرامة الشخصية والمعاملة المهينة والحاطة بالكرامة باعتبارها جرائم حرب. وجاء في تعريف الجرائم ضد الإنسانية، أي هجوم واسع النطاق أو منهجي يتضمن أفعالا كالتعذيب والاغتصاب والدعارة القسرية والحمل القسري والأفعال اللاإنسانية ذات الطبيعة المشابهة التي تتعمد إحداث آلام شديدة أو الإضرار الخطير بالسلامة البدنية أو الصحة العقلية أو البدنية.

 

الألغام وتبعاتها على سلامة الجسد

 

  • الوفاة: أما الفورية فتكون بسبب النزيف الدموي الصاعق بفعل تمزق الأوعية الدموية على مستوى الدماغ, القلب, والشرايين الرئيسية بفعل الموجة الارتدادية التي يحدثها الانفجار. أو موت الفجاءة عند الأطفال والمسنين والوفاة اللاحقة نتيجة لالتهاب أو نزيف.
  • الإصابات العظمية وغالبا ما تترك عاهات دائمة.
  • بتر طرف أو اكثر من الأطراف السفلية كامل أو جزئي.
  • كسور مترافقة في الأطراف العلوية أو السفلية أو القفص الصدري أو الجمجمة نتيجة قذف الجسم المصاب على ارتفاع معين وارتطامه بالأرض.
  • الإصابات الشريانية بفعل تمزق الأوعية الدموية الرئيسية أو المرافقة لمكان البتر والكسور.
  • الإصابات العصبية الناتجة عن إصابات الدماغ والنزيف فيه أو إصابات النخاع الشوكي بفصل العامود الفقري مع ما يترتب على هذه الإصابات من الشلل الجزئي أو التام نتيجة العصف الناجم عن الانفجار الذي يؤدي إلى تمزق تام أو جزئي في الرئتين.
  • الحروق المرافقة دوما نتيجة التعرض للانفجارات والتي تتراوح درجاتها بين 1-2-3,إضافة إلى حالات أذية السمع والنظر والإعاقة النفسية والجسدية.ويصف الدكتور محمد عبد الرحيم سعد الإصابات المباشرة للشظايا بالقول: “تؤدي إلى إصابة العضو الأقرب إلى اللغم خصوصا الأطراف السفلية وتمتزج بالتراب والصخور مما يؤدي في بعض الأحيان إلى تهتك الأنسجة والعظام وصولا إلى البتر الكامل, وقد تصاب الشرايين والأعصاب والعظام والعضلات إصابات مباشرة مختلفة الأحجام كما يمكن أن يصاب أي عضو من الجسم بالشظايا ( البطن, الصدر, الرأس). وان اخطر الإصابات الحربية هي الإصابات النافذة التي تدخل إلى تجاويف البطن والصدر والتي تصيب الدماغ والإصابات التي تستهدف الشرايين الكبيرة فتؤدي إلى النزيف الحاد”.(عن فادي الغوش، الألغام في لبنان). يتناول الدكتور أحمد عياش الجوانب النفسية لأذية الجسد بما يسميه بحق مفهوم صورة الجسد عند الإنسان فهناك صورة مطبوعة في الذاكرة والإدراك والوعي يأتي اللغم ليضربها في الصميم ففي كل لحظة يمكن أن يغمض المصاب عينه لينتقل إلى ما قبل الأذية وباستمرار هناك عملية المقارنة اللا واعية بين القبل والبعد:
  • هنا تقع الصدمة بعد الحادث أو الانفجار بحصول معلومات مغايرة وتشويه للصورة, فيحصل الانفجار الثاني أي الانفجار النفسي الإنساني.1- في اللغم الأول أصابت شظاياه الجسد, أما الانفجار الثاني فيصيب الثقة بالنفس.
    2- تضعضع ثقة الإنسان بقدراته الجسدية.
    3- جرح شعوره بالجمال والاكتمال مما يؤسس لجرح نرجسي فيزيولوجي (كالنرجس الذي تعشق نفسه من خلال الماء)”.مضيفا:
  • كل هذه العوامل سوف تؤسس لزعزعة بنيان شخصية الإنسان مما يؤدي لاضطرابات في الشخصية من حالات عصابية كحد أدنى إلى حالات ذهانية من عوارض هذه الأمراض المعروفة بالهذيان والهلوسة والسلوك المستغرب من المجتمع… الخ.
    آليات المحاسبة وسقفها

     

    حتى اليوم، كانت القاعدة الأساسية في قضية الألغام الإفلات من العقاب. ولا يتوقف الأمر على القصور القانوني أو هزالة المؤسسة القضائية بل أيضا عدم تأصيل تقليد ضروري يقوم على المحاسبة الدولية في جرائم الحرب خارج منطق الغالب والمغلوب والمنتصر والمهزوم والقوي والضعيف في الثقافات البشرية.

    يمكن للإفلات من العقاب أن يتجلى في أية مرحلة من المراحل: أي عندما لا يُفتح تحقيق في الجرائم أو يكون التحقيق غير وافٍ؛ عندما يعتمد التحقيق على سرية الإجراءات وحصرها بالهيئة المسئولة؛ أو عندما لا يقدم المجرمون المشتبه بهم إلى محاكمة بإجراءات عادلة؛ أو عندما لا تتم مقاضاتهم على نحو فعال؛ أو عندما لا يتم التوصل إلى إصدار حكم أو إدانتهم رغم وجود أدلة مقنعة ينبغي أن تكون كافية لإثبات جرمهم بصورة لا محل فيها لشك معقول؛ أو عندما لا يصدر حكم على من تمت إدانتهم، أو يحكم عليهم بأحكام تبعث على السخرية ولا تناسب بينها بأية صورة من الصور وبين جسامة جرائمهم؛ أو عندما لا توضع الأحكام موضع التنفيذ؛ أو عندما لا يُضمن للضحايا وأسرهم الحصول على التعويض المرضي.

    قبل بناء أسس المنظومة القضائية الدولية المعاصرة لحماية الأشخاص وحرياتهم وحقوقهم في السلم والحرب (أي من عام 1948إلى عام 1998)، فشل الحلفاء في جعل محكمتي نورنبرغ وطوكيو مثلا لمحاكمة عادلة لجرائم الحرب.

    – ينبثق الإفلات من العقاب عن القوانين والمراسيم أو التدابير الرسمية الأخرى التي تقضي بأنه لا يجوز لمسؤولين بعينهم أو فئة ما من الموظفين أو مسئولين مكلفين بواجبات معينة أن يقدموا للعدالة. بعض هذه القوانين يقطع الطريق على المقاضاة: وتشمل قوانين الأمان والحصانة والعفو العديدة السارية المفعول في بلدان مختلفة. كثيراً ما يتم إصدار مثل هذه القوانين في حالات الطوارئ أو ظروف الاحتلال التي تدعي الحكومات أثناءها بأن القانون والنظام مهددان على نحو خاص. فتربط القضاء بالمحاكم العسكرية أو الاستثنائية أو الحاكم التنفيذي.

    تشمل المصادر الأخرى للإفلات من العقاب عدم كفاية الإطار القانوني. فالجرائم المشمولة بالقانون الدولي كثيراً ما لا تُعرَّف على أنها جرائم بموجب القانون المؤقت الذي يفرض من طرف واحد. وكثيراً ما تُحذف مبادئ المسؤولية الجنائية الفردية، مثل مسؤولية القادة وذوي الرتب الأعلى عن التابعين لهم. أو يتم تعريفها بطريقة لا تتماشى مع أحكام القانون الدولي، سامحة بذلك للأشخاص المسئولين بالإفلات من يد العدالة. يشكل التذرع بأعذار من قبيل طاعة المنفذين للأشخاص المسئولين وسيلة من وسائل من العقاب.

    إضافة إلى واقع الحماية الذاتية للدول لنفسها ولعسكرييها عبر مساحات الغموض الأوسع في تحديد البعد الجرمي لاستخدام الألغام: فلا خلاف على أن أحكام البروتوكول الثاني غامضة غير قابلة للتنفيذ. فهو يشترط أن تكون حقول الألغام “المخططة سلفاً” مسجلة، ويجب تحذير المدنيين من الألغام المزروعة في أمكنة قصيّة “إلا إذا لم تسمح الظروف”.

    يجادل بعض المتخصصين الحقوقيين بأن الألغام غير قانونية وفقاً للقانون العرفي الدولي الذي يحظر استخدام الأسلحة التي بطبيعتها عشوائية. فلا القانون العرفي ولا اتفاقية الأسلحة التقليدية كان لها أي أثر مسموع في السيطرة على تزايد استخدام الألغام الذي أصبح واسع الانتشار في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.

    إلا أنه مهما كانت قضية المحاسبة مهمة، فهي في موضوع الألغام حالة خاصة لا يكفي فيها محاسبة دولة أو شركة منتجة أو تجّار السلاح. فمن يستطيع أن يدعي بأن أكثر من 119 مليون لغما مزروعا في أراضى 71 دولة في العالم سيكونون من نصيب القوات المعادية؟ ما هي نسبة العدو المستهدف في حوالي 800 شخص يقتل شهريا بالألغام؟ من المسؤول عن جريمة زرع قرابة مليوني لغم سنويا رغم كل الحملات الدولية والاتفاقيات الخاصة بالألغام؟ وإن كان عدد ضحايا الألغام في الستين عاما الماضية يفوق عدد ضحايا الأسلحة الكيميائية والنووية مجتمعة فهل هناك وعي عام عالمي يسمح بمواجهة جدية لهذا السلاح الصغير المدمر؟