في 1982 وفي لحظة بدأت بها الصحافة الفرنسية “تكتشف” طبيعة دولة إسرائيل وضرورة اعتبار هذه الدولة “كأي دولة أخرى”، لها ما لها وعليها ما عليها، وقف كلود لانزمان رئيس تحرير “الأزمنة الحديثة” ليصرخ في صحيفة “الموند” بوجه من تطاول على “الحمل” الإسرائيلي، أنْ كفى لأن الإعلام حسب رأيه، بوعي أو بدون وعي، يوقظ وحش معاداة السامية. أما معاناة اللبنانيين والفلسطينيين من حصار بيروت، فليست قضية مركزية؟؟ بالطبع نجحت عملية الهجوم المضاد، أو لنقل بدقة أكبر، الإرهاب الذهني، في أن يصبح مصطلح “الرقابة الذاتية” مكونا أساسيا من مكونات الإعلام الأوربي. لم تعد الحركة الفكرية الصهيونية الميول والدوافع تستطيع الدفاع بذكاء عن “دولة إسرائيل” المهددة بالزوال، لذا انطلق اللوبي الموالي للمشروع الصهيوني إلى الهجوم بحيث لا يستغرب المرء أن يكلف لانزمان الذي أعد أطول فيلم وثائقي عن “الهولوهوكست” (شوا) بإعداد فيلم عن الجيش الإسرائيلي، وأن تصبح مهمة برنار هنري ليفي أن يعرض يوميات الألم لضحايا حزب الله من المدنيين الإسرائيليين.
كانت السياسة الواضحة لمجموعات الضغط الموالية لإسرائيل، من آيباك إلى الكريف، كيف يمكن إحكام السيطرة على وسائل الإعلام السمعية البصرية ووسائل الإعلام المكتوبة بحيث تحتكر القراءة الإسرائيلية المشهد الإعلامي في كل ما يتعلق بالمنطقة والصراع العربي الإسرائيلي. ولا شك بأن هذه الخطة قد نجحت إلى حد كبير وتعززت بعناصر قانونية جعلت من أية قراءة جديدة للحرب العالمية الثانية موضوع محاسبة ثم بدأ العمل جديا من أجل الربط بين مناهضة الصهيونية والعداء للسامية. وقد استثمرت جماعات الضغط فترة أوسلو لتحييد منظمة التحرير الفلسطينية ما استطاعت واستثمار ما يحدث لشد تجاعيد الوجه وتجميل ظاهر الدولة العبرية. وبالتأكيد ساعدت بعض الدول العربية في ذلك وبشكل خاص بعد قمة شرم الشيخ لمناهضة الإرهاب في 1998. كل المواقف العربية والغربية تم استثمارها بشكل لا سابق له مع انتفاضة الأقصى والتركيز على الطابع الإرهابي للنضال الفلسطيني. ولم تمتلك جامعة الدول العربية والحكومات العربية لا قوة البصيرة ولا الإرادة السياسية الضرورية لرفع الصوت ضد قوائم التصنيف الاعتباطي لدرجة الإجرام، التي حولت ممثلي الشعب الفلسطيني، بما فيه جناح مقاتل في فتح، إلى منظمات إرهابية.
في أبريل 2004، وضعت خمس وخمسون دولة و220 منظمة غير حكومية نفسها في خدمة اللوبي الموالي لإسرائيل. ذلك في مؤتمر منظمة الأمن والتعاون في أوروبا الذي عقد في برلين تحت عنوان: الوقوف ضد معاداة السامية. والذي ناقش مكافحة العداء للسامية، وتشجيع التسامح، ودور التعليم، ودور وسائل الإعلام مع شبكة الإنترنت.. افتتح المؤتمر الرئيس الألماني “يوهانس راو” وحضره وزراء خارجية على رأسهم كولن باول وممثلون عن دول عربية وإسلامية خلصوا إلى بيان وخطة عمل. المشكلة هنا ليست في تبني المؤتمر لمبدأ اقتران العداء للسامية بالعداء للديمقراطية في بيانه الختامي، حيث لا ديمقراطية، برأينا، مع أي شكل من أشكال العنصرية، لكنها في التركيز على تعريف جديد للعداء للسامية يشمل ما يترتب على السياسة الإسرائيلية! توجه جديد يحتل قلاع جديدة، ليس فقط على مستوى مجموعات الضغط الموالية لإسرائيل، ولكن أيضا في القوننة المتصاعدة لما يتعلق بالعداء للسامية والعديد من الأوساط الحكومية والحزبية والثقافية.
في 16/10/2004، وقع الرئيس الأمريكي على قانون مراجعة معاداة السامية 2004 (Global Anti-Semitism Review Act of 2004) وبعد ذلك بيومين قدم الكاتب الفرنسي جان كريستوف روفان Rufin تقريره حول العنصرية والعداء للسامية لوزير الداخلية الفرنسي. ولا غرابة أن نشهد في الوقت الذي عشنا فيه مهزلة “حرية التعبير على الطريقة الدانمركية”، ملاحقات متعددة الأشكال بحق فرقة مسرحية للأطفال الفلسطينيين (الرواد) من قبل المجلس الممثل للمؤسسات اليهودية في فرنسا (الكريف) لأنها هؤلاء الأطفال يتحدثون عن جرائم لم تحدث (دير ياسين) ووطن ليس لهم (أرض إسرائيل)؟؟ أدت لمنع تقديم عدة عروض لهم في فرنسا الشهر الماضي.
يمكن القول، أن الحكومة الإسرائيلية ومجموعات الضغط المؤيدة لها قد نجحت في أوساط سياسية فاعلة في الحكم والمعارضة في أوربة وفي أوساط إعلامية تقليدية أساسية، في تحقيق الربط بين الحرب على الإرهاب والحرب على الشعب الفلسطيني من جهة، وبين العداء للسامية والعداء للصهيونية من جهة ثانية.
إلا أن هذه المعركة الشرسة لم تشمل الرأي العام والخارطة الجديدة للإعلام ووسائل التأثير في الوعي الجماعي. وليس السبب في ذلك وجود أو عملية تكون لوبي عربي أو موالي للقضية الفلسطينية، بقدر ما تساهم الثورة التي يعيشها الإنسان مع فكرة الإعلام في تراجع “المتلقي السلبي” لما تعطيه وسائل الإعلام وبروز “المواطن المشارك في الإعلام” باعتبار الشخص طرفا في التحرير وطرفا في تكوين الرأي وليس مجرد “عبدٍ حديث” لوسائل معرفة تمت مصادرتها.
فإن كانت السنوات 1970-1990 قد حققت أعلى استثمار تقني للوسائل التقليدية الجامدة للإعلام السمعي البصري، خاصة منه ما يتعلق بالترميز الطوبوغرافي والفوتوغرافي، ووفرت الإمكانية عند قطاعات خاصة خارج الدولة لاستثمار هذا الحقل مع تراجع أسعار الإنتاج الإعلامي، فإن التسعينات قد نقلت المجتمع الغربي من جمع الوسائط التقليدية لإغناء السمعي البصري التقليدي ودمقرطتها المحدودة إلى السمعي البصري الديناميكي والالكتروني المتجسد في ثورة الويب التي جعلت المادة الإعلامية كإنتاج وتوزيع واستهلاك في متناول أكبر عدد ممكن من الراغبين في دخول معترك التواصل والتبادل والمبارزة الإعلامية. أي أن هذه الثورة سمحت بإمكانية دمقرطة المجتمع بتوفير القدرة لكل شخص على جعل الكلمة والصورة أيضا مادة تحريض للتأمل والإبداع وليس مجرد دعوة عامة للتنويم المغناطيسي الجماعي.
لاءات ثلاث برزت مع هذه الانتفاضة الإعلامية تسمح بتكسير احتكار مراكز القرار وجماعات الضغط للثفافة الإعلامية:
لا للعبودية الاقتصادية، أي الارتهان لمنطق الربح والإفلاس واستراتيجيات البضاعة الإعلامية الرأسمالية.
لا للعبودية البيروقراطية، أي فرض إجراءات رقابة من نمط جديد خاصة على بعض القنوات التلفزيونية وعمليات الاستقبال والتبادل لمستعملي الأنترنيت
لا للعبودية الذهنية، أي الذريعة الجاهزة القائلة بالاستعمال البري sauvage وغير المسيطر عليه وحجج السماح للنازيين الجدد والإرهابيين بتوظيف ثورة الاتصالات لخدمة أهدافهم كذلك الرصد والمتابعة للموبايل باعتبار التنصت من وسائل مكافحة الإرهاب.
هذا الجيل المتمرد على قواعد اللعبة السياسية-الإعلامية السائدة التي تحجم الحريات الأساسية يوما بعد يوم بدعوى الحرب على الإرهاب هو الذي وقف مع الشعبين الفلسطيني واللبناني ليسمع صوتا مختلفا يرفض منطق الوصاية ويحاول اكتشاف موقعه بنفسه بشكل حر.
لذا ليس غريبا أن تتوزع مقالات احتجاجية (غير منشورة في الصحافة المكتوبة) على المواقف الإسرائيلية بشكل يفوق ما يمكن أن تقدمه صحف تقليدية مثل ليبيراسيون أو الفيغارو، وأن يشيع عدد من المناضلين والمثقفين صحيفة الموند في جنازة رسمية لموقفها من العدوان على لبنان، وأن يتلقى هذا العمل الرمزي تأييدا كبيرا من الشبيبة الفرنسية مع تعليق صغير أحيانا (لقد شيعنا الموند وأخواتها منذ زمن!!).
نعم اليوم متوسط عمر قراء الصحف في فرنسا هو 57 عاما وهناك تراجع كبير للشاشة الصغيرة (التلفزيون) والشاشة الكبيرة (السينما) نحو شاشة الكومبيوتر وشاشة الموبايل.. لم تعد الشبيبة تقبل بشكل آلي احتكار الميدياقراطية الكلاسيكية للمعلومة والتحليل والتوجيه، ويتنامى يوم بعد يوم رفض السياسة التسلطية الهادفة لقولبة الناس وإغلاق دائرة الترهيب والترغيب الذهنية.. فكبشر لنا الحق نفسه في البحث عن الحقيقة، وتكوين الموقف الذاتي منها، والتكنولوجيات الحديثة تسمح لكل منا أن يكون رئيس تحرير أو مدير برامج وليس فقط مواطن- صحفي. لن نقبل الحرمان من ملكة التأمل لمجرد أننا نختلف بالرأي مع من جعل من الصحافة مجرد بضاعة في السوق الاقتصادية والسياسية!
في نفس متوسط العمر هذا (57 سنة) عند الجاليات العربية والإسلامية شهدنا في العقد الأخير نزوحا واضحا إلى قرابة 200 فضائية عربية دخلت أهمها بيوت المهاجرين الذين استبدلوا نسبة يقدرها البعض بحوالي 75% محطات التلفزيون الوطنية في البلدان التي يتواجدون بها بمحطات تلفزيونية تقدم برامجها بلغتهم الأصل وتعطي حيزا أهم لمشكلات تشغلهم وتعنيهم وتقيم جسر تواصل لهم مع ثقافتهم الأم. ولو أن التوزيع غير متكافئ بين محطات المتابعة القياسية (كالجزيرة) ومحطات محدودة التأثير والمتابعة، فثمة تعددية في كل بيت يختار أهله بأنفسهم البانوراما الإعلامية فيه.
تعزز هذا الاتجاه كما ذكرت في أوساط الشبيبة والهجرة نتيجة توجه بائس لجأت له وسائل الإعلام الغربية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. حيث تراجعت المهنية والموضوعية لحساب سياسة إيديولوجية الطابع مسبقة الحكم في كل ما يتعلق بالمهاجر المغاربي وفلسطين وصورة الإسلام والقضايا العربية الهامة. فيما أشعر الجاليات العربية بغياب كبير لصوتها الذي يجري استبداله بما يمكن أن نطلق عليه اسم “عرب الخدمات”، أي العربي الأكثر قدرة على مدح الإيديولوجية السائدة في البلد المضيف على حساب، وليس بالتفاعل مع، ثقافته وبلده الأصلي أو نظرته النقدية لهما. الأمر الذي يبدو واضحا في الأنموذج الفرنسي.
تشكل هذه التوجهات الممزقة للاحتكار الإعلامي اليوم بارقة أمل في إمكانية تغيير موازين القوى بين إيديولوجيات الهيمنة والقوى المدنية العالمية المدافعة عن العدالة من جهة، ودمقرطة المعرفة من جهة ثانية، خاصة ونحن نلحظ توجه لعدة أحزاب سياسية أوربية من أجل نسخ التجربة البوشية في وقت تتراجع فيه في عقر دارها، أي تقليد الإدارة الأمريكية الحالية في إجراءات مصادرة الكلمة وتقييد الحريات الأساسية ليس فقط في قوانين مناهضة الإرهاب بل أيضا عبر عملية بناء شبكة إعلامية خاضعة مباشرة لجماعات الضغط، وعمليات شراء عدد كبير من الصحافيين والكتاب ومراكز الدراسات.
حالة التيقظ المجتمعي لهذه التوجهات جعل مجموعات الضغط تتحول للهجوم العشوائي ضد الأصوات الفكرية والثقافية والحقوقية التي كسرت احتكارها لوسائل الإعلام التقليدية. وقد لاحظنا أثناء الشهرين الماضيين وجود جماعات انحسر دورها في الملاحقة والتخريب لكل أشكال التمرد الإعلامية الجديدة أكثر منه اللجوء إلى مناظرتها بالرأي والكلمة, أي انكفاء دور “معسكر الخير” في محاولة توظيف التقدم التقني، ليس من أجل تطوير وسائل الإعلام ودمقرطتها، بل في ضرب كل ما هو مناهض للسياسة والممارسات الإسرائيلية في لبنان وفلسطين.
19-9-2006