التاريخ أفضل معلم وحكم كلما عكرت المستنقعات الآسنة في الرءوس وضوح الرؤية عند الحقوقيين. من طرائف الصدف أن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لويس مورينو أكامبو قادم من الأرجنتين، وأن أهم مثل في التاريخ المعاصر لاختطاف متهم بجرائم ضد الإنسانية قد حدث في هذا البلد. ورغم تطبيل وتزمير الإعلام الصهيوني آنذاك لتجميل العملية ووضعها في قالب العدالة الدولية، اليوم يمكننا أن نقرأ هذه الواقعة بمنظار فلسفي وقانوني مختلف,
فقد شكلت عملية اختطاف أدولف إيخمان من الأرجنتين ثم محاكمته الحدث الأكثر “إثارة” علي صعيد المحاسبة والعقوبة العابرة للحدود فيالأدبيات الغربية المعاصرة. وقد جاءت هذه القضية كموضوع انتهاك بالمعني المباشر للقوانين الوطنية والعرف الدولي واحترام مفهوم السيادة. ذلك انطلاقا من أن الجرائم ضد الإنسانية، حتي بتعريف محكمة نورنبرغ لها، أعلي من هذه “الاعتبارات”. وبالتالي تسمح لدولة معنية بالمحاسبة في قضية لم تقع علي أراضيها ولم تكن ضد سلامتها ولم تنل من مواطنيها.
جرت عملية اختطاف المسئول النازي في 1961 من علي الأراضي الأرجنتينية (خرق سيادة دولة مستقلة هي الأرجنتين) من قبل مخابرات دولة لا تقيم معها أي اتفاقيات أمنية (إسرائيل) لشخص من دولة ثالثة (ألمانيا) لمحاكمته علي جرائم ارتكبها قبل قيام دولة إسرائيل. يصف أوري أفنيري هذه الأحجية بالقول: “حالة قامت فيها دولة (أ) باختطاف مواطن من دولة (ب)، وهو أصلا مواطن تابع لدولة (ج)، نفّذ جرائمه في دولة (د)، ضد مواطني الدول (هـ، و، ز) رغم أن هذه الجرائم كلها كانت قد نفذت، في حين لم تكن دولة (أ) موجودة بعد”.
لكي يكون النقاش في مستوي الرهانات التي يحملها: أي مفهوم الاختصاص الجنائي العالمي والمحكمة الجنائية الدولية أولا، مبدأ المحاسبة بين الفلسفة والقانون ثانيا، فكرة الجريمة في البناء النفسي للبشر ثالثا، وإمكانية تأصيل عدالة عالمية فوق المصالح السياسية والاقتصادية والقومية رابعا، قمت قبل ثلاث سنوات بدراسة مواقف ثلاثة أسماء كبيرة في القرن العشرين: حنا أرندت (1906-1975)، كارل جاسبرز (1883-1969) وماكس هوركهايمر (1895-1973)، أستعيد باختصار شديد خلاصة آرائهم:
يعرض هوركهايمر، أحد مؤسسي مدرسة فرانكفورت للفكر النقدي، القضية بالقول: “أحد جلاوزة القومية-الاشتراكية المدعو إيخمان، المكلفبإبادة اليهود في ألمانيا والدول التي يحتلها الألمان، تم القبض عليه في الأرجنتين من قبل إسرائيليين، واقتيد لإسرائيل ليمثل هناك أمام محكمة ويحاكم” (…) “إذا كانت المحكمة ستلفظ حكمها وفق معايير العدالة وحسب، عليها أن توقف المحاكمة لعدم الاختصاص. فكون الأسباب الشكلية للمحاكمة واهية مسألة لا يرقي لها الشك. إيخمان لم يقتل في إسرائيل، وإسرائيل لا يمكن أن تقبل بأن يصبح اختطاف المجرمين السياسيين-في المنفي الذي يعيشون فيه بالحق أو بالباطل- قاعدة عامة. العقوبة هي الوسيلة التي تفرض بواسطتها دولة معينة احترام القانون داخل حدودها بغاية الردع. أما ما عدا ذلك من نظريات العقوبة فيفضي بنا لميتافيزيقيا سيئة”.
أما كارل جاسبرز فيقيم الحدث بالقول: “تبدو لي محاكمة إيخمان مصدر قلق لأنني أخشي من أن تفشل إسرائيل في الظهور بشكل لائق بالرغم من الموضوعية التي ستحكم الحدث. فكما أن واقعة كهذه تقع خارج ما يمكن تصوره إنسانيا وأخلاقيا- كما قلت بشكل خارق للمعتاد- هناك أيضا إشكالية القاعدة القانونية للمحاكمة: نحن أمام شيء آخر غير القانون، ومن الخطأ التعبير عن كل ما يجري بمقولات قضائية. الاختطاف من الأرجنتين حدث خارج الشرعية، وإن كان مبررا من وجهة نظري، فلا يمكن أن يكون ذلك علي أساس قضائي. هذا عمل سياسي، وهنا نصبح أمام مظاهر محرجة!”
أما حنا أرندت فقد خصصت كتابا كاملا للموضوع خرجت فيه باستنتاج ضرورة وجود محكمة للجرائم ضد الإنسانية تحاكم الأفراد والحكومات مهما كانت جنسيتهم، تضاف لمحكمة العدل الدولية ولا يستثني منها أحد، لأن أي استثناء طعن في العالمية والشرعية لهذه المحكمة.
المحكمة موجودة اليوم. وهي للأسف ليست بالمواصفات التي تمنتها أرندت. بل تخضع لنفس الأحجية التي تحدث عنها أوري أفنيري. فقد أقر مجلس الأمن -الذي يضم ثلاثة أعضاء دائمي العضوية، لم يصدقوا علي ميثاق المحكمة الجنائية الدولية (روسيا والولايات المتحدة والصين)- قرارا بحق مسئولين في دولة لم تصدق علي ميثاق روما (السودان)، للمثول أمام محكمة ليس في القوانين الوطنية لهذا البلد مايشير حتي لوجودها. وذلك بضغوط مارستها الإدارة الأمريكية، أي الطرف الذي وقع حتي اليوم أكثر من 65 اتفاقية ثنائية تحول دون محاكمة أو ملاحقة أو محاسبة أي من رعاياها أمام المحكمة الجنائية عينها!!.
إن كانت مأساة دارفور تتطلب بكل المعاني لجنة تحقيق جنائية دولية ومحاسبة ترفض توظيف الضحايا في أي صراع دولي أو إقليمي، فهذا لأنها(بعد رفض المدعي العام الأرجنتيني لما وصله من شكاوي حول العراق وفلسطين ولبنان) أول ملف جدي يطرح أمام المحكمة الجنائية الدولية، باعتباره في نطاق اختصاصها بقرار من مجلس الأمن. وقد اختلف فقهاء القانون الدولي في هذا الموضوع. إلا أن البراجماتيين منهم قالوا إنها فرصة للحديث في الجرائم المرتكبة في العراق، ولو أن الدولة العراقية والدولة المحتلة (الولايات المتحدة) لم تصدقا. كذلك في الجرائمالإسرائيلية، ولو أن الكيان الصهيوني فوق المحاسبة ويرفض الاعتراف بالمحكمة الجنائية الدولية.
لكن، وعوضا عن معالجة نقاط الضعف في اختصاص المحكمة في قضية دارفور، ارتكب المدعي العام مخالفة قانونية ترتقي لمستوي الجرم بإقراره مبدأ خطف متهم رئيسي في قضية دارفور، عبر تحويل مسار طائرة يفترض أن تقله إلي مناسك الحجّ.
أجل، بعد صدور أكثر من 12 قراراً دولياً وإقليمياً بتجريم خطف الطائرات لأي دافع أو سبب كان، وفي خضم ما يسمي بالحرب علي الإرهاب، يتذكر النائب العام أيام مراهقته وبطولة المخابرات الإسرائيلية التي اختطفت إيخمان في بلده لمحاكمته في القدس الغربية. لكن هذه المرة، عملية الخطف يفترض حدوثها أثناء الطريق لمناسك الحج (وكأن الحبكة تنقصها شعيرة إسلامية؟) بتحويل مسار طائرة (بماذا يختلف تحويل المسار عن الخطف؟)، بالتعاون مع بلد لم يصدق علي العهدين الخاصين بالحقوق الإنسانية ولم يوقع علي اتفاقية روما (السعودية). فيما يذكرنا ليس فقط بسلوك الموساد، وإنما مغامرات الألماني ديتليف ميليس في ملف اغتيال الحريري.
السيد المدعي العام، أرجوك وأتوسل إليك، لا تعقّد مهمة التحالف الدولي من أجل محكمة جنائية دولية أكثر مما هي معقدة في الدول العربية. ساعدنا من فضلك علي الرد علي التهم التي نسمعها عن المحكمة الجنائية الدولية، التي استبسلنا من أجل ولادتها، باحترام القانون الدوليأولا. فمكانك الطبيعي مع المحكمة، لا مع من يحاول اغتيالها في وضح النهار
صحيفة البديل المصرية
13/06/2008