صنعت نكبة 1948 أساطيرها وأيديولوجياتها، ومثلما عبّر الشق الفلسطيني عن نفسه عربيا أو إسلاميا بفكرة العودة والثأر والنصر، كانت الصورة الأكثر استقطابا للناس والشبيبة خاصة في العالم العربي تتمركز حول عدة مفاهيم مثل الوحدة ردا على التجزئة والحرية ردا على الاستعباد والعدالة الاجتماعية لمعالجة مترتبات الاستغلال الخارجي والداخلي. لقد ضعفت القيم العالمية والشرعية الدولية مع يالطا وتقاسم المنتصرين في الحرب العالمية الثانية النفوذ في العالم، ووضعت مواقف الغرب المواقع الركيكة لأبناء الليبرالية الكولونيالية على كف عفريت. فهاهو الوارث المحلي للاستعمار المباشر يدير الأعمال ويرعى المصالح لا أكثر ولا أقل، وقد اكتشفت الشبيبة المصرية الاعتقال والاغتيال السياسي والرقابة في ظل الهيمنة البريطانية في الأربعينات، وعرفت قمع التحركات الشعبية في ظل التعددية الليبرالية في 1946، ومن الضروري التذكير أنه وفي معظم الأقطار العربية كانت كلمة الديمقراطية تستعمل من قبل الأحزاب الشيوعية الموالية لموسكو، وبالتالي لم تكن ذات مرجعية تحمل فكرة التعددية السياسية أو التداول على السلطة.
في هذا الوسط المتأهب والمستعد لأسس “الشرعية الثورية”، بدأت في الأربعينيات شرعية تربط المصير بالمخلص -بالمفرد – حزبا أو فردا أو جيشا. وقد كان هذا الخطاب المهدوي مشتركا بين العديد من التيارات التي جعلت من ارتقاء المجتمع لإنموذجها حتمية تاريخية. وكما يقول محمد حافظ يعقوب، ” لم يكن الطلب على الديمقراطية من قبل المحكومين في عقدي الخمسينات والستينات واهنا فقط بل وملتبسا على الأرجح. فلئن انخرط المحكومون في العقيدة التي يروج لها الزعيم الملهم بخصوص مساوئ الحزبية و التعددية وفضائل تغيب الرأي المختلف وسيطرة الحزب الواحد الذي يقوده الزعيم نفسه، فان هذا الأخير زرق خطاب التحرر السياسي بجرعة قوية من الأساطير التي تخلط بين الخصوصية والاستبداد والعدل والتعسف”.
من الضروري التذكير بأن مصر الناصرية لم تكن موضوع تقييم سياسي موضوعي في سورية الخمسينيات، كانت خطاب التحرر في وجه حلف بغداد، خطاب الوحدة في مواجهة دويلات سايكس بيكو الهزيلة، خطاب استعادة الثروات الوطنية في وجه الهيمنة الخارجية، وأخيرا وليس آخرا جبهة تحررية اسمها عدم الانحياز. عبد الناصر لم يكن يفكر بعقلية الأقلية، سياسية كانت أو دينية أو ثقافية، كان يفكر بعقلية الجموع الشعبية، لم يكن حزبيا أو طائفيا بل شعبيا، وفي الوضع السوري هذا يعني الانسجام مع مبادئ “الحركة الشعبية” في جبل العرب، وكتابات التقدميين العلويين والمسيحيين في البلاد، التي تتوجع لفقراء المدن وأبناء الريف، الوحدة في وجه التجزئة والاندماج بين الطوائف والجماعات البشرية المختلفة في وجه العصبيات البائسة. من هنا لا نجد قراءة واحدة عن التجربة الناصرية عند سيد قطب (ضحيتها المباشرة في التجربة المصرية) ومصطفى السباعي (مؤسس الإخوان في سورية الذي نظر لها من خارج هذه التجربة). عندما وصلت أكياس الطحين في سنة قحط للمناطق السورية النائية أثناء الوحدة السورية المصرية وكانت يومذاك مساعدة أمريكية كان الناس يشكرون عبد الناصر. عندما زار عبد الناصر مدينة درعا رأيت المدينة في أكبر تظاهرة لها في تاريخها كله. جلست مع صحبي من التلاميذ منذ السادسة صباحا على رأس شجرة معمرة في المكان المقابل تماما لمنصة الخطاب لكي نسجل الحدث في حياتنا. ورغم أننا كتلاميذ تبعثرنا في العائلات السياسية المختلفة فيما بعد، لم يكن لأي قيادي سياسي بعد ذاك اليوم الوقع نفسه علينا. هذه الكاريزما الطبيعية كانت هبة السماء لمصر وعبد الناصر وهي نفسها التي جعلتنا، عند هزيمة 1967 نرفض أي أنموذج مشابه أو مسخ لمصر الناصرية. فإن كان عبد الناصر القائد التاريخي قد فشل في تجربة حركة الضباط الأحرار والاتحاد الإشتراكي الواحد فلماذا ينجح البعث أو الإخوان، لماذا ينجح حافظ الأسد أو صدام حسين؟ فشل أنموذج القائد الكاريزمي في التجربة الناصرية زرع في أعماقنا راديكالية التغيير ولكنه أيضا فتح أعيننا مبكرا على خطر حكم الأقلية (سياسية كانت أو عسكرية أو طائفية الخ). فنجاح عبد الناصر في زج الملايين من العرب في العمل السياسي والنضال العام هو وثيقة فشل لمن أمضى عمره النضالي باحثا عن عرّاب سوفييتي أو أمريكي لأنه يفتقد في أعماقه للثقة بأن الشعب قادر على صنع التغيير، ولأنه لم يكن في يوم من الأيام ابنا طبيعيا لحركة شعبية تحرك أفئدة الفلاحة الأمية التي اكتشفت راديو الترانزيستور وعبد الناصر في اليوم نفسه، لأنها اشترت “التكنولوجيا” من أجل رجل السياسة.
من هنا جسامة المسئولية التاريخية في تجربة 23 يوليو، وخطورة النتائج التي تركتها في وعينا الباطن والظاهر. ففي الوعي الجماعي للتغيير في العالم العربي، التجربة الناصرية هي أيضا منح البركة للتغيير العسكري والتغيير من فوق. وبعد أن كانت الانقلابات الفاشلة في المشرق تثير الضحك أحيانا وأحيانا أخرى البكاء، نحن أمام حركة عسكرية سياسية كمونها الأساسي الاستجابة لطموحات موجودة لم يستطع ممثلوها الأقوى، بالمعاني المدنية والحزبية والثقافية والنقابية، تجسيدها نضالا وواقعا. من هنا ضرورة التمييز بين مجرد احتلال الإذاعة ومبنى الحكومة من قطعة عسكرية وبين حركة تمزيق للركود المستنقعي والاستعصاء السياسي قادرة على تحريك طاقات مختلفة من تحت ومن خارجها. لذا لا يمكن أن نقارب الصواب أو الأمانة عندما نعقد أية مقارنة بين حركة 23 يوليو وانقلاب العقيد معمر القذافي أو الحركة التصحيحية للجنرال حافظ الأسد مثلا. وإن كان من دور متميز للدكتور جمال الأتاسي ومدرسته، فهو في الانتساب التاريخي والمبدأي لقيم الناصرية الكبرى والقدرة على القطيعة المنهجية مع الناصرية كأنموذج للحكم.
————————–
البديل المصرية /عدد خاص بمناسبة ذكرى 23 يوليو (2007-07-24)