ديسمبر 06, 2024

الإسلاموفوبيا وحقوق الإنسان

باعتبار الإسلاموفوبيا الشكل الأكثر خطورة للعنصرية في أوروبا، سجل مقرر المفوضية السامية لحقوق الإنسان دودو ديين نقطة سبق على العديد من منظمات حقوق الإنسان الأوروبية التي لم تعط موضوع “الإسلاموفوبيا” حقه حتى اليوم.

فالنقاش الذي خاضه عدد من العلمانيين الاستئصاليين في أوروبا بشكل عام، وفي فرنسا بشكل خاص، وبدعم من عدة مجموعات ضغط طالما آثرت حماية جماعة أو دولة على الدفاع عن قيم عالمية جماعية ومشتركة.. هذا النقاش أوجد حالة تخوف من تناول “التخوف من الإسلام” باعتباره ظاهرة عنصرية خطيرة.

يمكن للباحث أن يعتمد أكثر من منهج في دراسة أصول ظاهرة العداء للإسلام في الأزمنة المعاصرة، وعندما نتحدث عن العداء للإسلام، لا نتحدث بالتأكيد عن حرية التعبير والنقد في عالمي الإسلام والحركة الإسلامية السياسية..

وإنما نتحدث عن تكوين نمطي مسبق ينطلق من “مسلمات” تم تأصيلها في الثقافة الأوروبية السائدة وجعلها أكثر قدسية من الأديان نفسها.

أولى هذه المسلمات الصلة العضوية بين الإسلام والعنف, وثانيتها التعارض المبدئي بين الإسلام والديمقراطية, وثالثتها العداء المطلق بين الإسلام والعلمانية وإن كانت بعض هذه “المسلمات” تعود لأكثر من قرن، فيمكن القول إن سنوات 1978-1982 قد شكلت منعطفا هاما لتعزيز هذه الصورة النمطية انطلاقا من عدة عوامل جيوسياسية من جهة وسياسية اقتصادية من جهة ثانية.

فمن الناحية الجيوسياسية شكلت هذه السنوات سنوات صعود لعدة حركات إسلامية سياسية. ورغم اختلاف الدوافع والأسباب بل والمقومات الأيديولوجية (كالتباين بين قيام جمهورية إسلامية شيعية في إيران وحركة مسلحة للطليعة المقاتلة في سوريا وحركة جهيمان العتيبي في السعودية للمثل لا للحصر)، فإن هذا التمايز لم يكن يُرى بالعين المجردة في الغرب، فهناك خطر إسلامي وحمّى إسلامية، هذه الحمى تهدد الحضارة الغربية.

جاء ذلك مع بداية ولاية البابا يوحنا بولص الثاني ووصول المحافظين الجدد إلى السلطة في شخص الرئيس الأميركي رونالد ريغان، ولكن أيضا وصول الدبابات الإسرائيلية إلى ثاني عاصمة عربية بعد القدس في عدوان 1982 على لبنان..

أي في حقبة ضبابية على الصعيد العالمي واضطرابية على الصعيد الإقليمي، مع أزمة عميقة يعيشها اللوبي الموالي لإسرائيل في الغرب عبر كشف الغطاء عن فكرة الحروب الوجودية لدولة إسرائيل.

العداء للإسلام في هذا الوضع ضرورة لأكثر من تيار أيديولوجي وسلاح نافع لأكثر من تيار سياسي، خاصة أن هذا الوضع ترافق على الصعيد الأوروبي مع واقعتين في غاية الأهمية: أولاهما تزايد عدد المهاجرين المسلمين إلى أوروبا، والثانية تصاعد أزمة البطالة ودخول القارة الأوروبية في فترة إعادة تكوين قدراتها الصناعية وفق معطيات الثورة التقنية الجديدة.

هذا التزايد يظهر جليا عبر بعض الإحصاءات المعبرة التي كانت السياسة الاقتصادية الأوروبية مسؤولة عنها مباشرة. فعدد القادمين من شمال أفريقيا عام 1946 لم يكن يتجاوز 100 ألف شخص رغم وجود دول المغرب الكبير تحت الاحتلال الفرنسي واعتبار الحكومة الفرنسية الجزائر جزءا من الأراضي الفرنسية، في حين بلغ عدد القادمين بطلب من المؤسسات الفرنسية عام 1975 2.4 مليون مهاجر.

وفي ألمانيا يمكن متابعة التقدم نفسه بالنسبة للجالية التركية (بمكوناتها التركية والكردية)، ولو أخذنا أرقام الهجرة التركية لأوروبا نجد أن عدد المهاجرين قد قفز من 715 ألف مهاجر عام 1974 إلى 3.5 ملايين قبل عامين، في حين تضاعف عدد العاطلين عن العمل في الفترة التي أشرنا إليها إلى أكثر من 160% في (1978-1982) في دول الهجرة الرئيسية في أوربا.

ورغم أن القارة الأوروبية أرسلت إلى العالم في المائة عام التي تبعت الحروب النابليونية قرابة 60 مليون مهاجر (كما يوضح بادلي بينز في كتابه: الهجرة من أوروبا 1815-1930) لم تستطع أوروبا الغربية هضم فكرة هجرة طبيعية كانت مؤسساتها الاقتصادية المحرض الأول على حدوثها، ولا يمكن إلا أن تستمر، في عالم صارت حركة البشر جزءا لا يتجزأ من نظام اقتصادي وثقافي وإعلامي يرفض الحدود.

ترافقت هذه التغييرات البنيوية بأزمة هويات على الصعيد العالمي، عززها إعادة اكتشاف الهوية الأوروبية المتعددة القوميات المختلفة المسارات، ومخاض هذه العملية على الذات المهاجرة سمراء وسوداء في مجتمعات جعلتها الأزمة الاقتصادية تنمي ثقافة خوف جديدة لم تلبث أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 أن أعطتها صفة “العدو الإرهابي” بعدما كانت في حدود تهميش وتحديد أثر الآخر الإسلامي الذي يدخل الحرمة الأوروبية بدون جواز سفر، لكون “أوروبا المتعددة” في الواقع لم تقبل بعد في التصور طابعها المتعدد الإثنيات المتعدد الثقافات والمتعدد الأديان والألوان.

لذا لم تكتف الطبقة المثقفة الأوروبية بإهمال ظاهرة الإسلاموفوبيا أو تجاهلها، وإنما شنت حملة ضروسا على من يتحدث عنها في خطاب يعتمد العناصر التالية:

1-أن من أوجد هذه الكلمة هم الملالي في إيران لوقف أي نقد تجاه حكومتهم (طبعا يتناسى هذا النقد أن هذه الكلمة استعملت أول مرة حسب علمنا عام 1925 في بيان يتحدث عن هوس مفرط في الإسلاموفوبيا في فرنسا).

2-أن الخطر الإسلامي خطر داخلي على أوروبا باعتباره يبني جزرا منعزلة عن الجماعة ويعيد إنتاج العداء للسامية، وهو يتعدى حدود القارة ليمس مستقبل دولة إسرائيل.

3-هناك نوع من الابتزاز المسمى الابتزاز بالإسلاموفوبيا، الإسلام فيه يصبح غير قابل للدراسة أو النقاش أو النقد، دين له وضع خاص ينصّبه فوق حرية التفكير والعقيدة والرأي، وهو سلاح للإسلاميين ضد العلمانية والحداثة. (معظم من كتب حول “الابتزاز بالإسلاموفوبيا” يعرّف نفسه أو يعرفه الناشر كمناصر لإسرائيل).

لن نناقش مدى صلاحية ودقة مصطلح “الإسلاموفوبيا”، فالأخطاء الشائعة في التعريف تسبق فقهاء اللغة وبحاثة العلوم الاجتماعية. ما يهمنا اليوم أن عملية بناء الشرعنة الثقافية والفكرية للإسلاموفوبيا قد تعززت في أوروبا خلال الربع قرن الأخير وأنجبت مجموعة من المثقفين الاستئصاليين الذين لا يكتفون بالخوف من المسلم وإنما يعتبرون تخليه عن دينه شرطا للاطمئنان له ككائن إنساني.

وفي الكتابات التي تبعت صدور مؤلف دوفيليه “مساجد رواسٍ” حول حرمان عدد من المسلمين من بطاقة المرور الخاصة بهم في مطار شارل ديغول لأسباب أمنية، أحصينا ستة مقالات في مجلات وطنية -لا تنتمي لليمين المتطرف أو العنصري- تعتبر أن من الطبيعي عدم السماح لشخص يصلي خمس مرات في اليوم ويذهب للمسجد عندما يستطيع، وقد أدى فريضة الحج أو يتمنى ذلك، مع إطلاق اللحية.. عدم السماح له بالوصول إلى مناطق حساسة في الطائرات وأمنها.

المقرر الخاص للمفوضية السامية لحقوق الإنسان دودو ديين يعتبر عملية بناء الشرعنة الثقافية من قبل بحاثة وكتّاب وصحفيين تشريعا للحقد والكراهية تجاه الإسلام والمسلمين، وهي تصنف بالنسبة له ضمن ظاهرة التمييز والعنصرية باعتبارها تربط بين الإسلام والعنف والإسلام كعدو للحريات وحرية التعبير بشكل خاص والإسلام والإرهاب منذ 11 سبتمبر/أيلول 2001.

بالطبع ليس لنا أن نبرئ ساحة المسلمين من كل ما يحدث، وليس لنا أيضا أن نتغاضى عن عمليات الخلط المتعمدة أحيانا والتلقائية أحيانا أخرى، بين الدفاع عن حرية المعتقد وعدم السماح بأي نقد لجماعة أو دين بدعوى العنصرية والتمييز.

ففي المجتمعات الأوروبية الدين موضوع دراسة وموضوع نقد قبل دخول الإسلام الفضاء الأوروبي. ومن المؤسف أن الجيل الأول من الإسلاميين في أوروبا لم يقم دائما بعملية الفصل بين تاريخه في المجتمعات الإسلامية وخطابه الموجه لها ووجوده في مجتمع غير إسلامي له فقهه وأحكامه الخاصة.

فعلى سبيل المثال، كاتب إسلامي أمضى حياته يجاهد ضد العلمانية في الفكر والممارسة، يصعب عليه في منفاه الإجباري أن يقول لابنه “الأوروبي الولادة والنشأة” أن العلمانية الديمقراطية هي الصيغة الأفضل لحماية المسلمين في أوروبا، خاصة أن النظام الديني شمال البحر المتوسط يحمل ميراث محاكم التفتيش والتخيير بين المسيحية والنفي والقتل!

يعود إلى منظمة “The Runnymede Trust” غير الحكومية الفضل في أول محاولة تعريف جدية للإسلاموفوبيا عام 1997 حيث حددت للتعريف المعايير الثمانية التالية:

1- اعتبار الإسلام جسما أحاديا جامدا قلما يتأثر بالتغيير.
2- اعتبار الإسلام متميزا و”آخر” ليس له قيم مشتركة مع الثقافات الأخرى وهو لا يتأثر بها أو يؤثر فيها.
3- اعتبار الإسلام دونيا بالنسبة للغرب.. بربريا وغير عقلاني، بدائيا وجنسي النزعة.
4- اعتبار الإسلام عنيفا وعدوانيا ومصدر خطر، مفطورا على الإرهاب والصدام بين الحضارات.
5- اعتبار الإسلام أيديولوجية سياسية لتحقيق مصالح سياسية وعسكرية.6- الرفض التام لأي نقد يقدم من طرف إسلامي للغرب.
7- استعمال العداء تجاه الإسلام لتبرير ممارسات تمييزية تجاه المسلمين وإبعادهم عن المجتمع المهيمن.
8- اعتبار العداء تجاه المسلمين عاديا وطبيعيا.

للخروج من العموميات في الفضاء بين الحكومي وغيره، وضع مجلس أوروبا قبل عامين في تقرير أصدره عن “الإسلاموفوبيا وتأثيرها على الشبيبة” (2005)، تعريفا أوليا للكلمة يمكن اعتباره نقطة انطلاق جدية مشتركة بين الحكومي وغيره في هذا الموضوع الخطير والحساس.

 يقول التقرير إن “الإسلاموفوبيا هو التخوف أو الأحكام المسبقة تجاه الإسلام والمسلمين وما يتعلق بهم، سواء تم التعبير عنه بالأشكال اليومية للعنصرية والتمييز أو في أشكاله الأكثر عنفا. الإسلاموفوبيا هو انتهاك لحقوق الإنسان وخطر على التماسك الاجتماعي”.

في التقرير الذي أصدره المركز الأوروبي لمراقبة العنصرية وكراهية الأجانب في ديسمبر/كانون الأول 2006 بعنوان “التمييز العنصري والتخوف من الإسلام”، يظهر بوضوح أن هناك تمييزا واضطهادا تجاه المسلمين في أوروبا في مجالات العمل والتعليم والسكن والمعاملة في الفضاء العام.

وعندما طلبت من بياته فينكر مديرة المركز وأهم محرري التقرير أن تلخص لي خلاصة تجربتها قالت إن “التخوف من الإسلام يبدأ بتوجيه الإهانات الشفهية ويصل حد الاعتداء الجسدي والاعتداء على أماكن العبادة والممتلكات والقبور، لذا هناك حاجة ماسة إلى قيادة سياسية حازمة تدافع عن المساواة بين جميع الأوروبيين بغض النظر عن خلفياتهم الثقافية والدينية، كذلك تعبئة بين المسلمين لمشاركة أوسع في المجتمعات المدنية للدفاع عن حقوقهم والحقوق الإنسانية بشكل عام”.

معظم منظمات حقوق الإنسان ومناهضة العنصرية تلاحظ أن التوظيف السياسي للإسلاموفوبيا سلعة رائجة ومربحة في سوق النخاسة السياسية الأوروبية.

وبالتالي تركز على قيام ترسانة قانونية تحمي المسلمين من أشكال التمييز والاعتداء اليومية بحقهم.

ترسانة لا يستثنى منها لا شبه مثقف ولا “رجل” سياسة, لأن ظاهرة الإسلاموفوبيا تتصاعد بشكل غير محمود النتائج والعواقب، ولا بد من مواجهة راديكالية لها يكون للمنظمات الحقوقية الأوروبية فيها دور الصدارة.

المصدر: الجزيرة نت

01�2007