الإسلام وأوربة
هيثم مناع
الطبعة الثانية مزيدة ومحدثة بوقائع من العقد الثاني للقرن 21
2021
المعهد الاسكندنافي لحقوق الإنسان/ مؤسسة هيثم مناع
مقدمة
إنْ تَوَقيت من شيء فادخل فيه، فإن الدخول فيه خير من توقيه
الإمام علي بن أبي طالب
في معمعان إشهارات الخوف المتبادلة، التي انتجت ثقافاتها الطارئة الهشة، صعدت كلمات الإسلام في أوربة وأوربة في العالم الإسلامي بشكل ومضمون مختلفين ومتعارضين. لم نعد أمام منطق حملة نابليون أو وسائل ولوج الرأسمالية الغربية العالم العربي في ثلاثية البضاعة والمدفع والمطبعة، كذلك لم تعد الرغبة في اكتشاف الآخر تثير فضول قطاعات واسعة هنا وهناك. لقد تشرنقت السلحفاة على نفسها بحيث لم يعد يظهر منها سوى درع صلب غير قابل لأية تسوية مع المحيط والعالم القائم.
في هذه البيئة غير الصحية، تتم عملية تهميش منهجية لكل فكر نقدي يحاول أن يواجه عمى التطرف المعمم l’extremisme généralisé، الذي يتغذى هنا وهناك من فكرة جهنمية غاية في القدم تعتبر “الآخر” مصدر مصائب “النحن”، تُبنى أشباه إيديولوجيات لا تختلف عن تلك التي انتشرت غيومها السوداء بين الحربين العالميتين إلا بالاسم، ويصبح الحديث في “صراع الحضارات”، حديثا عن جماعات بنيوية متكلسة، محكوم عليها بالإنغلاق مسبقا، ويتم التضحية في وضح النهار بكلمات لم تعد قادرة على حمل معناها مثل حقوق المواطنة والحريات والعدالة والتضامن في المجتمع الواحد وبين مختلف المجتمعات البشرية. تتكاثر احتفاليات التمجيد بكل من يتقن عملية “شيطنة” الآخر، المسؤول عن العرض المهان و”المواطن” الذليل والمستهلِك المستهلَك وكل فنون الغباء المشهدي الذي يجعل الفقير أكثر فقرا والمهمش أكثر تهميشا وهو يدفع ضريبة كل الأزمات الاقتصادية الغربية باسم “حريات” قزّمتها عولمة حالة الطوارئ..
في حفلة مزج قسرية للهوية بعناصر ثقافية ونفسية غير متجانسة بالضرورة كالإستبداد والدين العام والإنغلاق على النفس ونبذ المختلف ورهاب الغريب. في حين أصبح مستقبل الإنسانية أكثر سوداوية في صيرورة صناعة السلاح المقرر الأول لمستقبل السياسيين وحقارات البورصة المحدد الأساس لقيمة كل القوى المنتجة والخلاقة في الوجود الإنساني.
تحاول هذه الأسطر احترام عقل القارئ عبر رفضها أية مهادنة لمنح القداسة أو الفوقية لما ينتج البشر بدواعي انتماء ديني أو ثقافي، وهي تتفق تماما مع جان بول سارتر عندما يطالب بأن “نقنع أنفسنا بحقيقة مُرّة وهي أنه مهما ارتفعنا للحكم على عصرنا فإن التاريخ سيكون في المستقبل أكثر منا ارتفاعا لإصدار حكمه علينا. وهذا الجيل الشامخ الذي يخيل إلينا أننا اتخذنا فيه لأنفسنا عش النسر لن يكون بالقياس إليه إلا بمثابة جحر من جحور الضباب، والحكم الذي نكون أصدرناه سيضم إلى أوراق قضيتنا. ومهما نحاول أن نكون مؤرخي أنفسنا فإن مجهودنا سيذهب عبثا. فما المؤرخ نفسه إلا ثمرة من خلق التاريخ”، وحسبنا أن نصنع تاريخ زماننا من يوم إلى يوم كما نستطيع، وأن نختار بين السبل تلك التي تبدو لنا أقومها“.
ليس هاجس هذا الكتاب التبحر ولا تقديم نص أكاديمي جديد، فباستطاعة غيرنا، ممن تفرض عليه حرفته ذلك، أن يحقق شيئا من النجاح في نص مفيد حول الإسلام أو أوربة أو جدلية العلاقة بينهما. كان الدافع الأساسي لجمع النصوص المدرجة، تفكيك المنطق العدائي المسبق، مع كل ما يترتب عليه من انتهاكات يومية للكرامة والحقوق الإنسانية، ومواجهة الجنوحات المعاشة والمحتملة للأشكال الصراعية الجديدة بين الإسلام وأوربة. فالإنتماء لحضارة متشبعة بالإسلام يجبرنا، كما أشار محمد حربي في مقدمة عمل جماعي مشترك صدر في 1985 حول “الإسلامية اليوم” (مجلة سؤال)، “على تحّمل الوزر الذي تفرضه علينا الأحداث، دون أي استعداد لإخفاء الأمور المثيرة للسخط”. كذلك، فإن تواجدنا في هذه القارة لزمن يزيد عن حقبة تواجدنا في “دور الإسلام” على اختلافها، يجعلنا مواكبين للإنتاج المعرفي لهذا الفضاء من داخله، وليس عبر معرفة “اللحاق” به. فقد تكونا معه، وإن لم نتكون حصرا منه وبه، في علاقة منعتقة من المراضاة والديون وعقد النقص والزيادة.
موضوع هذا الكتاب إذن، محاولة استقراء أسباب العطب الصاعدة إلى السطح في شبكة العلاقات والتداخلات والنزاعات بين العالم الأوربي؛ بالمعنى المجتمعي والثقافي والحقوقي؛ والإسلام؛ بكل ما تحمل هذه الكلمة من غنى وتنوع وخصب.
حتى منتصف القرن الماضي ونهاية الحرب العالمية الثانية، لم تضطر الحداثة الأوربية للمواجهة المباشرة مع الإسلام إلا في عقر داره. وحدث ذلك بأسوأ معاني السلطة وأكثرها صفاقة، أي الاستعمار المباشر. من هنا لا نستغرب استعمال حركات التحرر الوطني لأسلحة مفاهيمية غربية في مواجهة الهيمنة الغربية نفسها. وعلينا انتظار نهاية الحرب العالمية الثانية وحقبة نزع الاستعمار والهجرة المضادة نحو المركز الأوربي، لكي تحدث المواجهة الأكثر جدية في التاريخ بين الإسلام وأوربة. فالدولة الأوربية الحديثة، تشبه في آليات عملها الوظيفي، جهاز نزع المواصفات الذاتية machine à dé-subjectiver لمختلف المكونات الاجتماعية- الثقافية فيها، أو ما أسميه طرافةً “عمادة الحداثة”، أي الآلة القادرة على تعمية كل الهويات الكلاسيكية كشرط لإعادة إنتاجها. شهدت هذه الدولة حالة استعصاء متعددة الأسباب لهضم وإعادة تكوين الجاليات الإسلامية الحديثة التعايش معها. خاصة وأن هذه الدولة نفسها كانت، في نفس الحقبة الزمنية، موضوع مراجعة شاملة من المحافظين الجدد والليبراليين الجدد الذين يعتقدون بضرورة تحجيم دور الدولة وتقنين حقوق المواطنة باسم “السوبرمان” الجديد، أي مواصفات شكلية مبالغ فيها للفرد تنتزع منه أهم ما حقق من مكتسبات اجتماعية ومدنية.
لم يعد اقتصاد السوق يسعف عملية الإندماج الاقتصادي، ولم يكن بوسع الدولة وقف عملية التهميش الاجتماعية الثقافية. ولم يلبث سقوط معسكر وارسو أن قفز بالإسلام، بالمعنى الرمزي على الأقل، لمرتبة العدو، بحيث حمل المسلمون الأوربيون كل مقومات التقارب والتباعد، التجاذب والتنافر، باعتبارهم ضمن عملية إعادة البناء الدائمة للمنظومة المجتمعية الأوربية من جهة، وخارج قواعد الطاعة التقليدية لهذه المنظومة من جهة إخرى. الأمر الذي يترجم في أزمة ثقة متبادلة تضع وجها لوجه: الخوف من الإسلام والخوف على الإسلام.
إذا ما جرى الإتفاق على تعبير الإسلاموفوبيا لوصف ظواهر الخوف والعنصرية والتمييز بحق المسلمين، فإن من التيارات الإسلامية من له وافر النصيب في تعزيز هذه الظاهرة. أليسوا هم من ابتكر ومارس “العلمانوفوبيا” أو شيطنة العلمانية في دور الإسلام منذ عقود؟ أليسوا من أصدر عشرات آلاف الصفحات حول “أعداء الإسلام” و”أجنحة المكر الغربية” إلى غير ذلك من مصطلحات تعتبر القطيعة مع الآخر واجبا دينيا؟ هذا إن افترضنا وجود حدود وتخوم واضحة بين الثقافات والشعوب، فرضية كذبتها كل عمليات غسل الدم النقي واستبداله بدم هجين صار السمة الأرقى لكل حضارة بشرية؟ إلا أن الركام المعادي للحداثة الغربية لم يكن غريبا عنها، بل اقتبس منها وأخذ عنها في حزبه السياسي وجمعيته الخيرية ومنظمته المسلحة وأجهزة إعلامه وأنماط البروباغندا اليومية المختلفة. فلم يجد الإمام الخميني أي حرج مع مصطلح “الجمهورية” الأوربي حتى النخاع، ووقف بوجه مصطلح “الديمقراطية”. ورغم الحدود الواهية بين الدولة المدنية والدولة العلمانية صرنا نجد في تعريف الدولة المدنية القاسم المشترك الحكيم بين التيارات الوسطية الإسلامية والاتجاهات العلمانية الديمقراطية في وجه الدولة الأمنية والنمط التسلطي والشمولي للحكم. لقد فاق التداخل ما نتصور، وصار مفهوم الاستقلال الثقافي مجرد موضوع دراسة نظرية لا أثر له في الحياة العملية للبشر. فكما أن “كل مشتركين في شيء يلزم افتراقهما بشيء آخر”، كما يقول السهروردي، فإن كل مفترقين في أشياء يلزم اجتماعهما في أشياء أخرى كثيرة. ولعل هذا التداخل هو الذي أيقظ كل حالات التطرف العنصرية والتمييزية والرافضة للآخر المختلف والمتشابه. التي حدثّنا عنها مؤسس علم الاجتماع الحديث ابن خلدون في تفكيكه للعصبية والغلبة. والتي اختصرها أحمد بن الطيب على لسان أحد الأفاضل بالقول: “العصبية هي أن يرى الرجل شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين”. حسبك فقط استبدال تعبير “العصبية” بمفهوم “الشعبوية” لتقول مع ذاك اليوناني جملته المأثورة: حسبك فقط أن تغّير الاسم، أليست هذه قصتك أنت؟
لن يقدم هذا الكتاب الإجابات المنتظرة على مجمل الأسئلة التي يطرحها، ولكنه يحرص بالتأكيد على تفكيك منطق صراع الثقافات ومواجهة الممارسات العنصرية التي ينتجها وأي شكل من أشكال التمييز الثقافي والاجتماعي والسياسي التي تنمو كالفطر في أزمان البؤس. وأخيرا، وليس آخرا، الحرص ليس فقط على الكرامة الإنسانية لكل أبناء الجنس البشري وإنما على اعتبار هذه الكرامة وحدة متجانسة متكاملة متنصبة رغم كل الفاشيات الصغيرة والكبيرة، فوق الحدود والأجناس والألوان والأديان.
ثمة لحظات سوداوية تمر بين الأسطر والأحداث والأفكار، لحظات تذكّر بتلك المعركة الجياشة التي خاضتها بغداد الحضارة في أوج الصراع بين المعرفة الحكمية والمعرفة الدينية، الاضطرابات العميقة التي حملتها معركة الخروج من الكائن القاصر في عصر التنوير الأوربي. وعودة الروح للعالمية بعد أن قتلت العصبيات الأوربية أكثر من خمسين مليون آدميا دون أية فاتورة منطقية للحساب.
لم تكن بداية القرن الواحد والعشرين مدعاة للتفاؤل، حتى لا نقول بأنها تُقدمُ لشبح أفول الحضارة قوة استحضار مخيفة. لكن التاريخ البشري يعلمنا رفض الخط البياني الواحد ورفض أية حتمية. وحتى لا تضيع البوصلة بين عقم الأقلام وبؤس الأوضاع والنضال اليومي، لا يسعني إلا أن أنهي هذه المحاولة بمأثورة جميلة لميشيل فوكو تقاوم كل الرؤى الكارثية للمستقبل: “لا تتصور أن من الضروري أن تكون حزينا لتكون مناضلا، حتى لو كان ما تحاربه بغيضا وبائسا. فالعلاقة بين الرغبة والواقع (وليس الهرب إلى تعبيراته التمثيلية) هي التي تملك القوة الثورية”.