في التراث العربي الإسلامي ارتبطت المقاومة بمناهضة الظلم بكل المعاني والسياسي منها بشكل أساسي. وقد غطت كلمة الجهاد الفضاء الرئيسي لتعبيراتها السلمية والمسلحة.
أما في التراث الأدبي الغربي، فقد تبلور “حق المقاومة” ضمن ثلاث جبهات:
الأولى: على خلفية عقيدة بروتستنتية دخلت القاموس مع الحروب الدينية. وعلينا انتظار قرنين من الزمن لظهور الكلمة عن مفكرين كاثوليك
الثانية: العلاقة بين مفهوم المقاومة هذا مع تطور مفهوم آخر هو “العقد الاجتماعي” بتعبيراته الأولى (حوالي 1579م). حيث كان الحديث عن عقدين اجتماعيين: الأول بين الله والشعب والثاني بين الملك والشعب. وأي انتهاك من قبل الملك للدين الحنيف يعني انتهاكه لهذا العقد،ويسمح بالتالي للشعب بممارسة حق المقاومة.
الثالثة ويمكن متابعتها منذ القانوني غروتيوس (1583-1645م) الذي ينطلق من فكرة احترام الحق الطبيعي للأشخاص. وكون أي اعتداء على حق طبيعي يستوجب الرد فانتهاك هذا الحق هو الذي يمنح حق مقاومة الظلم والعسف.
يمكن اعتبار إعلان الاستقلال الأمريكي (4/7/1776) أول وثيقة تنص صراحة على حق المقاومة. ينطلق الإعلان في إقراره لحق المقاومة من مبدأ اعتبار السلطة العادلة تلك التي تنشأ من اتفاق المحكومين. وأن الاعتداء على هذا العقد الاجتماعي من قبل المستعمرين يعطي الحق للناس في قطع أي التزام لهم مع السلطة الاستبدادية كحق وواجب. ويؤكد النص على أن المقاومة المسلحة هي المرحلة الأخيرة للاحتجاج ضد الهيمنة الاستعمارية (الإنجليزية يومئذ) في المستعمرات الثلاثة عشر الأمريكية. لقد أصبح هذا النص المبكر مرجعا للعديد من حركات التحرير الوطني في القرنين التاسع عشر والعشرين.
الشرعية وغيابها، كانت أيضا وراء نقاشات حق المقاومة خاصة عند استعمالها للعنف. وقد أقر “إعلان حقوق الإنسان والمواطن” (1789م) أربعة حقوق طبيعية للإنسان لا يجوز المس بها: حق الملكية، حق الحرية، الحق في الأمن، الحق في مقاومة الظلم والاستبداد. بحيث أصّل لهذا الحق في الاتجاهات المدافعة عن هذه الحقوق بشكل مبكر. وقد اعتبرت المادة 33 من النص الثاني لإعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر في 1793، أن حق مقاومة الظلم هو النتيجة الطبيعية لحقوق الإنسان الأخرى. أما “إعلان حقوق وواجبات الإنسان الاجتماعي”، الذي أقرته أمة جنيف في 9/6/1793، فقد أقر في المادة العاشرة حقوقا ستة هي: المساواة والحرية والأمن والملكية والضمان الاجتماعي ومقاومة الظلم. واعتبرت المادة 44 أن لكل مواطن الحق في مقاومة الظلم، ويحدد شكل المقاومة في الدستور..”.
أوربة المستفيدة من الاستعمار المباشر ستكون آخر المتبنين لمفهوم مقاومة الاستعمار وآخر القابلين لفكرة حق تقرير المصير. وحتى في الأوساط اليسارية في القرن التاسع عشر، كان يجري الحديث عن توسيع الحقوق السياسية للبلدان المستعمرة لا عن حق تقرير المصير.
كان لثورة أكتوبر وولادة الأممية الثالثة شرقاً، والرئيس الأمريكي توماس ودرو ويلسون (1856-1924) غرباً، الفضل في إعادة الاعتبار لمفهوم المقاومة، بدفاعهما عن حق الشعوب في تقرير مصيرها. الأمر الذي لم تقبل به عصبة الأمم، التي أصرت على مفهوم الشعوب البالغة والشعوب القاصرة .
إلا أن حركات التحرر الوطني بدأت تنمو من الصين حتى المغرب، ولم يعد بالإمكان الدفاع طويلا عن موضوعة الشعوب القاصرة.
مع أنه كان أنموذجا للعلاقة الجدلية بين المقاومة والمواطنة والحريات والحقوق، “ميثاق المجلس الوطني للمقاومة” إلى مستوى حق تقرير شعوب المستعمرات لمصيرها. هذا النص، وأهمية هذا النص وجود تصور متكامل ليس فقط للنضال ضد الفاشية، وإنما إعادة إعمار فرنسا بعد التحرير. فهو ينص على:
– إقامة الديمقراطية الأكثر اتساعا بإعطاء الكلام للشعب وإقرار الاستفتاء العام،
– الحرية الكاملة للفكر، للضمير والتعبير،
– حرية الصحافة، شرفها واستقلالها، واستقلالها عن الدولة وسلطان المال والتأثيرات الأجنبية،
– حرية التنظم والتجمع والتظاهر،
– احترام حرمة المنازل وسرية المراسلات،
– احترام الشخص الإنساني،
– المساواة المطلقة لكل المواطنين أمام القانون.
وقد طالب الميثاق ببناء ديمقراطية اقتصادية واجتماعية، والتنظيم العقلاني للاقتصاد، وتطوير ودعم التعاونيات الانتاجية، وحق العمال في احتلال مواقع أساسية في مصانعهم، وحق العمل والإجازة وتثبيت حد أدنى للأجر، وتعزيز استقلال النقابات، وإعداد خطة كاملة للضمان الاجتماعي.
نلاحظ بمرارة أن إعلان الاستقلال الأمريكي لم يرتق إلى علاقة مساواة مع الهنود والسود، كما أن “مشروع إعلان المقاومات الأوربية” (1944) لم يجرؤ على حل ديمقراطي حقوقي لموضوع المستعمرات.
هذه النقاط السوداء في معركة “حق المقاومة” استمرت في أروقة الأمم المتحدة التي خرجت من سيطرة أوربة الغربية. وبالتالي أقر ميثاق الأمم المتحدة في المادة الأولى منه: حق تقرير المصير والمساواة في الحقوق بين الشعوب. جاء في المادة 55 :”رغبة في تهيئة دواعي الاستقرار والرفاهية الضروريين لقيام علاقات سلمية ودية بين الأمم المتحدة مؤسسة على احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها”. ورغم ذلك خاضت الشعوب المستعمرة حروبا طاحنة من أجل الاستقلال في أكثر من بلد لرفض الدول المستعمرة التخلي سلميا عن مستعمرات”ها”.
لعل التوصية رقم 1514 (15) حول منح الاستقلال للشعوب والأقاليم المستعمرة، تاريخ 14 ديسمبر 1960، تشكل النص الأوضح والأكثر تقدما على هذا الصعيد، حيث جاء فيها:
“1- إن خضوع الشعوب للاستعباد الأجنبي أو سيطرته أو استغلاله يعتبر إنكارا لحقوق الإنسان الأساسية ويناقض ميثاق الأمم المتحدة ويهدد قضية السلام والتعاون في العالم.
2- لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها، ولها بمقتضى هذا الحق أن تحدد بحرية نظامها السياسي وأن تسعى في ظل هذه الحرية إلى تحقيق نموها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
3- يجب ألا يتخذ بأي حال تخلف الإقليم في الميدان السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو التعليمي ذريعة لتأخير الاستقلال.
4- يوضع حد لجميع أنواع الأعمال المسلحة أو أعمال القمع الموجهة ضد الشعوب غير المستقلة، وحتى تتمكن من أن تمارس في سلام وحرية حقها في الاستقلال التام وتضمن سلامة إقليمها الوطني.
5- كل محاولة تستهدف التقويض الجزئي أو الكلي للوحدة القومية أو سلامة إقليم أي بلد تعتبر منافية لأهداف ميثاق الأمم المتحدة.”.
مهدت هذه التوصية لإقرار مبدأ حق تقرير المصير في المادة الأولى من العهدين الخاصين للحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وتعبيرا عن آلام القارة السوداء، نال حق المقاومة وتقرير المصير حيزا هاما في الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، حيث جاء في المادة 20:
“1- لكل شعب الحق في الوجود ولكل شعب حق مطلق وثابت في تقرير مصيره وله أن يحدد بحرية وضعه السياسي وأن يكفل تنميته الاقتصادية والاجتماعية على النحو الذي يختاره بمحض إرادته.
2- للشعوب المستعمرة المقهورة الحق في أن تحرر نفسها من أغلال السيطرة واللجوء إلى كافة الوسائل التي يعترف بها المجتمع.
3- لجميع الشعوب الحق في الحصول على المساعدات من الدول الأطراف في هذا الميثاق في نضالها التحرري ضد السيطرة الأجنبية سواء كانت سياسية أم اقتصادية أم ثقافية.”.
مع نهاية الحرب الباردة، خرجت فكرة حق المقاومة من مجرد حق شعب في الدفاع عن نفسه. فقد تداخلت معالم الاستبداد والاستعباد على الصعيد الدولي، وأصبح حق حماية الشعب الفلسطيني مثلا مسؤولية دولية. كما أن إمكانية هذا الشعب للنهوض بعد التحطيم المنهجي الإسرائيلي لمقومات وجوده تعتبر قضية إقليمية وعالمية وليس فقط فلسطينية. إن غياب الدعم الإقليمي والعالمي لا يعني فقط معاناة فلسطينية، بل يعني بكل بساطة أن شعوب المنطقة يصعب أن تشعر بالأمان في ظل غياب الأمان بكل مفاهيمه عن الإنسان الفلسطيني.
في تاريخ البشرية وحتى يومنا، كان الأقوى هو الذي يفرض قواعد الحرب والسلم. لكن أيضا وللأسف، طبائع البشر أثناء الحرب والسلم. بهذا المعنى، يبقى الأقوى المسؤول الأول عن البعد الأخلاقي للأشكال التي تأخذها المقاومة، باعتبار الظلم منتج أساسي للاعقلانية والحقد في العلاقات بين الإنسانية. فمهما كانت مباحثات القوة في مجلس الأمن منتجة لقرارات تنكر على الشعوب حقها في مقاومة الاحتلال في العراق وفلسطين وصد العدوان على لبنان. فإن المشكلة مع هذه القرارات أنها تخالف ميثاق الأمم المتحدة والشرعة الدولية لحقوق الإنسان. وليس لأن متطرف مثل بولتن ترجم رأيه في قرار مجلس أمن فإن على الناس تعديل الشرعة الدولية لحقوق الإنسان لتنسجم وفق مزاج ومصالح الإدارة الأمريكية. وإن كان من نتيجة كارثية على الصعيد الدولي لأمر كهذا، فهي أنه يوجه ضربات قاتلة لمصداقية المؤسسة الدولية أولا، لا لحق المقاومة المتأصل في كل الثقافات الإنسانية والذي يعتبر منذ إعلان الاستقلال الأمريكي حقا أساسيا من حقوق الإنسان.
لقد تم إقرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كما تقول ديباجته، “حتى لا يلجأ المرء آخر الأمر للتمرد”.
في كل اغتيال للحقوق الأولية للبشر، ينتفض حق المقاومة شامخا على لسان كل الأحرار والشرفاء الذين يدركون جيدا، أن إلغاء هذا الحق من قاموس حقوق الإنسان، يعني ليس فقط انتصارا للظلم والاستعباد، بل وبكل بساطة تأبيد الإرهاب.
مداخلة قدمت في ندوة- إفطار نظمتها اللجنة العربية لحقوق الإنسان بعنوان “في فكر المقاومة” المنطقة الباريسية، 20/10/2006