أكتوبر 13, 2024

العدالة الدولية في الميزان !

www.public-domain-image.com (public domain image)
www.public-domain-image.com (public domain image)

 أرّخت نهاية الحرب العالمية الثانية لانتقال مفهوم الاختصاص القضائي فوق الوطني أو العالمي من أدبيات القانون وكتب الفلسفة إلى التطبيق. محكمتا نورنبرغ وطوكيو كانتا عسكريتان واستثنائيتان، وضمتا قضاة عسكريين من الدول المنتصرة الكبيرة. إلا أن مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي  Universal Jurisdiction  لم يلبث أن يدخل سلطة القضاء الجنائي الوطني للبحث في الأعمال الاجرامية الخارجة عادة عن اختصاصه التقليدي. أي عدم التقيد بمكان وقوع الفعل، أو أحد عناصره المكونة للجريمة، أو جنسية المجني أو جنسية المجنى عليه. دخل هذا الاختصاص القوانين في عدة بلدان أوربية مبكرا. وأكدت عليه اتفاقية مناهضة التعذيب منذ 1986، ولو أن النص عليه بشكل واضح  بدأ في التسعينيات. وهو مطبق اليوم في تشريعات عدة بلدان أوربية مثل إسبانيا والدانمارك وبلجيكا وسويسرا.

خلق مجلس الأمن عبر صلاحياته محاكم دولية خاصة بالزمان والموضوع ad hoc، ذات علاقة مباشرة بالمحاسبة في الجرائم الجسيمة (جرائم الإبادة الجماعية، الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب). المحكمة الأولى فرضها القرار 808 الذي صدر في 22 شباط/ فبراير 1993 “بهدف محاكمة الأشخاص الذين يفترض أنهم تورطوا بانتهاكات جسيمة للحق الإنساني الدولي والتي ارتكبت على أراضي يوغوسلافيا السابقة منذ 1991”. ونشأت المحكمة الثانية بعد قرار مجلس الأمن 955 الصادر في 8 نوفمبر/تشرين الثاني 1994 “لمحاكمة المسؤولين عن ارتكاب أعمال إبادة وانتهاكات أخرى للقانون الدولي الإنساني والتي كانت رواندا مسرحها، والمواطنين الروانديين المتهمين بمسؤوليتهم عن هذه الأعمال والانتهاكات التي مارسوها على أراضي محاذية لبلدهم بين بداية يناير/كانون الثاني ونهاية ديسمبر/كانون الأول 1994”. تشكلت هذه المحكمة بناء على نفس قواعد محكمة يوغوسلافيا السابقة وتقيم أيضا في لاهاي وأروشا. (لن نتعرض للمحاكم الأخرى مثل سيراليون وكمبوديا وتيمور الشرقية لطابعها المختلط أو المهجن، رغم كل ما اقتبسته من القانون الجنائي الدولي).

عرفت العدالة الجنائية الدولية تقدما كبيرا مع اتفاقية روما الموقعة في 17 يوليو/ تموز 1998 التي دخلت حيز التنفيذ في بداية يوليو/تموز 2002. هي محكمة مؤلفة من 18 قاضي ومقرها في لاهاي، ومؤهلة بموجب البند الخامس لنظامها للنظر “في الجرائم الأكثر شناعة والتي تمس المجموعة الدولية بكاملها”(جرائم الإبادة الجماعية، الجرائم ضد الإنسانية، جرائم الحرب وجريمة العدوان). يخول النظام الأساسي للمحكمة الطعن بأية حصانة شخصية أو وظيفية لأي متهم بارتكاب جرائم جسيمة.

لا يضع تشكيل المحكمة الجنائية الدولية حدا بالمقابل لكل عوامل غياب المحاسبة. فبشكل عام، يمكن اعتبار نظامها ثمرة تسوية بين المتمسكين بالسيادة الوطنية، وأنصار الحق في التدخل، بما سمح “بإدخال عدة إجراءات تحمي سيادة الدولة”.

-في المقام الأول، أهلية المحكمة ليست إلا مسألة “فرعية”. حسب البند 17 من نظامها، لا تمنح المحكمة الأهلية الحق في التدخل عندما تكون القضية موضوع ملاحقات من قبل دولة ما “إلا بحال عدم امتلاك الدولة الرغبة أو القدرة على تقصي الحقائق كما يفترض أو القيام بالملاحقات”. كذلك بحال أن هذه الدولة قد أجرت التحريات بالقضية، لكنها ترفض القيام بالملاحقات المطلوبة “إلا إذا كان القرار هذا غير نابع عن عدم رغبة أو نتيجة عجز الدولة عن القيام فعليا بالملاحقات”. مبدأ التكامليّة  complementarity)) هذا مازال يكتنفه الغموض، خاصة في حالة طلب مجلس الأمن للمحكمة التدخل.

-ثانيا، المحكمة لا تملك أهلية للبت بالقضايا التي سبقت وضعها موضع التنفيذ، أي بداية يوليو/تموز 2002.

-ثالثا، صلاحياتها لا تشمل إلا الجرائم التي ارتكبت على أرض دولة عضو أو أن يكون المتهم مواطنا لبلد عضو(إلا إذا تم تكليف مجلس الأمن للمدعي العام النظر في الجرم). وهذه نتيجة لا مفر منها لاصباغ الطابع التوافقي للمحكمة والذي يشير في الوقت عينه إلى أن العدالة الدولية لها حدودها.

في وضعه الحالي، يترك القانون الدولي في كل الأحوال مساحات خاضعة لمشيئة علاقات القوة. مما يجعلنا نخلص للقول أنه، وإن كان هناك من تقدم قد أحرز في ميدان مكافحة غياب المحاسبة، فالنجاح الدائم يمر عبر تمتين القانون سواء على الصعيد الداخلي أو الدولي.

لم تكن تجارب المحاكم الجنائية الدولية الخاصة خالية من الشوائب والعقبات. فقد أصرت فرنسا على تحديد زمان اختصاص المحكمة الخاصة برواندا، وعدم شمول الصلاحيات الأوربيين (معروف وجود مسؤوليات جنائية لطرفين غير أوربيين هما فرنسا والفاتيكان). أما بالنسبة لمحكمة يوغسلافيا السابقة، فلم يكن اعتقال الحيتان الكبار مطروحا على بساط البحث. ولدينا كمنظمات غير حكومية وسلطة رابعة، وثائق تثبت مكان وعمل وحركة المطلوبين الرئيسيين للمحكمة (رادوفان كاراتزيك وراتكو ملاديتش) منذ 1997 .

لا يمكن لناشط مدني ومدافع عن استقلال العدالة، أن يناضل من أجل استقلال القضاء على الصعيد الوطني والإقليمي، ولا يخوض هذه المعركة على الصعيد الدولي. ولعل من بؤس طالع البشرية أن القوة الصاعدة منذ مطلع القرن العشرين (الولايات المتحدة الأمريكية) تعاملت باستمرار بمنظار الريبة والشك والرفض لفكرة مؤسسة للعدالة الدولية. ففي عام 1921، رفضت الانتساب للمحكمة الدائمة للعدالة الدولية. لكن اضطرت للمشاركة في محكمة العدل الدولية لارتباطها الهيكلي بالأمم المتحدة. وفي المباحثات الأولية لولادة المحكمة الجنائية الدولية، أصرت الوفود الأمريكية على أن تكون المحكمة هيئة معاهدة (على نسق اتفاقيات جنيف)، لا مؤسسة تابعة للأمم المتحدة. الأمر الذي لا يلزمها بأي تصديق أو اعتراف بالسلطة القضائية الدولية الجديدة. لكنها بنفس الوقت، كانت حريصة على محاربة فكرة استقلال القضاء الدولي. فأي استقلال لسلطة قضائية عالمية يعني نوعا من المساواة الإسمية بين الدول الضعيفة والدول القوية.

جاء إعلان روما كحل وسط بين سلطة قضائية فعلية، ومؤسسة قضائية تابعة لمجلس الأمن. فقد أعطي المدعي العام والقضاة صلاحيات هامة مقابل حق التدخل لمجلس الأمن.

كانت الدول تعرف ماذا تفعل، سواء عند تصديقها أو امتناعها. وكذلك حال مجلس الأمن. ومن المؤسف القول أن المشكلة الأساسية تتركز اليوم في أن نقطة ضعف المحكمة صارت في هامش القوة الطبيعي للمنظمات غير الحكومية والضحايا، أي السيد المدعي العام.

من المفهوم أن تجربة أوكامبو خارج أمريكا الجنوبية محدودة جدا. وأن جهد الادعاء العام في محاكمات المجرمين في الأرجنتين قد ضربها قرار الرئيس الأرجنتيني “منعم” بالعفو العام. وأن لديه معرفة محدودة بالمجتمعات والصراعات الإفريقية. لكن هذا لا يسمح بغياب استراتيجية عمل واضحة لقطب الرحى في نجاح المحكمة. ولا يعذره من بشاعة التحول إلى متلق لتعليمات من مجلس الأمن والدول الموقعة.

فقد ناضلنا بحزم من أجل  صلاحية المدعي العام في الشّروع في تحقيق، بالاستناد إلى مبادرته الشّخصية (proprio motu – من تلقاء نفسه). واليوم نجده أمام أربع ملفات، أحيل إليه ثلاثة منها عن طريق الحكومات والرابع من مجلس الأمن. ومن المضحك أن نقرأ في إعلام، يقول بأنه رصين، جملة: (في أول أسبوع من عمله فتح المدعي العام ملفات 4 دول: أوغندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وجمهورية أفريقيا الوسطى والسودان. وحقق بجرائم جماعية وإبادات حدثت فيها وأرسى العدالة في 3 منها، وبقي السودان الآن). الأمر غير ذلك تماما. ثلاث قضايا هي في طور التحضير، وقضية الكونغو في حالة فقدان توازن.

في 23 يونيو/حزيران 2004، شرع المدعي العام في أول تحقيق تجريه “المحكمة الجنائية الدولية” بخصوص الجرائم التي ارتُكبت خلال النزاع في جمهورية الكونغو الديمقراطية منذ 1 يوليو/تموز 2002. وجاء هذا التحقيق بعدما أحالت حكومة جمهورية الكونغو الديمقراطية الوضع إلى المحكمة. حسب منظمة العفو الدولية ولجنة حقوق الإنسان أسفر هذا النزاع، الذي دام عقداً من الزمان، عن مصرع أكثر من أربعة ملايين شخص في جمهورية الكونغو الديمقراطية. وارتكبت القوات المسلحة الحكومية وجماعات المعارضة المسلحة جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب. بما في ذلك القتل والاغتصاب وتجنيد الأطفال والاسترقاق الجنسي وغيره من أشكال العنف الجنسي.

في 17 مارس/آذار 2006، أصدرت “المحكمة الجنائية الدولية” أمراً بالقبض على توماس لوبانغا دييلو، الذي اعتبر مؤسس وزعيم “اتحاد الوطنيين الكونغوليين”، وكان محتجزاً في جمهورية الكونغو الديمقراطية. وقد سُلم إلى المحكمة في 20 مارس/آذار 2006 . اتُهم بتجنيد أطفال دون سن الخامسة عشرة وإشراكهم بشكل نشط في العمليات الحربية. وبعد عامين من اعتقاله، أوقفت المحكمة الاجراءات   sine die(إلى أجل غير مسمى) في 13حزيران/يونيو 2008، لعدم توفر شروط المحاكمة العادلة. وطالب القضاة بالإفراج عن المتهم، وكذلك فعل محاميه الذي نوه إلى أن موكله لا يملك وثيقة سفر، وملاحق دوليا، وغير قادر على مغادرة هولندا، ولا يمكن اعتقاله لأجل غير مسمى مثلما هو حال وقف المحاكمة. إلا أن غرفة الاستئناف طالبت بوقف قرار الإفراج، في إجراء طوارئ في 7/7/2008. بحيث يمكن القول أن المحكمة وبقاء دييلو معتقلا، مجمّدين لأجل غير مسمى.

توماس لوبانغا دييلو متهم اعتقلته دولته. وبالتالي لم يكن من تداعيات على الأمن والسلام في بلده نتيجة وضعه في سجن هولندي لمدة عامين، وعدم معرفة ما سيكون مصيره بعد وقف المحاكمة. المشير البشير هو في أعلى مواقع المسؤولية في بلده. فما هي النتائج التي تترتب على سيناريو فيلم هوليودي بدخول شرطة دولية وسودانية مشتركة القصر الجمهوري لاعتقاله؟

في ملتقى نظمه فريق البحث في العدالة الانتقالية في جامعة أكسفورد في ايار / مايو  2008 استضاف أكامبو، اعتبر المدعي العام الدور الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية هو تنسيق عملها مع الفاعلين الحكوميين وغير الحكوميين، من أجل المساعدة على وضع حد للصراع. وقال في هذا الملتقى، أن المحكمة “ليست أكثر من قطعة من قطع أحجية صنع السلام”.

هل المدعي العام مقتنع بهذه الجملة؟ وهل بالفعل لديه نظرة شاملة للقضاء، بعلاقة مع السلم ووقف الصراعات المسلحة؟ لا يظهر تاريخ المدعي العام القصير أنه أصولي في تطبيق العدالة الدولية. على العكس من ذلك، يأخذ بعين الاعتبار موازين القوى الدولية في كل الملفات الحساسة، مثل السودان والعراق وفلسطين. من هنا الخطر الكبير على صورة العدالة الجنائية وصيرورتها، في الوعي الجماعي الجنوبي، غرفة تأديب لمجلس الأمن.

لحسن الحظ أن هناك من يرفض الوقوع في ثنائية تبسيطية: دعم المتهم أو دعم المحكمة.  فالمنظمات الأكثر جدية والأقل مشهدية تتابع بعين نقدية أوضاع المحكمة. وثمة دراسات من خبراء دوليين ومنظمات حقوقية تظهر، ليس فحسب ضعف الإدعاء العام، بل غياب رغبة التعاون مع الفضاء غير الحكومي. كذلك الثقة الضعيفة لدى أوكامبو بالملفات التي تصله من المنظمات غير الحكومية (التي إما يهملها أو يجيب عليها بشكل متعجرف، خاصة منها المتعلقة بدول ذات نفوذ مثل إسرائيل والولايات المتحدة وبريطانيا).

يذكرنا الوضع الأعرج للمحكمة الجنائية الدولية اليوم بمحكمة العدل الدولية في سنواتها الأولى. فقد أصدرت المحكمة في 1951 حكما ضد حكومة مصدق الإيرانية لصالح الشركة البريطانية للنفط. كانت المحكمة ما زالت تحت الهيمنة الإيديولوجية للدول الاستعمارية الكبيرة، ومع ذلك كان الموقف الأكثر حكمة يومها عند عدد من الحقوقيين، استنكار قرار المحكمة والمطالبة بمحكمة عدل دولية تحترم مقومات العدالة والحقوق الإنسانية، محكمة أقل ارتهانا للدول الكبرى. بعد ثلاثين عاما أدانت المحكمة نفسها أكثر من دولة كبرى بما في ذلك الولايات المتحدة في قضية الكونترا في نيكاراغوا. ولا أظن بأننا بحاجة لثلاثين عاما لنرى محكمة جنائية دولية مستقلة عن عيون مجلس الأمن والهيمنة، ولكن من الضروري وجود جيل ناقد يمتلك رؤية نقدية مستقلة ولا يكتفي بدور المروج حينا المهرج أحيانا أخرى.

ضمن هذا التصور الدينامي والنقدي، نتمسك بالعدالة الجنائية الدولية، لأننا لا نعتبر مؤسسات هذه العدالة هياكل جامدة نهائية وقانونها الأساسي ميثاقا مقدسا. فهي ابنة اليوم والحقبة وموازين القوى والصراعات والتوازنات وقوة المجتمعات المدنية، في مواجهة عنجهية القوة. وهي تنم عن قدرة البشرية على بناء منظومة متوازنة في السياسة الدولية، تحول دون هيمنة طرف على السلطة التنفيذية الدولية (مجلس الأمن). استقلالية المحاكم الدولية اليوم أسيرة مجموعة عوامل أعقد وأكثر تشابكا من استقلالية العدالة الوطنية بل والإقليمية. ولكنها مرحلة انتقالية في معركة دائمة، لن تأخذ معانيها التاريخية إلا بدخول مفهوم الاستقلال للعدالة الجنائية الدولية. أي القدرة على مقارعة قوة العدالة لتعليمات القوة.

—————————

نشرت في القدس العربي اللندنية والبديل المصرية

16-09-2008