تطرح اللجنة التحضيرية لمؤتمر دعم وتعزيز استقلال القضاء خمسة أسئلة منهجية وعقلانية لتطالبنا بتناول وضع غير عقلاني، حتى لا نقول وضعا يجمع بين السريالية والتعسف المطلق.
أظن أن من حقي على أبواب الذكرى الأربعين لإعلان حالة الطوارئ في سورية والاستنزاف المنهجي للسلطة القضائية أن أتساءل:
– ما هو الحجم الفعلي لوزير العدل في السلطة التنفيذية وفي العلاقة مع القضاة؟
– هل يمكن الحديث عن حجم يذكر للولاية القضائية في كل القضايا الهامة المطروحة عليه وبخاصة في ملفي الفساد والاستبداد؟
– عندما يكون القضاء الاستثنائي خلايا سرطانية في جسم القضاء، هل يمكن أن ينجو الجهاز من آثارها بعد أربعين عاما من جعل “الخارج عن القضاء” السلطة “القضائية” الأعلى في البلاد؟
– كيف يمكن التحدث عن ضمانات استقلال القضاة وقد أممت السلطة التنفيذية شروط ومعايير الاختيار وألغت مفهوم الحصانة؟
أليس من الأفضل حكاية القصة التي أوصلتنا إلى المأساة الحالية علّ أطفالنا يتعلمون من دروسنا؟
* * *
أدت حركة الثامن من آذار 1963 إلى تأميم السلطتين التشريعية والقضائية وجمع القرار بيد السلطة التنفيذية، بل وجرى نوع من الازدراء بالشكليات بحيث لم يكن من الضروري لاستمرار حالة الطوارئ لمدة أربعين عاما أن يصوت مجلس الشعب على مشروعيتها مرة واحدة. كما أن الدستور الحالي الذي يقترب من الثلاثين من عمره، أعطى في المادة 153 الحياة والبقاء للتشريعات النافذة التي صدرت قبل إعلانه إلى أن تعدل بما توافق أحكامه. ومن مآسي التاريخ أن لا يجري أي تعديل ينال القضاء الاستثنائي الذي همّش هذا الدستور طيلة عقود زمنية ثلاثة.
بالرغم من المصائب البنيوية في صلب الدستور نفسه، فهو لم ينص على أهمية مبادئ حقوق الإنسان التي باتت أكثر دساتير الدول الديمقراطية تنطوي عليها باعتبار أن المعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان ذات قوة مرجعية أقوى من القوانين المحلية. كذلك لم يجر التنويه في أي مكان منه إلى العهدين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية اللذين وقعتهما سورية قبل الدستور بأربعة أعوام. ورغم أن أحكام الدستور جاءت في ظل سريان حالة الطوارئ والأحكام العرفية المعلنة منذ 8/3/1963 والمراسيم الجزائية الخاصة، فلم تطرح يوما دستورية أي من هذه الأحكام على بساط البحث وكأنها أقوى من الدستور نفسه. لقد بلغ المحامي عبد المجيد منجونة عين الصواب حين وصف هذا الوضع العجائبي بالقول:
“لما كان فرضُ حالة الطوارئ والأحكام العرفية الذي صدر بموجب القرار رقم 2 لمجلس قيادة الثورة 8/3/1963 قد صدر بشكل مخالف للأصول التي نص عليها قانون حالة الطوارئ بالمادة 2 من المرسوم 51/1962 والذي أكد على أن إعلان حالة الطوارئ يتمُ بمجلس الوزراء وبحضور رئيس الجمهورية وعلى أن يعرض على مجلس النواب في أول اجتماع له وعلى أن يحددَ في مرسوم الإعلان، عن تطبيق الحالة، الصلاحيات والمدى والإجراءات التي يتم اتخاذها وهي خاضعة للتقييد والتوسيع من مجلس الوزراء.
ولما كان الدستور الدائمُ قد صدر في عام 1973 ومجلس الشعب المنتخب تتالتْ دوراتُه من عام 1973 وحتى الآن، دون أن تعرض الحالة عليه أو يقف عند الحدود والصلاحيات الممنوحة للحاكم العرفي أو نائبه مما يجعل من الإعلان عن فرض حالة الطوارئ 1963 معدوما وفاقدا لأي أثر أو مفعول قانوني وعلى كل الجهات صاحبةُ الصلاحية (المحكمة الدستورية العليا – مجلس الشعب – القضاء العادي) عدم العمل به من خلال الامتناع عن إعطاء أية مفاعيلَ للأوامر الصادرة عن الحاكم العرفي أو نوابه ولا يغني الإعلان عن عدم اللجوء للأوامر العرفية إلا في الحالات التي تستدعي ذلك وفي أضيق الحدود لأن هذا الإعلان يبقى معلقا على إرادة من أطلقه ولا يستند إلى أي مرجعية قانونية، وخاضعاً لتقديرات الحاكم العرفي والسلطة (1)”.
تلغي مقدمة الدستور – التي تعتبرها المادة 150 جزءاً لا يتجزأ منه – الوجود المواطني والقانوني والتشريعي لمن يختلف مع إيديولوجية حزب البعث، بتحويلها خطاب الحزب الحاكم إلى معتقد لكل مواطن وإعلان مبادئ لكل عمل سياسي. فهي بالتالي تشطب مفهوم التعددية السياسية لحساب التنظيم السياسي الموحد، وتلغي حق الاختلاف بتحديد العلاقة بين المجتمع والحزب الحاكم بعلاقة قائد برعية يقودها.
إذاً، تجعل ديباجة الدستور من إيديولوجية حزب البعث فكرا للشعب كله، وتوكل المادة الثامنة للحزب المذكور قيادة الدولة والمجتمع. كذلك تختار أكثر من مادة، إضافة للديباجة، نهج “الديمقراطيات الشعبية” في أوروبا الشرقية (حلف وارسو السابق) كمنظم للعلاقة بين النقابات والأحزاب والأفراد والجماعات من جهة، وحزب البعث الحاكم من جهة ثانية. من هنا “منطقية” طرح العديد من القضاة البعثيين السؤال عن حق غير البعثيين في ممارسة القضاء، في حين يتحدث رجال القانون عن “لا منطقية” وجود أكثر من ثلثي القضاة من البعثيين في وقت تحظر المادة 81 من قانون السلطة القضائية على القاضي أن يكون منتمياً إلى حزب سياسي.
نص الدستور السوري رغم ثغراته الكبيرة على استقلال السلطة القضائية، حيث جاء في المادة 131 منه: السلطة القضائية مستقلة ويضمن رئيسُ الجمهورية هذا الاستقلال يعاونه في ذلك مجلس القضاء الأعلى .. ونصت المادة 132 على أن يرأس رئيسُ الجمهورية مجلسَ القضاء الأعلى ويبين القانون طريق تشكيله واختصاصاته وقواعد سير العمل به.
وجاء في المادة (133) 1 – القضاة لا سلطانَ عليهم في قضائهم لغير القانون. 2 – شرف القضاء وضميرهم وتجردهم ضمان لحقوق الناس وحرياتهم.
لكي يتحلى القاضي بالحيادِ وعدم الخضوع لأية سلطة قد تؤثرُ في قناعاته أو تدفع به لاتخاذ قراراتٍ لا تنبعُ من قناعاته وما توفرَ في الإضبارة من أدلة أو قرائن، وإن كان قانون السلطة القضائية “يحظر على القضاة إبداء الآراء السياسية والاشتغال بالسياسة”، فقد أكد قانون العقوبات العسكرية في الفصل الثامن منه وتحت عنوان عدم انتماء العسكريين إلى الأحزاب السياسية وعدم الاشتراك في الأعمال السياسية وفي المواد 147 حتى 15. منه نص على عقوبات تتراوح بين ستة أشهر وحتى عشر سنوات، وهذه النصوص تشملُ القضاةَ العسكريين.
رغم أن أي من هذه النصوص لم يجر تجميدها فقد اتبعت السلطة نهج “الجيش العقائدي” الذي ينتمي ضباطه وجنوده لحزب البعث ويحظر ذلك على الأحزاب الأخرى بما فيه تلك المشاركة في الجبهة. من هنا كانت مأساة المحاكم العسكرية منذ 1965 التي كان على رأسها ضباط من حزب البعث والتي قامت بإصدار أحكام بالإعدام والسجن المؤبد والمؤقت دون أي احترام للإجراءات القانونية العادية. والمأساة الأكبر، كما تؤكد كل المصادر الحقوقية السورية، تكمن في أنه لم يتم تعيين قاضٍ في العشرين سنة الأخيرة تقريبا إذا لم يكن بعثيا. كان هناك سياسة مقررة عن سابق إصرار وتصميم لتطبيق سياسة التحزيب (الانتساب للحزب الحاكم) بشكل كامل بالنسبة لقضاة التحقيق والنيابة العامة. مما يسمح بالحديث عن قضاء التعليمات بكل معنى الكلمة (2).
في التاريخ العربي الإسلامي، كان ثمة تأكيد على مسائل جوهرية تحدد من المترتبات السلبية للعلاقة الهلامية بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية. منها، الحث الدائم على الاستقلال المادي والمعنوي للقاضي، عدم وقوعه في العوز، عدم وجود فكرة العزل إلا بالنسبة للمناصب ذات الطابع السياسي كقاضي القضاة، عدم الاعتداء على القاضي إلا في الكبائر. ويتندر العديد من المؤرخين بالقول: كان من القضاة من لهم حصانة في ارتكاب المعاصي لكونهم قضاة. وقد أكد المدافعون عن فكرة فصل السلطات على ضرورة الفصل بين السلطة التنفيذية وقضايا العزل والإيقاف والتقاعد الإلزامي لأسباب سياسية. كذلك تم في وقت مبكر تشكيل النوادي والهيئات المستقلة للقضاة التي تهدف لبناء الحصانة الذاتية والتفاعل الدائم وتنمية إمكانيات المهنة والأشخاص الذين يقومون بها.
للأسف، هذه التقاليد لم تدخل القضاء السوري بشكل فعلي لسببين: الأول، أن السيرورة العالمية لاستقلال القضاء وحماية القضاة كانت في طور التكون في الحقبة التي بدأت فيها عملية تحديد سلطات القاضي في سورية. الثاني، أنه في فترة تبلور وسائل الحماية من عسف السلطة التنفيذية على صعيدي منظمات استقلال القضاء غير الحكومية والمجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة، كانت السلطة العسكرية الأمنية قد بدأت سيرورة تهميش وإذلال السلطة القضائية. فصار تجويع القاضي من وسائل السيطرة على القضاة المستقلين بما يدفعهم للرشوة أو الاستقالة، بحيث لا يوجد جسم اجتماعي وثقافي واحد مستقل للقضاة في سورية. لو قرأنا بيان مديرية الخدمات الاجتماعية أو وزارة العدل، لوجدنا غيابا واضحا في استعراض الجمعيات والمؤسسات التطوعية واتحاداتها لكل ما يتعلق بمهنة القضاء. لذا لا يستغرب، كما يذكر الأستاذ هيثم المالح، عند العودة إلى نصوص قانون السلطة القضائية الحالي أن نجد أن هذه الحصانة هي حصانة اسمية ووهمية. “فقد رفعت حصانة النقل عن قضاة الحكم متى أريد ترقيتهم، وعن القضاة الذين أمضوا مدة ثلاث سنوات فأكثر في مراكزهم عندما تقضي الضرورة بنقلهم. في حين أن التشريعات السابقة لم تكن تسمح بالنقل إلا بموافقة القاضي الخطية حتى لو كان من أجل ترقية (المادة 79 من المرسوم التشريعي رقم 80 لعام 1947 والمادة 96 من المرسوم الاشتراعي لعام 1946). كما أن التشريع الحالي سمح بنقل قضاة الحكم إلى النيابة العامة (مادة 83) دون موافقة القاضي. وبهذا تكون حصانة القاضي ضعيفة وعرضة للسلب (3)”.
إن سلطةَ تعيين القاضي وترفيعه بيد السلطة التنفيذية ممثلةً بوزير العدل ورئيس الجمهورية، كما وتتدخل في قرار التعيين والنقل والعزل والإيقاف والإحالة إلى التقاعد جهات عديدة منها الأمن والحزب وإدارته (المحامي العام) يضاف لذلك خضوع القاضي بشكل مباشر أو غير مباشر للتسلسل الإداري والحزبي والأمني .. مما حولَ القضاةُ وخاصة أجيالهم الجديدة إلى موظفين كجزء من الجهاز الإداري الذي يدير مصالح الدولة وإداراتها .. ولو عدنا إلى تشكيل مجلس القضاء الأعلى وفق نص المادة 65 من قانون السلطة القضائية نجده يتألف من:
رئيس الجمهورية .. ينوب عنه وزير العدل الذي هو عضو في مجلس القضاء الأعلى،
رئيس محكمة النقض
النائبين الأقدمين لرئيس محكمة النقض
معاون وزير العدل
النائب العام
رئيس إدارة التفتيش القضائي
من هذا التشكيل يتبينُ أن عددَ القضاة (الذين يمارسون عمليا القضاء) ثلاثةٌ وأن الأربعة الآخرين هم من السلطة التنفيذية أو قريبين منها (فقضاة النيابة العامة وفق الفقرة الأولى من المادة 56 من قانون السلطة القضائية يرتبطون بقاعدة تسلسل السلطة يرأسهم وزيرُ العدل وهم ملزمون باتباع الأوامر الخطية الصادرة إليهم من رؤسائهم – فقرة 2).
من المأساة القول إنه حتى هذا الوضع غير المتوازن قلما تم احترامه، وكان القرار في المسائل المشار لها يرتبط حصرا بممثلي السلطة التنفيذية.
لقد خصص الدستور للسلطة التنفيذية المواد من 83 إلى 130 في طغيان واضح لصلاحياتها، وخاصة تلك الممنوحة لرئيس الجمهورية، على صلاحيات السلطتين التشريعية والقضائية.
يمارس الرئيس باسم حزب البعث سيطرة وتحكما شاملا بمجلس الشعب، مؤكداً بذلك نجاح اختيار الحزب لرئيس الجمهورية. أما الشعب فليس أمامه سوى خيار وحيد: هو التصديق باستفتاء على الترشيح.
لرئيس الجمهورية الحق في تسمية نائب له أو أكثر ومجلس وزراء ووزراء ونوابهم وقبول استقالتهم وإعفائهم من مناصبهم (المادة 95). كما له الحق بإحالة الوزير للمحاكمة (المادة 123)، وسط غياب دور رئيس مجلس الوزراء الذي يتمتع بصلاحيات مقيدة. بالنتيجة، الجميع مسئولون أمام رئيس الجمهورية (المادة 117)
أشار الدستور السوري إلى أن رئيس الجمهورية يضع السياسة العامة للدولة بالتشاور مع مجلس الوزراء ويشرف على تنفيذها (المادة 94). ولم يعط هذا الدستور أي دور لمجلس الشعب في مراقبة ومناقشة هذه السياسة. فدوره محصور فقط في مناقشة مجلس الوزراء والوزراء وحجب الثقة عن الوزارة أو أحد الوزراء (الفقرة 3، 8 من المادة 71).
أما الجهة المخولة بالرقابة على دستورية القوانين فهي المحكمة الدستورية العليا التي يتم تسمية أعضائها من قبل رئيس الجمهورية (المادة 139) دون أي دور يذكر للسلطة القضائية والتشريعية. يخضع البت في هذه الدستورية لشروط، بناء على اعتراض من قبل رئيس الجمهورية أو ربع أعضاء مجلس الشعب (المادة 145/1). مما يعني أنه لا يحق لأية جهة أخرى من أحزاب الجبهة أو المنظمات أو الهيئات أو الجمعيات أو الأفراد الاعتراض على دستورية القوانين (4).
لقد قام الأستاذ إبراهيم فوزي وغيره من الحقوقيين المقربين من حافظ الأسد بتفصيل الدستور انطلاقا من فكرة مخاطر السلطة القضائية (البرجوازية) على استقرار سلطة الرئيس. لذا أعدوا نصا مغلقا لسلطة تسلطية تستفرد بزمام الأمور. فالمادة 135 من الدستور تجعل من القانون منظما للجهاز القضائي بجميع فئاته ودرجاته وتبني قواعد الاختصاص لدى مختلف المحاكم. ورغم أن هذا الدستور قد تم تفصيله على شخصية حافظ الأسد الجانحة للاستفراد بالسلطات والقيادة، لم يطرح ابنه الرئيس الشاب حتى اليوم فكرة تعديل الدستور باتجاه دمقرطته.
كان من نتائج ترك الأمر للقانون الاستثنائي الخروج على المبادئ القانونية الأولية وقتل التقاليد العريقة للقضاء العادي. إضافة إلى ما أشارت إليه المادة 153 من الدستور حول بقاء التشريعات النافذة التي صدرت قبل إعلان الدستور سارية المفعول إلى أن تعدل بما توافق أحكامه. من هذه النتائج: العمل بالمحاكم الاستثنائية نتيجة نظام الطوارئ والأحكام العرفية، المعلن منذ 8/3/1963، والقوانين الجزائية الخاصة التي توالت بعده. مما أدى إلى عدم التمسك بالمبادئ الأساسية في قانون أصول المحاكمات الجزائية. وهو ما ينسحب على القضاء العسكري ومحكمة أمن الدولة العليا. هذه الأقضية لا تتقيد بالقواعد والشروط اللازمة لتعيين القضاة، في الوقت الذي اتفقت فيه معظم الدساتير في العالم على أنه لا يجوز حرمان شخص من القاضي الطبيعي الذي يعينه القانون.
منذ قانون حماية الثورة، الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 6 تاريخ 17/1/1965، حل القضاء الاستثنائي تدريجياً مكان القضاء العادي وجرت عملية تهميش الجهاز القضائي وضرب استقلاليته في الصميم. في فترة انتقال الحكم للجنرال الأسد، تم إسناد السلطة القضائية إلى جمع من المحاكم الاستثنائية في كل ما يتعلق بالنضال السياسي والنقابي والشئون العامة للناس. وكي يعطي الخطوط العامة لسياسته الأمنية والقضائية، دشن الجنرال حافظ الأسد فترة حكمه في مطلع آب 1971 بمحاكمة أكثر من 400 بعثي أمام محكمة أمن الدولة وإصدار أحكام قاسية بحقهم. وكون محكمة أمن الدولة هي النجم البارز في الهوية القضائية لحقبة كاملة، فلا بد لنا من أن نتوقف عندها بعض الشيء:
حلّت محكمة أمن الدولة، التي كان يتولى رئاستها باستمرار قيادي من حزب البعث موال للرئيس، مكان المحكمة العسكرية الاستثنائية. تمتعت بسائر صلاحياتها واختصاصاتها بموجب المرسوم التشريعي رقم 47 تاريخ 28/3/1968، حيث تنظر بالجرائم التالية:
– الجرائم الواقعة على أمن الدولة المعاقب عليها في المواد من 263 إلى 311.
– الأفعال التي تعتبر مخالفة لتطبيق النظام الاشتراكي سواء أوقعت بالفعل أم بالقول أم بالكتابة أم بأية وسيلة من وسائل التعبير أو النشر.
– الجرائم الواقعة خلافا لأحكام المراسيم التشريعية التي صدرت أو ستصدر ولها علاقة بالتحويل الاشتراكي.
– مخالفة أوامر الحاكم العرفي.
– مناهضة تحقيق الوحدة بين الأقطار العربية أو مناهضة أي هدف من أهداف الثورة أو عرقلتها سواء كان ذلك عن طريق القيام بالتظاهرات أو التجمعات أو أعمال الشغب أو التحريض عليها أو نشر الأخبار الكاذبة بقصد البلبلة وزعزعة ثقة الجماهير بأهداف الثورة.
– قبض المال أو أي عطاء آخر أو الحصول على أي وعد أو أية منفعة أخرى من دولة أجنبية أو هيئة أو أفراد سوريين أو أي اتصال بجهة أجنبية بقصد القيام بأي تصرف قولي أو فعلي معاد لأهداف الثورة.
– الهجوم أو الاعتداء على الأماكن المخصصة للعبادة أو لممارسة الطقوس الدينية أو على مراكز القيادة والمؤسسات العسكرية والدوائر والمؤسسات الحكومية الأخرى والمؤسسات العامة والخاصة بما فيها المعامل والمصانع والمحلات التجارية ودور السكن، أو إثارة النعرات أو الفتن الدينية أو الطائفية أو العنصرية، وكذلك استغلال هياج الجماهير والمظاهرات للإحراق والنهب والسلب.
توسع اختصاص محكمة أمن الدولة العليا بعد صدور قانون أمن حزب البعث العربي الاشتراكي رقم 53، تاريخ 8/4/1979، رغم أن هذا القانون لم يحدد المحكمة صاحبة الاختصاص للنظر في الأفعال المنصوص عليها. كذلك بعد أن كانت محاكم ميدانية أمنية وعسكرية تطبق القانون 49 (7/7/1980) الذي يعاقب كل منتسب لحركة الإخوان المسلمين بالإعدام. نلفت النظر إلى أن لمحكمة أمن الدولة اختصاص مطلق، حيث لها حق البت في أية قضية يحيلها إليها الحاكم العرفي (المادة 5)، كما وتشمل جميع الأشخاص من مدنيين وعسكريين مهما كانت صفتهم أو حصانتهم (المادة 6).
بناء على ذلك، لمحكمة أمن الدولة العليا الحق أيضاً بالنظر في الدعوى فيما إذا كان المتهم حدثا لم يتم الثامنة عشرة من العمر. وقد أشارت المادة 7 لحق الدفاع بمقتضى التشريعات النافذة. مما يعني أنه يجوز للمتهم تسمية محام وفق الأصول المتبعة في القضاء العادي. لكن محكمة أمن الدولة لم تلتزم بذلك، فتسمية المحامين تتم من قبلها مباشرة أو من قبل نقابة المحامين بناء على طلب موجه منها.
لا تتقيد هذه المحكمة بالإجراءات الأصولية المنصوص عنها في التشريعات النافذة، وذلك في جميع أدوار وإجراءات الملاحقة والتحقيق والمحاكمة. فالنيابة العامة تتمتع بجميع صلاحيات قاضي التحقيق وقاضي الإحالة في القوانين النافذة (المادة 7 الفقرة ب). لهذه المحكمة الحق أيضاً في الفصل في الحقوق والتعويضات المدنية عن الأضرار الناجمة عن الجرائم التي تفصل فيها (المادة 7 الفقرة ج). كما ولا تقبل الأحكام الصادرة عنها الطعن بأي طريق من الطرق. لكنها لا تصبح نافذة إلا بعد التصديق عليها بقرار من رئيس الدولة الذي له حق إلغاء الحكم مع الأمر بإعادة المحاكمة. وحق إلغاء الحكم مع حفظ الدعوى أو تخفيض العقوبة أو تبديلها بأقل منها. قراره في هذا الشأن مبرم لا يقبل أي طريق من طرق المراجعة (5).
اعتبر الفقه بأن قرار رئيس الجمهورية الصادر في معرض البت في أحكام محكمة أمن الدولة العليا ليس قرارا قضائيا بل إداريا. وهو من أعمال السيادة التي لا تقبل الطعن أمام أي مرجع قضائي أو إداري، لأنه من متعلقات أمن الدولة.
استنادا إلى كل هذا، جرت خلال فترة الرئيس حافظ الأسد محاكمة آلاف الشخصيات والقيادات السياسية من كل الأحزاب المعارضة العلمانية والإسلامية دون استثناء. ولم يحل سياسي واحد للمحاكمة أمام محكمة عادية، وبقي بعض القادة السياسيين في السجن 22 عاما دون محاكمة أو توجيه تهمة أو مقابلة شخص واحد له علاقة بالقضاء العادي أو الاستثنائي. وعندما جرت محاكمة النائبين رياض سيف ومأمون الحمصي لأول مرة أمام محكمة “عادية” كان القضاء العادي من البؤس في تبعيته بحيث تمنى المحامون أن يبقى في نطاق الزواج والطلاق والنزاعات بين المستأجر والمالك. ففي قصر العدل الذي جرت فيه المحكمة قاعة للفرقة الحزبية وقاعة البيعة وصور تمجيد.
عندما لا يمثل المتهم أمام محكمة أمن الدولة كان يمكن أن يتعرض لشكلين آخرين من القمع السياسي: الأول، القتل في محاكم ميدانية أو بدونها ولدينا قوائم بالمئات، والخطف الذي شمل أكثر من ثلاثة آلاف مفقود. الشكل الثاني، البقاء في السجن دون محاكمة لفترة قد تتعدى عقدين من الزمن. بحيث يناهز مجموع الذين أمضوا في السجن أكثر من عام لأسباب سياسية دون رؤية نائب عام أو قاضي إحالة أو قاضي تحقيق في العقود الثلاثة الأخيرة 18 ألف معتقل.
أمام ذوبان السلطة القضائية في أماكن تعبيرها عن نفسها ضعفت الثقافة القضائية والاجتهاد القانوني والاستنباط التشريعي. لقد زادت العلة، كما يقول المحامي عبد الوهاب بدره “إلى درجة لم يعد معها النص القانوني قادرا على الوقوف في وجه الظاهرة الجرمية التي كان قد وضع من أجلها” (6).
لعل في المثل الذي تناوله بالبحث الأستاذ بدره ما يعطي المثل الحي على ما نقول:
في الطابق الأخير من قصر العدل بدمشق توجد محكمة الأمن الاقتصادي. تتسم جلسات هذه المحكمة بالسرية ويمنع المحامون من الاطلاع عليها، وهي أقرب منها لجهاز تحقيق أو أمن.عرفت هذه المحكمة تطورا غريبا يدل على مدى تخبط أشخاص قليلي الكفاءة عندما يتسلمون مهمات كبيرة كوزارة العدل والقضاء بين الناس.
ففي تاريخ 9/4/1981، صدر القانون رقم 11 الذي أعطى الحق لمحاكم الأمن الاقتصادي أن تنظر في جرائم التهريب إذا تجاوزت قيمة المواد المهربة مبلغ 30 ألف ليرة سورية ثم رفع المبلغ إلى ثلاثمائة ألف ليرة سورية. وأصبحت قضايا التهريب تنظر أمام مرجعين قضائيين، محكمة الجنايات ومحكمة الأمن الاقتصادي.
بتاريخ 21/8/1986 صدر المرسوم التشريعي رقم 23 لعام 1986 الذي ألغى الهيئة الاتهامية التي تصدر قرارات الاتهام في الجرائم الاقتصادية الجنائية.
وبتاريخ 23/9/1986 أي بعد شهر من إلغاء الهيئة الاتهامية صدر المرسوم التشريعي رقم 29 لعام 1986 الذي أخضع قرارات محاكم الأمن الاقتصادي للطعن بالنقض فيما عدا قضايا التهريب وجرائم تداول العملات والمعادن الثمينة.
كل ذلك مع عدم الإخلال بالمواد 333 أصول جزائية المتعلقة بمحاكمة المتهم الفار و366 المتعلقة بالنقض بأمر خطي والمادتين 367 و368 المتعلقتان بإعادة المحكمة.
وقد أعطت التعديلات نتائج غير منطقية كتعدد المراجع القضائية في قضايا التهريب وصيرورة أحكام محاكم الأمن الاقتصادي مبرمة في قضايا قابلة للطعن في أخرى.
مما زاد الأمور تعقيدا، كما يوضح الأستاذ عبد الوهاب الدرة:
“التفسير الخطأ لأحكام المادة الخامسة من قانون تشكيل محاكم الأمن الاقتصادي المتعلقة بالاختصاص المكاني لكل محكمة من المحاكم الثلاث، محكمة دمشق ومحكمة حلب ومحكمة حمص”.
فحين صدر قانون تشكيل محاكم الأمن الاقتصادي نص في مادته الخامسة على ما يلي:
أ – تشكل كل من دوائر محاكم الأمن الاقتصادي ويحدد اختصاصها المكاني بقرار من وزير العدل وتصدر أحكامها من رئيس وعضوين.
ب – يجوز بمرسوم إحداث محاكم أخرى للأمن الاقتصادي في غير مراكز المحافظات المذكورة في المادة الأولى من هذا المرسوم. وهي محافظات دمشق وحمص وحلب.
وتبعا لما نصت عليه هذه المادة .. فقد أصدر السيد وزير العدل آنذاك المرحوم أديب النحوي قرارا برقم 2958 تاريخ 12/12/1979 حدد فيه الاختصاص المكاني لهذه المحاكم على الشكل التالي:
أ – محكمة الأمن الاقتصادي في دمشق .. ويشمل اختصاصها المكاني محافظات دمشق ودرعا والسويداء والقنيطرة.
ب – محكمة الأمن الاقتصادي في حمص ويشمل اختصاصها المكاني محافظات حماه وحمص واللاذقية وطرطوس.
ت – محكمة الأمن الاقتصادي في حلب ويشمل اختصاصها المكاني محافظات حلب وإدلب ودير الزور والحسكة والرقة.
هكذا حدد الاختصاص المكاني لكل محكمة بالمحافظات الأقرب إليها والأسهل اتصالا بها.
استمر العمل بهذا التوزيع سبع سنوات إلى أن أصدر وزير العدل الأسبق شعبان شاهين القرار رقم 1487/ل تاريخ 12/10/1986 وهذا نصه:
– يشمل الاختصاص المكاني لمحكمة الأمن الاقتصادي في دمشق، سائر محافظات القطر عند الاقتضاء.
وأراهن بأن هذا القرار قد صدر بالاتفاق بين وزير العدل ورئيس محكمة الأمن الاقتصادي في دمشق الأستاذ خالد الأنصاري. لأن هذا الأخير .. كان على صلة قوية بالوزير.
وكان مكتب الوزير .. مقراً لرئيس محكمة الأمن الاقتصادي، يتواجد فيه بمناسبة وبغير مناسبة. ولكن يبدو أن إشكالا قد ظهر بين وزير العدل ورئيس محكمة الأمن الاقتصادي فأصدر السيد الوزير بتاريخ 15/1/1987 كتابا طلب فيه عدم إحالة أية قضية اقتصادية تنفيذا للقرار 1487/ل إلا بموافقة مسبقة من وزير العدل!!
وبعد حوالي أسبوعين، وجه السيد الوزير كتابا مؤرخا 27/1/1978 وبرقم 920 فوض السيد خالد الأنصاري رئيس محكمة الأمن الاقتصادي في دمشق بإحالة القضايا التي يرى ضرورة رؤيتها في دمشق وذلك لإشعار آخر.
ويبدو أن العلاقة بين وزير العدل شعبان شاهين والسيد خالد الأنصاري كانت خلال هذه الفترة بين مد وجزر. حين تصفو العلاقة .. تزداد المهام، وعندما تتعكر العلاقة .. تتقلص المهمات.
إلى أن أصبح السيد خالد الأنصاري وزيرا للعدل فأصدر القرار رقم 101 تاريخ 24/1/1991 وحسم الخلاف بينه وبين الأستاذ شعبان شاهين وقرر ما يلي:
أولاً – ينعقد الاختصاص المكاني لمحكمة الأمن الاقتصادي في دمشق بالجرائم التالية حيثما وقعت وبصرف النظر عن مكان ضبطها:
أ – الجرائم المنصوص عنها والمعاقب عليها بمقتضى أحكام المرسوم التشريعي رقم 24 تاريخ 31/8/1986 المعدل (وهو المرسوم المتعلق بتهريب وتداول العملات والمعادن الثمينة)
ب – جرائم تهريب المواد المخدرة.
وبتاريخ 1/10/1991 أصدر الوزير خالد الأنصاري رحمه الله القرار 1046. ويلاحظ من خلال هذا القرار أنه حدد اختصاص محكمتي حلب وحمص بالجرائم التي تقع ضمن حدود المافظة فقط.
ولما أصبح الأستاذ عبد الله طلبه وزيرا للعدل:
أصدر قرارا أنهى العمل به بأحكام القرار 1046 و101 اللذين أصدرهما خالد الأنصاري.
ثم جاء الوزير الأستاذ حسين حسون فأعاد العمل بالقرار 1046 و101.”
يعطي هذا المقطع فكرة جيدة عما آلت إليه قرارات وزير العدل ومدى جديتها وموضوعيتها.
ويسألنني المنظمون عن الحل، وأبقى مع محاضرة المحامي بدره والنقاش الذي تبعها حيث وجه له أحد الحاضرين نفس السؤال فأجاب: “الحل يكمن في رأيي في تسريح 75 في المائة من القضاة السوريين”.
حسب رأيي، أصبح الإصلاح الدستوري والسياسي ضرورة مركزية لأي إصلاح قضائي لأن الجرثومة التي أتلفت الجسد لا تشكل جزءا من العلاج.
__________
* مفكر عربي ومتحدث باسم اللجنة العربية لحقوق الإنسان، محرر موسوعة الإمعان في حقوق الإنسان، والمقال في الأصل مداخلة قُدمت إلى مؤتمر العدالة العربي الثاني في القاهرة 23/2/2003.
هوامش:
1 – سيادة القانون .. واستقلال القضاء، نص المحاضرة التي ألقاها المحامي عبد المجيد منجونة (أمين سر اللجنة المركزية لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي) في منتدى جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي4/11/2001.
2 – الغفران للدكتور نور الدين الأتاسي الذي وقّع على المرسوم التشريعي رقم 40 والذي ينص على:
“رئيس الدولة
بناء على أحكام قرار القيادة القطرية المؤقتة لحزب البعث العربي الاشتراكي رقم 2 تاريخ 25/2/1966 وعلى قرار مجلس الوزراء رقم 334 تاريخ 29/5/1966
يرسم ما يلي:
مادة 1 خلافا لجميع الأحكام النافذة ولا سيما المادة 92 من قانون السلطة القضائية ذي الرقم 98 تاريخ 15/11/1961 وتعديلاته،
يجوز لمجلس الوزراء لمدة أربع وعشرين ساعة ولأسباب يعود تقديرها إليه أن يقرر:
1) صرف القضاة من الخدمة،
2) نقلهم من ملاكهم إلى أي ملاك آخر.
لا يشترط في هذا القرار أن يكون معللا أو أن يتضمن الأسباب التي دعت للصرف من الخدمة أو النقل.
يسرّح القاضي المقرر صرفه من الخدمة أو ينقل بمرسوم غير قابل لأي طريق من طرق المراجعة ولا يختص مجلس الدولة أو الهيئة العامة لمحكمة النقض أو أي مرجع قضائي أو إداري آخر للنظر في الاعتراض أو الطعن بالمرسوم المذكور وتصفى حقوق المسرّح وفقا لأحكام قانون التقاعد.
مادة 2 ينشر هذا المرسوم التشريعي ويعتبر نافذا فور صدوره.
دمشق في 9/2/1386 و29/5/1966″ انتهى المرسوم.
شمل هذا النص عند صدوره 24 قاضيا منهم رئيس محكمة النقض عبد القادر الأسود الذي رأس المحكمة في سورية ومصر في عهد الوحدة، الأستاذ علي الطنطاوي المفكر الإسلامي المعروف والمحامي هيثم المالح رئيس جمعية حقوق الإنسان في سورية اليوم. لم يحتج الجنرال الأسد عند اعتقال رئيس الجمهورية الأتاسي لإحالته إلى أية محكمة، بل أبقاه في السجن لمدة 22 عاما أفرج عنه بعدها وهو مصاب بسرطان متقدم، ليقضي نحبه في المشفى الأمريكي بالضاحية الباريسية بعد حملة دولية قمنا بها لمعالجته خارج البلاد، رضخ لها الأسد.
3 – الأستاذ هيثم المالح، القضاء في التشريع السوري، في: الديمقراطية وحقوق الإنسان في سورية، 18 باحثا سورية، اللجنة العربية لحقوق الإنسان ومنشورات أوراب، 2000، ص225
4 – الدكتورة فيوليت داغر (إشراف)، الديمقراطية وحقوق الإنسان في سورية، 18 باحثا سورية، اللجنة العربية لحقوق الإنسان ومنشورات أوراب، 2000، ص 449 وما بعدها
5 – نفس المصدر
6 – المحامي عبد الوهاب بدره، مأساة العدالة الجنائية، محاضرة في مدينة الرقة. يمكن إدراك النتيجة التي وصل إليها التخبط والتخلف على صعيد الممارسات القضائية عبر تتبع أنموذج خاص تناوله بالدراسة بشكل مسهب المحامي عبد الوهاب بدره.
الحوار المتمدن-العدد: 421 – 2003 / 3 / 11 – 03:28