يمكن القول أن السياسة الخارجية مرآة لصحة الجسد، أي الذات السياسية أو السيادة. هي تعبير جوهري عن فكرة الدور، وترجمة النظرة للنفس والآخر. السيادة هنا، باعتبارها الشرط النظري لسيرورة تسلم الناس مصائر حياتهم بأنفسهم، أي السلاح الحقوقي والاستراتيجي المشبع بالقدرة على التعبئة الداخلية التي تسمح بسياسة خارجية فاعلة: الثقة بالذات التي تنبع عادة من شرعية سياسية-ثقافية وشعور بالأصالة المجتمعية، تمنح السياسة الخارجية دورا كاريزمياً لا يتطابق بالضرورة مع الحجم الفعلي للدخل الوطني. وأخيرا، العلاقة بين النحن والآخر، بمعنى التصور السياسي والاقتصادي والثقافي لطبيعة العلاقات بين الدول والشعوبوثنائيات التفاعل بين الإنساني: العزلة – التدخل، العمل الفردي – العمل الجماعي، القيم-المصالح، الحياد -الانحياز، المثالية – البراغماتية، المشاركة- الهيمنة، التعاون-السيطرة .. وما من شك أن المساحات الرمادية بين هذه الثنائيات تحتل الهامش الأكبر في حقيقة السياسة الخارجية لدولة أو حزب أو منظمة غير حكومية.
نقرأ في الصفحة الويب الرسمية للخارجية الفرنسية الجملة التالية: “ترتكز السياسة الخارجية الفرنسية على تقليد ديبلوماسي قائم منذ عدة قرون، وعلى بعض المبادئ الأساسية: حق الشعوب في تقرير مصيرها، واحترام حقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية، واحترام دولة القانون والتعاون بين الأمم. وفي هذا الإطار، حرصت فرنسا على الحفاظ على استقلالها الوطني دون أن تكف عن العمل على تنمية أشكال من التضامن الإقليمي والدولي“. بالطبع لا يمكن لأي باحث في العلوم السياسية أن يأخذ على محمل الجد هذا المقطع. فالثورة الفرنسية التي حملت بضعاً من هذه المبادئ لا يزيد عمرها عن قرنين وعقدين تخللتهما ردات وانقلابات ونظم عسكرية واحتلال ألماني. ومن الصعب القول أن فرنسا بكل مكوناتها السياسية التي وصلت الحكم عملت بهذه المبادئ. فقد خسر الشعب الجزائري أكثر من مليون من أجل استقلاله، وآثرت معظم الحكومات الفرنسية العلاقة مع الحكومات التي تربطها بها علاقات استراتيجية ومصلحة قومية عليا (كالسعودية ومصر مثلا) بغض النظر عن طبيعتها الديمقراطية. وامتنعت الحكومة الفرنسية عن إدانة ضم إسرائيل لأراض سورية محتلة كما دعمت عسكريا عدة حكومات موالية لها في إفريقيا لا تمثل شعوبها بحال. فما معنى أن نتحدث عن ثوابت عمرها قرون ؟
بالتأكيد، لا تستطيع الحكومة المصرية أن تقول بأن ثوابتها اليوم تتقاطع مع ثوابت مصر الناصرية قبل نصف قرن. ففي عام 1957، نقرأ في الصحف المصرية حديثا عن سياسة عدم الإنحياز، وحقوق الشعب الفلسطيني المغتصبة من العدوان الصهيوني، وضرورة بناء الوحدة العربية، ونزع الاستعمار والتضامن الأفرو آسيوي.
لكن ثمة بالتأكيد منطق مرجعي قد يكون قراءة المصلحة القومية العليا عند رجل الدولة، أو مراعاة خلفيات الوعي الجمعي، كذلك استنباط التوجهات الأساسية في المجتمع السياسي والمدني وترجمتها في سياسة خارجية تعبر عن الهموم الرئيسية للناس. لكن هناك أيضا بالتأكيد لغة تجمعات الضغط والمصالح الاقتصادية التي تترجم حاجياتها في خطاب للسياسة الخارجية يتحدث عن الحكم الرشيد والديمقراطية دون أن ينوه بحال للخلفية الحقيقية للموقف السياسي المعلن.
عززت العولمة نسبية السيادة وحددت من نطاق سيادة الأصغر وتعبيرات أشكال ممارستها في السياسة الخارجية خاصة في السياسات الإقليمية، ووضعت الهيمنة الغربية قواعد تحدد أوليات الدول الغنية في القانون الدولي. فحركة البضاعة لا يجوز مراقبتها أما حق البشر في التنقل فهو مقيد بكل المعاني. إعلان الحليف حالة الطوارئ جزء من ضرورات دولة القانون وقيام دولة مارقة بهكذا إجراء هو انتهاك لحقوق الإنسان..إلخ.
حتى اليوم، الدولة الحديثة، التي بنيت على مفهوم الأمن، أكثر منه على أساس إقامة العدل، وبكل أحجامها، مازالت ضرورية لعملية حفظ التوازن الشكلي للعلاقات الخارجية بين الدول. ويمكن القول اليوم أن من النتائج المباشرة للحرب على الإرهاب والعدوان على العراق، تعزز مفهوم السيادة الافتراضية virtual للدول الضعيفة على حساب نظرية السيادة المباشرة للدولة العظمى. فقد أدى ضرب السيادة العراقية (إلغاء الجيش وحل المؤسسات الأساسية للدولة) إلى خلق وضع كارثي غير قابل للسيطرة، عزز فكرة أمريكية بديلة تقول بضرورة تحديد معالم الدور والنطاق والتصور للسياسة الخارجية للبلدان الحليفة كما للبلدان الخارجة عن المنظومة، مع بقاء المفهوم التقليدي للأمن الداخلي للدولة.
في غياب الشرعية السياسية الداخلية، شكلت السياسة الخارجية أحد مصادر الشرعية للسلطة التنفيذية. فالصراع العربي الإسرائيلي والتوازن الاستراتيجي العربي الفارسي والجهاد ضد الغزو السوفييتي لأفغانستان أصبحت في أوقات مختلفة مصدر التعبئة الوطنية وبديل الدولة المواطنية. الأمر الذي أدى إلى كوارث كبيرة عندما نسيت الدول الأطراف بأنها لا تتمتع بقوة داخلية (شرعية سياسية داخلية) تسمح لها بدور خارجي إلا ضمن رضا القوى العظمى. ما نراه جليا في اطمئنان الرئيس العراقي صدام لاحتلال الكويت بعد حربه مع إيران، أو غياب أي مبرر لاستمرار الوجود العسكري السوري في لبنان بعد تحرير الجنوب. مع ما حققت هذه التصرفات من نتائج كارثية على صعيد سيادة دول المنطقة، نتائج توضح مدى خطورة غياب الشرعية السياسية الداخلية على هوامش السياسة الخارجية. ولكنها أيضا تحمل كل مخاطر الجنوح المقابل: أي شعور من استقوى من الضحايا بأنه قوي بالفعل. أي أن تتصرف مثلا إمارة الكويت كقوة إقليمية لمجرد قيام تحالف دولي واسع لإعادتها للوجود، أو يتحدث بعض سياسيي 14 آذار/مارس في لبنان بوصفهم راسمي معالم الشرق الأوسط الجديد. هنا تتم ولادة سيادة افتراضية مضخمة تحمل كل مخاطر التحطيم الذاتي.
مسئول سياسي مثل هوغو شافيز، لا يمكن أن يقترح تجمعا اقتصاديا جديدا (ALBA) في مواجهة التجمع بين الأمريكي المبارك من واشنطن (ALCA) لو لم يملك صندوق الانتخابات الحرة وآبار النفط وتيار قاري تحرري مناهض للهيمنة الأمريكية الشمالية الغارقة حتى الثمالة في المستنقع العراقي. بتعبير آخر، هناك الزمان والمكان والحاجة الوطنية الفعلية وقوة الموضوع في الوعي الجماعي أو قدرته على الاستقطاب الشعبي وقدرة أعدائه على تحجيمه أو ضربه كعناصر متحركة من الضروري أخذها بعين الاعتبار عند كل موقف استراتيجي هام في العلاقات الخارجية.
—————————
عن الطبعة الورقية لصحيفة “البديل” المصرية 17 72007