أبريل 14, 2024

الانتقال المعطل وحقوق الإنسان في سورية

hamahنظرت في قائمة غير كاملة للمعتقلين، فإذا بمجموعة أسماء مازالت في السجن منذ ربع قرن. صحيح أن السلطة السورية في ظل آل الأسد قد عودتنا على تجاوز ربع القرن دون الإحساس بأن هناك شيء ما خارج طبيعة الأشياء، إلا أن العصر لم يعد يحتمل الأحقاد المرضية للتجمع الأمني العسكري المهيمن والتي جعلتنا نعيش، منذ انقلاب 1970، مجازر كبيرة وعمليات اعتقال ماراتونية وخطف وقتل خارج القضاء، ومحاكمات ميدانية وأخرى استثنائية. في ذلك تغييب للدستور الذي تم تفصيله على قّد المستبد، ولم يعرف الشعب السوري من خيراته شيئا يذكر، رغم أنه ينتمي لحقبة ما قبل سقوط المعسكر البيروقراطي الذي نصّب اشتراكيا.

تلخصت نظرية الجنرال حافظ الأسد في الحكم بضرورة الاعتماد على العصبيات التقليدية في أجهزة الأمن المختلفة والقوات المسلحة الخاصة لضمان ولاء أجهزة القمع المباشر وغير المباشر، ثم معالجة الملفات السياسية على نار هادئة. وكان لديه كامل الثقة بصلاحية أسلوبه لكل مكان وزمان، لذا لا يستغرب اعتماد نفس العقلية في إدارة الأوضاع اللبنانية.

إلا أن بداية هذا الأسبوع، وبعد نصف شهر على اغتيال رئيس الوزراء الأسبق الحريري، قد سجلت ثلاثة دروس لمن يبصر:

1-    فشل النهج الأمني في إدارة الحياة السياسية وبناء اقتصاد تنموي ومؤسسات دولة قانون على ضفتي الحدود السورية اللبنانية.

2-  غياب الدينامية عن متكلسي الفساد والاستبداد بحيث لم يروا، أن ما كان ورقة جيو سياسية محتملة قبل خمسة عشر عاما (الوجود السوري في لبنان) أصبح ورقة خاسرة بكل المعاني.

3-    أن النضال السلمي هو أضمن الوسائل للانتقال الديمقراطي وأن أبناء البلد، وليس الدبابة المحتلة، هم أقدر الناس على تحقيق هكذا انتقال.

في عام 1989، وصفت الخطوط العامة لاستفراد الأسد بالقرار ورئاسية التوجه بالقول: كانت أهم إجراءات الرئيس الجديد توحيد مراكز القرار وحصرها في حلقة ضيقة من المتنفذين العسكريين المحيطين به فيما أسميناه : التجمع المصلحي العسكري الحاكم. و “تشريع” الاستبداد عبر إعطائه الهياكل الدستورية والقانونية اللازمة. مع استمرارية تعطيل دستوره “هو” بديمومة حالة الطوارئ منذ 1963 وحتى اليوم، وإعادة تنظيم الحزب والمنظمات المكلفة بالوصاية على المجتمع “شبيبة، عمال، فلاحين، الخ” بتعزيز مواقع العناصر الوصولية والانتهازية الموالية للسلطة” (في أزمة المعارضة السورية، ص 8 ، 1989). المهم من نقل هذا المقطع، هو الوصول إلى فكرة مركزية هي: إن الذي فصّل الدولة على مقاس سلطته، نسي أن خلافته، لابنه أو لغيره، لن تكون يسيرة. فمن الصعب إلباس الثوب لشخص آخر، خاصة وأن عنصر الطاعة الوحيد عند الأجهزة الأمنية  ينبع من عنصرين، الأول موضوعي، يتعلق بأمن الجماعة الحاكمة بالمعنى العشائري والطائفي، والثاني ذاتي يقوم على الاستزلام الشخصي والموالاة المباشرة والإفساد المنهجي لضمان الطاعة. في الأشهر الأولى، لعب العنصر الموضوعي دورا هاما، خاصة وأن قطاعات واسعة من المجتمع، من كل الطوائف والأديان والمناطق، انطلقت من المصلحة الوطنية العليا رافضة منطق الثأر أو الصراع المفتوح الذي لم تكن مهيأة له بأي معنى من المعاني، خاصة وأن سورية من البلدان القليلة في العالم التي تم فيها تحطيم وتهشيم وتحييد النخب السياسية المعارضة بشكل منهجي خلال أربعة عقود. كان في هذا الإحساس الجماعي بالمسؤولية فرصة تاريخية للانتقال التدريجي من السلطة الأمنية العصبوية لدولة القانون. إلا أن ضعف شخصية وشرعية الخلافة، قد أعطت أجهزة الأمن ومافيات الفساد فرصة لا سابق لها في التحرك دون محاسبة. متناسية المجتمع والدولة والمصلحة الوطنية وواضعة مصالحها الضيقة فوق كل اعتبار، متكئة كالعادة، على الخيار الأمني لمواجهة المشكلات المنظورة وغير المنظورة.

في مجتمع تعرض للتحطيم المنهجي للتعبيرات السياسية والمدنية، لا يوجد إنتاج واسع للكوادر والقيادات، ويكفي شل قطاع منها بالسجن والحرمان من الحقوق المدنية والتجويع والنفي، للشعور بنوع من “الاطمئنان الكاذب” ولكن الضروري لهذا النمط من ممارسة الحكم.

رغم كل صرخات التحذير من ضرب المجتمع المدني الناشئ، قامت السلطة باعتقال العشرة الأفاضل وتهديد من لم يعتقل. ورغم كل المطالبات السلمية بفعل شيء يخفف من معاناة أكراد سورية، تابعت السلطة سياسة التهديد والوعيد والاستفزاز بحق قطاع هام من مواطنيها الذين لم تحل بعد المشكلة المزمنة لقرابة 200 ألف محروم من الجنسية منهم. وقد نالت ملاحقات واعتقالات أحداث القامشلي قرابة ألف شخص مازال أكثر من مئتين منهم في المعتقل. ورغم ضرورة معالجة الملف اللبناني بحكمة تأخذ بعين الاعتبار حالة الرفض للمنطق الأمني المفروض على بلد اعتاد التعددية والتمتع بالحريات وضعف أجهزة الأمن. كل هذه الموبقات، أعطت الولايات المتحدة أوراقا متعددة للضغط على سورية، ولم تلبث، بسبب أزمة تمديد الرئاسة، أن تبني حلفا فرنسيا أمريكيا ضد الوجود السوري هناك.

رغم هذا الوضع الدقيق والحساس، لا زلنا ممن يعتقد بأن التغيير السلمي هو الأنسب والأفضل للمجتمع السوري، لكن هذا التغيير يتطلب خطوات نوعية من أقطاب المعارضة الثلاثة الأساس:

المعارضة الوطنية الديمقراطية العلمانية

المعارضة الديمقراطية الكردية

المعارضة الإسلامية

بين أركان هذه التعبيرات حواجز موضوعية وذاتية، وفارق في السرعة وفي النظرة لطبيعة العلاقة مع الجبهة الوطنية التقدمية والسلطة التنفيذية في سورية اليوم.

هناك طرف في هذه المعارضة مازال يعتبر الأمن القومي قضية مركزية والخطر على الوطن يتطلب تحديد سقف المطالب، في نفس التجمع الذي يضم وجهة النظر هذه، هناك توجه ينطلق من أن لا وطن بلا مواطن ولا تحرير بدون حرية، وأن ما أوصلنا إلى الضعف الذي نحن فيه هو تضحيتنا بحقوق المواطنة على قربان الوطنية.

في الطرف الثاني: هناك توجه موجود عند بعض الأحزاب السياسية التي تعيش مخاض تغيير نوعي يقول التنظيم قبل الحركة، فلنبني منظمة قوية لتصبح المعارضة قوية وفاعلة. نحن نتوجه لهذا الرأي بالقول:  أحسن وسائل البناء الذاتي تكون بالتفاعل مع البناء الموضوعي والحوار الجماعي داخل وخارج السقف التنظيمي.

الثالث: توجه في صفوف بعض الأحزاب الكردية يقول قضيتي أولا، والقضايا الأخرى نناقشها مع من يتبنى موقفا واضحا من قضيتنا، ونحن عدد هام من الديمقراطيين الأكراد نقول لأصحاب هذا الرأي: من أكثر العناصر ضررا على قضية أن تتحول من قوة جاذبة إلى قوة نابذة تبعد الأغلبية عنها.

الرابع: توجه يقول لنبني خارطة سياسية على الطريقة المصرية تبعد حركة الإخوان المسلمين وتتحاور لبناء المستقبل. نحن وعدد هام من العلمانيين الديمقراطيين نقول: لقد انتهت العلمانية التسلطية لفشل ذريع ولا بد من تحالف واسع يضم كل رواد الإصلاح الإسلامي والعلمانيين الديمقراطيين.

الخامس: توجه يقول لا يوجد نظام ديمقراطي صرف كما لم تحدث في التاريخ ثورة طبقية صرفة، وبالتالي ليس من الممكن تحديد وسائل الانتقال مسبقا، غورباتشيف هو ابن النظام وضربه، يلتسين هو ابن الحزب الشيوعي ومنعه، إذن هل يمكن استبعاد كل أطراف السلطة عن حوار التغيير ووسائله؟ ومقابله من يقول لن نبحث بالسراج والفتيلة عن مسئول متنور في سلطة فاسدة ومفسدة. نحن نعتقد أن التعامل مع السلطة السياسية لا يمكن أن يتم بمواقف جامدة ونهائية، وإنما وفق مبدأ التفكيك السلمي التدريجي. بقدر ما تقدم السلطة من حريات بقدر ما تنقذ نفسها والبلاد من شحنات العنف المتزايدة وعناصر الاضطراب التي أصبحت في صلب كيانها الداخلي والإقليمي بسبب تعطيلها الإصلاحات السياسية ورفضها الحوار الجدي مع المجتمع ومصادرتها لحقوق الناس وتجميدها لقضايا أصبحت موجودة في متاحف الديكتاتوريات مثل الاعتقال التعسفي وبقاء أكثر من 27 ألف منفي طوعي مع عائلاتهم وأبنائهم في ظروف لا إنسانية بدون أية حماية ومحرومين بشكل أمني من حق الجنسية والإقامة الطبيعية في بلدانهم.

لقد تكرر على أسماع كل من يرغب فعلا بإنقاذ البلاد من الطريق المسدود الذي تسير فيه: أن إعادة الجنسية للمحرومين منها تتطلب قرارا من رئاسة الجمهورية تستغرق صياغته القانونية عشرة دقائق، إلغاء القرارات الإدارية العنصرية في مناطق الأغلبية الكردية في سورية تتطلب تعميما يلغيها من وزير الداخلية، إعطاء جواز سفر لكل سوري في الخارج يتطلب تعميما رئاسيا أو قرار من رئاسة الوزراء لا يحدث خللا في التوازن البشري أو السياسي أو الديمغرافي في البلاد.

 أخيرا، إعادة بناء الثقة مع المجتمع تتطلب اليوم، وهذا أضعف الإيمان، تعديلا دستوريا يشبه ذلك الذي نصّب بشار الأسد رئيسا، أي غير سلحفاتي. تعديل يستبعد المقدمة الإيديولوجية للدستور ليصبح لكل السوريين ويلغي هيمنة حزب البعث على الدولة والمجتمع ويقر التعددية السياسية والانتخابات الرئاسية ويؤكد على علوية الالتزامات الدولية السورية في مجال حقوق الإنسان.

 كل ما حدث ويحدث حتى اللحظة، هو غياب القرار السياسي والأمني للإصلاح. هذا الوقت المقتطع من تاريخ سورية مسؤولية كبيرة تتحملها السلطة التسلطية وحدها، حيث أن بوادر حسن النية من كل أطراف المعارضة لم تتوقف منذ وفاة الجنرال حافظ الأسد.

الخطوط الرئيسة لمداخلة فيينا بدعوة من جمعية الأكراد السوريين في النمسا وجامعة فيينا  في 4/3/2005*