لم تحرمنا الأنظمة العربية الشمولية من فصل السلطات وتوسيع الفضاء غير الحكومي ونشوء المقومات الأساسية للسلطة الرابعة، بل أيضا من الوعي المدني والحقوقي والسياسي. مما خلق حالة عدم توازن تغلبت فيها البنى العضوية التاريخية على البنى المدنية، وروح الثأر على روح العدل، كما وتأصل خوف السلطة أو القوة حتى لو كانت مجتمعية وجعل الشأن العام يطرح من منظور التأميم لا منظور التعميم. باختصار، لقد مست عملية تدنيس الوعي وتشويه العقل البشري كل الأعمار وكل مراحل التعليم.
قََتَلَ “الخطاب الوطني” في هذا المعمعان الوطنية والمواطنة وجرّد الناس من مكتسبات عصرهم التي جعلت من تكريم الإنسان وحماية حقوقه قاسما مشتركا أعلى للشعوب الطامحة لدور في هذا العالم. وصل الأمر في النهاية إلى يأس من نهاية النفق جعل من مأثورة “فليأت الشيطان” برنامجا سياسيا رد فعلي لعدد غير قليل من الناس.
هذا الإلغاء للآخر ولحق الاختلاف جعل الاستئصال من مقومات الخطاب السياسي العام ومن الإنتاج الواسع للعنف السلطوي وسيلة تعميم للعنف على كل المستويات. إن العقوبات الجماعية القائمة على الحقد والتعالي ونظرة الازدراء إلى المجتمع ألغت مفهوم الشخص والمسؤولية الفردية. فصار الانتقام الجماعي مقبولا في مجتمع رزخ أكثر من 30 عاما تحت وطأة العقوبة الجماعية، فقد تعمم نهج الطاغية ليمس الخلايا الاجتماعية. إن إصرار الحاكم على ارتكاب الجريمة باسم الناس ينتهي لشعور جماعي يقبل أي عقاب بحق من جرد هذه الجموع حتى من إنسانيتها ومدنيتها، بل حتى حقها في ملف شخصي عادي. فليس هناك ربة بيت تسهر على عائلتها أو عامل تنظيفات يقوم بعمله بصدق وأمانة، أو أشخاص يذهبون من العمل للبيت ومن البيت للعمل. في المنهج الشمولي، هناك فقط من هو معنا ومن هو ضدنا. هذا الأمر ينتج مع الوقت عصابا جماعيا يربط كل شئ بالطاغية. وحيث أن هذه الطاغية تنسب لنفسها الخير ولغيرها الشر، فسقوطها يعني عكس الآية بشكل أتوماتيكي، فالدكتاتورية تصبح مصدر كل الشر إن كانت سببا فيه أو لم تكن.
ليس موضوع هذه المحاضرة إعلان الحرب وجريمة العدوان في القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، فمن المعروف أن احتلال العراق كان دون أي غطاء قانوني دولي بكل المعاني. لذا سنحاول التوقف عند ما يمكن تسميته البحث المشترك للدول العظمى عن “شرعية الحد الأدنى” للتعامل مع الأمر الواقع. هذا البحث السياسي الذي لا يعطي الواقع شرعيته من وجهة نظر الشرعة الدولية لحقوق الإنسان. لقد قامت الولايات المتحدة بضغوط لا سابق لها لاستصدار القرار 1483 عن مجلس الأمن بعد احتلال بغداد وناقشت كل مواضيع السيادة العراقية بدون أي طرف عراقي، حتى ذاك الذي اعتلى دبابتها للعودة. واستطاعت الدول الرافضة للاحتلال أن تضمن في النص اعترافا صريحا بالاحتلال وبالتالي التزاما على الورق على الأقل بما يترتب على هذا الوضع من التزامات للدولة المحتلة.
لقد زعزع أسلوب التغيير الذي حصل في العراق كل المفاهيم السياسية العادية: فأساس العمل لأي تنظيم سياسي أو مدني هو استقطاب الناس في البلد من أجل التغيير بوسائل سلمية أو عنفية. أي التغيير من الداخل ومن تحت. في حين ما جرى في العراق، هو التغيير بقوة من الخارج ومن فوق. الأمر الذي يجعل تكوين الجهاز الجديد يخضع للطابع الإرادوي للحاكم وجنوحات العسف والفساد في المال والإدارة، أي جملة مخاطر السلطة التسلطية البائدة. من هنا ضرورة التأكيد على بناء النسيج المدني الاجتماعي والمبادرة التحتية والتغيير من الداخل كرد موضوعي يضمن للمجتمع العراقي أفرادا وجماعات الحقوق الأساسية الدنيا التي يطمح لها الأشخاص والشعوب في القرن الواحد والعشرين.
يمكن أن نستشرف ثلاثة آفاق لا سابق لها من التورط الأمريكي في العراق هي في صلب ومبررات نشأة الأمم المتحدة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي:
1- كانت الغاية المعلنة لأطراف التحالف إسقاط الحكومة لا إلغاء الدولة، وعلى العكس من ذلك فهي تؤكد في كل تصريحاتها ومواقفها على وحدة أراضي الدولة وسيادتها. الأمر الذي يعني في القانون الدولي أن جملة التزامات هذه الدولة (الجمهورية العراقية) على صعيد حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي تبقى مرجعا علويا بالنسبة لمنظمات حقوق الإنسان في العراق. وأي قرار من سلطات الاحتلال يخالف هذه المرجعية، غير ملزم لنشطاء حقوق الإنسان. كما أن قرارات أي دولة دكتاتورية في العالم تخالف الشرعة الدولية موضوع استنكار وشجب من قبل المدافعين عن حقوق الإنسان، قرارات الاحتلال المخالفة لا يجوز السكوت عنها، على سبيل المثال، قد يبرر الحاكم العسكري التعذيب بحجة العمليات العسكرية ضد قواته، كما تفعل قوات الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، فكيف يمكن السكوت على ذلك والتعذيب محرم وجريمة لا تزول بالتقادم مهما كانت الذريعة. كذلك فإن محاسبة قوات الاحتلال على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية حق من حقوق كل مواطن عراقي كان ضحية لإحدى هذه الجرائم. سواء في الاختصاص الجنائي العالمي أو في المحكمة الجنائية الدولية (باعتبار بريطانيا واستراليا قد صدقتا على قيام المحكمة). ومن مهمات، حتى لا نقول واجبات العاملين في حقوق الإنسان الدفاع عن استقلال السلطة القضائية والسلطة الإعلامية (الرابعة) باعتبارهما طرفا أساسيا في التكوين السليم لسلطة تنفيذية وسلطة تشريعية أكثر ديمقراطية. ومن مهماتها تعزيز حقوق المواطنة قبل التشكل الاسمي للسيادة.
2- بعكس ما يدعيه الحاكم العسكري والناطق باسمه، من أن القرار 1483 يعطي قوات الاحتلال سلطات لا حصر لها، فإن المادتين الرابعة والخامسة تحفظا ما تبقى من ماء الوجه للأمم المتحدة عبر إلزام الجميع بالقانون الإنساني الدولي والالتزامات الدولية الأخرى حيث نصتا على:
– يطلب من السلطة أن تعمل، بما يتسق مع ميثاق الأمم المتحدة والقوانين الدولية الأخرى ذات الصلة، على تحقيق رفاه الشعب العراقي عن طريق الإدارة الفعالة للإقليم، بما في ذلك بصفة خاصة العمل على استعادة الأحوال التي يتوفر فيها الأمن والاستقرار، وتهيئة الظروف التي يمكن للشعب العراقي أن يقرر بحرية مستقبله السياسي.
-يطلب من جميع المعنيين أن يتقيدوا تقيدا تاما بالتزاماتهم بموجب القانون الدولي بما في ذلك بصفة خاصة اتفاقيات جنيف لعام 1949 وقواعد لاهاي لعام 1907.
3- تسمح لنا التجربة العراقية بأول تجربة عربية وشرق أوسطية مفتوحة للمحاسبة. هذه التجربة قد تكرر ما حدث في إيران أو سورية أو غيرها من البلدان حيث غاب القانون الدولي ومبادئ حقوق الإنسان باسم إيديولوجيات انتصرت واستلمت السلطة وعاقبت من منظورها السلطات البائدة. وعندها نكون في حلقة مغلقة تكرر المآسي نفسها. أو تقوم على مبدأ رفض انتقام الغالب واستعمال القانون الاستثنائي وهيمنة الطابع العسكري على أية محاسبة. صحيح أن المنظومة العالمية لحقوق الإنسان هي انعكاس لموازين القوى في بناء أشادته الدول والهيئات بين الحكومية، ولكنها لم تعد ملكا لمن أنجبها وبدأت تتطور خارج هذا الفضاء وأصبحت قوتها المركزية اليوم في المجتمعات المدنية على الصعيد العالمي. لذا وضمن المعطيات العالمية لمحاسبة حقب الطغيان، وضمن وجودنا أمام حالة أنموذجية للعسف وارتكاب الجرائم الجسيمة الكبرى، نعتقد بأن مجرد التفكير بمحكمة من قبل الاحتلال أو محكمة استثنائية هي إهانة لضحايا صدام حسين، وسلوك لا يمكن قبوله من قوات الاحتلال التي قد تلجأ لهذا الأسلوب للسيطرة على المحاكمات وعدم الضرر بأشخاص ارتكبوا جرائم كبيرة هم اليوم في حمايتها. إن التكريم الحقيقي لأهالي الضحايا والكرامة العراقية يكون بتشكيل لجان تحقيق مستقلة وقضاء عادي مستقل يعتمد الشرعة الدولية لحقوق الإنسان والتزامات العراق الدولية لتكون هذه المحاكمات أمثولة للعرب والعجم، الشمال والجنوب. لقد باشرت مجموعات ناشئة لحقوق الإنسان والدفاع عن الضحايا مهمة التوثيق والتنقيب في المقابر الجماعية. وسنسعى جهدنا لإرسال خبراء في البحث المتعدد الميادين في قضايا المفقودين للاستفادة من تجارب دول أخرى. وكم نتمنى أن يكون العراق التجربة الأولى في العالم للمحاسبة وفق الشرعة الدولية لحقوق الإنسان. عندها يمكن زراعة البذور السليمة لإعادة بناء المجتمع المدني في العراق وأسس دولة القانون.
يمكن للأحزاب السياسية أن تكبر أو تصغر بل وتضمحل، ولكن لا يمكن لحركة حقوق الإنسان إلا أن تستنفر من أجل بناء الوعي الحقوقي والمدني ليتمكن كل شخص من الدفاع عن حقوقه بنفسه أو بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني المختلفة التي تتصدى لهذه المهمة. من هنا، لا يجوز لهذه الجمعيات أن تكون أسيرة الرأي العام أو الإيديولوجيات أو الحسابات الآنية والضيقة. فإن كان النضال من أجل حقوق الإنسان مهمة سياسية بالمعنى النبيل والإغريقي للكلمة، كمساهمة في الشأن العام وتشجيع على الاندماج فيه وسلطة مضادة ووسيط كاظم للغيظ بين نقاط التماس ومقتصد للعنف عبر تعزيز كل الوسائل السلمية لإقامة العدل فهي لا تحتاج إلى 51% لتحقيق برنامجها أو وجود مندوب لها في هذه السلطة أو تلك. كذلك لا تبحث عن الشعبية على حساب المبادئ وانتساب الناس ضمن مبدأ الغاية تبرر الواسطة. على العكس فهي تبدأ الدفاع عن الأضعف والأقل حماية والأصغر عددا باعتبارهم الفئات الأكثر هشاشة وضعفا وتعرضا للخطر. والأقلية تبدأ بالشخص الواحد، فقد لا تعجبنا الآيات الشيطانية لسلمان رشدي أو البرنامج السياسي لمحمد عباس (أبو العباس)، ولكن واجبنا هو قراءة الملف بكل تمعن والدفاع عنهما في حال ثبوت وقوع مظلمة من وجهة نظر الشرعة الدولية لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي. وعلى الأقل المطالبة الملحة لمحكمة عادلة لأي شخص بغض النظر عن أصله ودينه وعرقه ولونه وقوميته وجنسيته كشخص.
من هذه النظرة، نعتقد بأن الأسس السليمة لبناء منظمة عراقية لحقوق الإنسان تستوجب استحضار النقاط التالية:
1- مبدأ ترابط وتكامل الحقوق الستة: اقتصادية، اجتماعية، ثقافية، سياسية، مدنية وبيئية. فالتوقف عند البعد المدني والسياسي في بلد أكثر من 70% فيه يعاني من الفقر يجعل من نشطاء حقوق الإنسان مغرد في عالم النظرية بعيد عن مشكلات الواقع، كذلك الأخذ بالنظرة الأمريكية التي ترفض مفهوم حق التنمية وحاربتنا عند تبنيه من الأمم المتحدة سيمهد إلى ليبرالية وحشية تحمل كل عناصر الرفض والتمرد المجتمعي.
2- مبدأ الربط بين الماضي والحاضر والمستقبل: أي عدم قتل الذاكرة كما حاول الكثير من الخارجين من الحرب في لبنان أن يفعلوا، أو إلغاء مبدأ المحاسبة في الجرائم الجسيمة باسم فتح صفحة جديدة، كذلك عدم التقصير في التصدي للمهمات والتحديات المعاشة في ظل الاحتلال، فقد كان في العراق جمعية لحقوق الإنسان في حقبة صدام وكانت تركز اهتماماتها بالعقوبات الاقتصادية دون الاهتمام بالانتهاكات اليومية لحقوق الإنسان من قبل السلطة. وفشلت هذه الجمعية في كسب المصداقية المجتمعية لهذا السبب. وإن تم التركيز على حقبة صدام وعدم تتبع الانتهاكات اليوم، ستقع المنظمات الناشئة الحالية في نفس المطب والمرض. أخيرا لا بد من خوض معركة المستقبل عبر بناء الأسس الثقافية والتأهيلية لمنظومة حماية للأشخاص والجماعات في الوعي الجماعي والدستور والقوانين لوضع ترسانة وقائية مزروعة في الثقافة العامة والحماية القانونية.
3- القدرة على أخذ المسافة اللازمة من الجريمة بحثا عن تأصيل مدرسة العدل مكان مدرسة الثأر وعدم وضع حدود قومية أو إثنية أو دينية أو طائفية أو وطنية عراقية في الدفاع عن الضحايا.
4- أعود فأؤكد على ضرورة الرد على الانتهاكات الواقعة من سلطة الاحتلال لأنها معيار في ذهن الناس لمصداقية العمل، فاليوم المتطرف والفاشي وعنصر الأمن السابق يزاودون على الديمقراطي في تثليم وتجريم الحقبة الصدامية، كما كان هؤلاء بالأمس يغنون بحمدها بل ويحمونها. إن أصعب المهمات يكمن في تخليص المجتمع من عقابيل الحقبة الصدامية بتناول عقلاني وعادل مسألة التعويض عن الضحايا ومحاسبة كل المجرمين وامتلاك الرؤية التي تسمح بإبصار انتهاكات اليوم وشجبها بالتعاون مع المنظمات الإقليمية والدولية.
حتى لا نبقى في المعطيات العامة، نورد بعض الأمثلة العيانية لتوضيح ما نقول: المشكلة الأساسية اليوم عند المواطن حق الحياة والحق في توفر ظروف العيش الدنيا(ما أسماه العرب القدامى حق الوالبة) وحق العمل. وللنضال من أجل هذه الحقوق لا بد من رصد حجم المعاناة الاقتصادية والبحث مع النقابيين والسياسيين والمختصين عن تصورات للحل تنسجم مع الشرعة الدولية لحقوق الإنسان والحاجيات الملموسة وعلاقتها بالموارد الغنية في البلاد. لا بد من شجب كل محاولات القفز فوق قوة العمل العراقية في اتفاقيات إعادة البناء باعتبار المجتمع العراقي يعيش في حالة فقر وبطالة وتمزيق لقوى العمل فيه ولا يتحمل أي تباطؤ في إعطاء المواطنين حقهم في الكرامة قبل أن يضطرهم القمع والحصار الجديد إلى التمرد كما جاء في ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
لا بد من التأكيد على جميع الأحزاب السياسية لتؤكد في برامجها على العلاقة الجدلية بين مختلف الحقوق الإنسانية. فحقوق الشعب لا يجوز أن تكون تعلة لخنق الحريات الفردية والعامة، والحقوق الاقتصادية تحقق التوازن الضروري اللازم لاحترام حقوق المواطنة السياسية والمدنية. مع التأكيد على أن أي إجراء تعسفي هو إعادة إنتاج للحكم التسلطي وهو بالتأكيد حجر عقبة أمام إعادة بناء الإنسان وخوض معركة التنمية.
مثل ثاني يأتي من التصرفات العشوائية لقوات الاحتلال التي جعلت من العراق البلد الذي يعيش أعلى نسبة اعتقال في فترة زمنية قصيرة تجاوزت الشهرين بقليل. فمن يدافع عن المواطن الذي يتم احتلال منزله وتسرق أشيائه، والمسجد الذي يفتش ويؤخذ منه الأوراق النقدية والوثائق كأمر عادي (كما حصل في مسجد حذيفة بن النعمان) وهل لأن هذا الشخص ليس من حارتنا أو عائلتنا أو طائفتنا أو حزبنا فهو بعثي أو مخرّب؟ ألا تحظر العقوبات الجماعية وبالمثل جميع تدابير التهديد أو الإرهاب وتدابير الاقتصاص من الأشخاص المحميين وممتلكاتهم (المادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة). في بيان صادر عن قوات الاحتلال بعلاقة بعمل أي موظف في قطاع الدولة هو ورقة براءة من حزب البعث يعلن نهايته ونهاية نظامه وينص فيما ينص على: “أقر واعترف بأن أي تعامل أو اشتراك مع حزب البعث أو المشاركة في فعالياته سيكون نقضا لأوامر قوات التحالف. وأتعهد بالتعاون الكامل مع قوات التحالف لخدمة الشعب العراقي وبناء حكومة عراقية جديدة. وسوف أطيع كافة القوانين العراقية والأوامر والتعليمات الصادرة عن قوات التحالف وأشهد الله على ذلك” (توقيع مع شاهدين).
يعتبر إجبار السكان على التعاون والتعامل والطاعة في المناطق المعتبرة محتلة إخلالا بالعرف الدولي والقانون الإنساني الدولي. والمصيبة أكبر عندما تربط لقمة العيش بالتعامل مع قوات الاحتلال. وقد جاء في المادة 52 من اتفاقية جنيف الرابعة:”تحظر جميع التدابير التي من شأنها أن تؤدي إلى بطالة العاملين في البلد المحتل أو تقييد إمكانيات عملهم بقصد حملهم على العمل في خدمة دولة الاحتلال”. وينص القرار 1483 في المادة الخامسة منه على احترام اتفاقيات جنيف! فهل تسكت منظمات حقوق الإنسان عن هذا؟
في كتب التأريخ للنازية نقرأ نصا قريبا من النص أعلاه أصدره الرايش الثالث بحق أعضاء الحزب الشيوعي الألماني.
هذا المثل أسوقه للتأكيد على ضرورة عدم الوقوع في فخ الانتقام من الطاغية صدام بحصر السببية والمساءلة وصب كل النقمة على النظام البائد بحيث تغيّب مثلا قضية فرض أقسى عقوبات اقتصادية في الأزمنة الحديثة على شعب مع كل ما ترتب على ذلك من تجويع وتجهيل وتغييب للمجتمع العراقي، واستمرار نهج الرهينة في تسليم اتفاق النفط مقابل الغذاء لقوات الاحتلال، وأخيرا وليس آخرا فسح المجال لقوات الاحتلال لتمرير سلطة تسلطية تفرض على الشعب العراقي. لقد التقيت بالأمس بأحد ضحايا نظام صدام الذي أعطاني قائمة بأسماء ضباط الأمن بعضهم مسؤول عن جرائم جسيمة ومقابر جماعية من جهاز صدام ضمّهم بريمر إلى فريقه الأمني. وكانت الولايات المتحدة قد استفادت من كوادر نازية في المجالين العلمي والأمني بعد الحرب العالمية الثانية باسم المصلحة القومية العليا. ونخشى أن نقع في فخ محاسبة الأسماك الصغيرة في حين أن الحيتان الكبيرة تجري حمايتها من قوات الاحتلال. فالجريمة ضد الإنسانية جريمة ضد الإنسانية والقتل هو القتل والتعذيب هو التعذيب، ولا يغّير التعامل مع سلطة الاحتلال موقف نشطاء حقوق الإنسان من مجرمين أو جرائم لا تزول لا بالعفو “الأمريكي” ولا بالتقادم.
المثل الرابع وهو يذكرني ببيت شعر معروف نسترقه كما يلي
أيا جارتا إنا فقيران ها هنا وكل فقير للفقير قريب
فإذا ما أخذنا ملف اللاجئين الفلسطينيين في العراق، لوجدنا أنفسنا أمام إحدى أقسى الأوضاع الفلسطينية في العالم العربي. فصدام حسين الذي كان يزاود في الملف الفلسطيني لم يضع قدمه يوما في الزعفرانية حيث المجاري والبشر والصفيح والقمامة يتراكمون على بقعة أرض ملوثة. هذا “الغير عراقي”ن مثله مثل معدمي حي الصدر، لم يكن له أي حق في السفر أو التملك أو العمل الكريم أو العيش بشكل عادي. وكانت سيارات أمانة العاصمة للقمامة تقف قبل الوصول لمنطقة الفلسطينيين مما يضطر اللاجئون لحرق قمامتهم بأنفسهم. من واجب نشطاء حقوق الإنسان الدفاع عن غير العراقيين الذين تنتهك حقوقهم وكرامتهم كدفاعهم عن المستضعفين والمعدمين والمحرومين من أبناء العراق. (صدر تقرير عن اللجنة العربية لحقوق الإنسان عن الفلسطينيين في العراق).
هذه الأمثلة السريعة التي لاحظتها أثناء إقامتي المقتضبة ومتابعتي للملف العراقي، أضعها بين يدي المدافعين والمدافعات عن حقوق الإنسان والكرامة الإنسانية في العراق، ونحن في اللجنة العربية لحقوق الإنسان نطمح لوضع تقييم أولي لحاجياتكم انطلاقا من عملكم الميداني، وسنكون معكم في أي مشروع يساهم في تقوية وتعزيز الحركة العراقية لحقوق الإنسان.
قبل فتح باب النقاش، أترك الحديث للصديقة منى رشماوي، ممثلة مفوض الأمين العام للأمم المتحدة سيرجيو فييرا دو ميللو المسؤولة عن حقوق الإنسان وملف المرأة. شكرا لحسن استماعكم
نص المحاضرة التي ألقاها في بغداد 14/06/2003 بدعوة من جمعية الوفاء والجمعية الوطنية للدفاع عن حقوق الإنسان في العراق
في مقر الحزب الشيوعي العراقي في ساحة الأندلس.