ديسمبر 04, 2024

جرائم “الشرف” بين القانون والعرف والانعتاق

هيثم مناع

في اللغة العربية تعبيرات غريبة، ومن المؤسف عدم اهتمام البحاثة بها ووضعها على مشرحة التحليل. فإذا أخذنا مثلا موضوع ندوة اليوم: جرائم الشرف، نجد أن تعبير الشرف في لسان العرب يعني الحسب بالآباء. ويؤكد ابن منظور ذلك أكثر من مرة وصولا للقول: “الشرف والمجد لا يكونان إلا بالآباء”، فكيف نتحدث عن جريمة موضوعها وضحيتها زوجة هنا أو ابنة هناك ونسميها جريمة شرف؟ قال لي أستاذي في الأنثروبولوجيا مارك أوجيه في 1982: “من المفروض تسميتها: جرائم المفاهيم البدائية للشرف”، فقلت له: حتى هذا الوصف باللغة العربية غير صحيح. وبرأيي فإن مجرد استعمال كلمة “الشرف” بعد جريمة القتل، هو اعتداء على هذه الكلمة مهما كان معناها ومبناها. فالقتل هو القتل والجريمة هي الجريمة ومن الإجرام بحق فكرة العدالة أن تحوّل جريمة قتل لفتاة أو زوجة إلى مجرد “جنحة” في تعارض صارخ مع الآية القرآنية الواضحة: مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا (المائدة 32) وفي تناقض صارخ مع القوانين الجنائية المعاصرة والشرعة الدولية لحقوق الإنسان.

يقول اللواء نبيل حسن، أستاذ القانون الجنائي بأكاديمية الشرطة المصرية، إن جريمة القتل العمد، تقع حينما يزهق إنسان روح إنسان آخر حي؛ وتقسم جريمة القتل العمد في القانون الجنائي إلى ثلاثة أقسام:

القتل مشدد العقوبة، والذي تصل عقوبته إلى الإعدام؛

والقتل العمد البسيط، وتكون عقوبته بالسجن المشدد،

والقتل مخفف العقوبة، ويعامل كجنحة تتراوح عقوبتها بين الحبس 24 ساعة، وثلاث سنوات.

ويشرح لنا، أستاذ القانون الجنائي جريمة القتل مخفف العقوبة، بالقول: هو حالة دخول الزوج على زوجته فجأة، ويجدها في وضع مخل أو في حالة زنا، فيقتلها هي ومن يزني بها؛ وهنا تعامل الجريمة كجنحة لكن بشروط، أولها أن العذر في تلك الحالة يسمى “عذرا شخصيا” يستفيد به الزوج فقط، لوجود عنصر الاستفزاز لديه دون غيره، ولا يستفيد بذلك العذر لا أخ ولا أب ولا عم، ولا غيرهم؛ أما الشرط الثاني فهو عنصر المفاجأة، بمعنى أنه لا يمكن للزوج أن يجهز لجريمته أو يعد كمينا لزوجته كي يضبطها في تلك لحالة، حينها لا يستفيد من التخفيف، ويعد قتلا عمديا.”

في العراق تنص المادة 409 من قانون العقوبات العراقي: “يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات من فاجأ زوجته، أو أحد محارمه في حالة تلبسها بالزنا، أو وجودها في فراش واحد مع شريكها، فقتلهما في الحال، أو قتل أحدهما، أو اعتدى عليهما، أو على أحدهما، اعتداء أفضى إلى الموت، أو إلى عاهة مستديمة.

في سوريا، بقي قانون العقوبات السوري الذي صدر بالمرسوم التشريعي رقم 148 لعام 1949، يعفي القاتل من العقوبة في حال إقدامه على القتل، متذرعًا بـ“الدافع الشريف”، بمنحه عذرًا مُحلًا من هذه العقوبة، وفي عام 2009 طرأ أول تغيير عليه، فبات القاتل بهذا الدافع يُحكم مدة سنتين كحد أقصى. واستمر الحال إلى أن صدر المرسوم رقم 1 لعام 2011، الذي ألغى نص المادة 548  من قانون العقوبات السوري، التي كانت تنص على أنه “يستفيد من العذر المُحل من فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في جرم الزنا المشهود أو في صلات جنسية فحشاء مع شخص آخر، فأقدم على قتلهما أو إيذائهما أو على قتل أو إيذاء أحدهما بغير عمد، ويستفيد مرتكب القتل أو الأذى من العذر المخفف إذا فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في حالة مريبة مع آخر”.

استُبدلت بالمادة 548 السابق ذكرها، المادة 15 من المرسوم رقم 1 لعام 2011، التي ألغت استفادة القاتل من العذر المُحل من العقوبة، في حال ارتكابه جريمة القتل بالدافع الشريف، بينما لم تأتِ على ذكر “الحالة المريبة” التي كانت مبررًا لمنح العذر المخفف في القانون القديم، والتي كان الإبقاء عليها يعرض كثيرًا من النساء لخطر القتل تحت ذريعة الدافع الشريف، بحجة “الحالة المريبة” في حال عدم القدرة على إثبات الزنا.

يوم الخميس 12 آذار 2020  أقر مجلس الشعب في سوريا إلغاء المادة 548 من قانون العقوبات لعام 1949، المعروفة باسم “العذر المخفف” لـ”جرائم الشرف”. وورد في مشروع القانون الذي صوت عليه مجلس الشعب، أن هذا المشروع يأتي تماشياً مع القوانين الدولية والقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وأنه يهدف لتوفيق أحكام القانون الوطني مع القانون الدولي بشكل لا يتنافى مع أحكام الشريعة الإسلامية.

إقرار هذا التغيير يذكرنا بالقاعدة الشرعية والحقوقية “لا يوجد شر مطلق”. ومن الضروري أن تسير البلدان المتأخرة في هذا المجال على خطى الدول التي بدأت تتحرر من النفاق الجماعي المجرم بحق النساء.

ولكن خارج القوانين، بائسة كانت أو جيدة، تشكل قضية كرامة المرأة وحقوقها المتساوية مع الرجل، وليس فقط المواد المتعلقة بتحويل الجريمة إلى جنحة باسم الشرف، تشكل هذه القضية كموضوع وجودي لمجتمعاتنا، شرطا أساسيا لمواجهة التقاليد الأبوية القديمة، فكمثل بسيط، في الأراضي الفلسطينية لم يسهم تعديل القانون الخاص بجرائم الشرف وحده في تراجع حالات قتل النساء. ففي عام 2016، رصد مركز المرأة للإرشاد القانوني والاجتماعي، 23 حالة وفاة لسيدات في ظروف غامضة وهو ما رجح المركز أنه قد يكون قتل تم تحت اسم “الشرف”. ونحن نتفق تماما مع الناشطة النسوية بنان أبو زين الدين، بأن تغيير الثقافة التي تدين الضحية وتقدم وساما للقاتل، هو أول طريق الحل، وأن هناك حاجة لتغيير المفاهيم المجتمعية التي تربط الشرف والعيب بسلوك المرأة، و”تُطّبع العنف تجاهها” لوقف هذه الممارسات.

إن زوال بصمة العار من قوانيننا الجنائية خطوة لا بد منها على هذا الطريق الطويل. لأن هناك حالة قبول أو استسلام للتعامل مع قضية العنف والقتل تجاه النساء في العادات العشائرية والعرفية قبل المدنية يتجنب المجتمع السياسي خوض مواجهة معها في محاولة لكسبها عبر الصمت وأحيانا كثيرة التواطؤ. نحن بحاجة إلى سياسات تربوية تنويرية تحمل مشروع مواطنة حديثة تعتبر المرأة والرجل كلاهما عمادا لبناء المستقبل، وترفض أي شكل من أشكال التمييز. مطلوب أيضا، التحرر من ثقافة الصمت إزاء العنف ورفض قاعدة يا ساتر الستر استرها وماتفضحهاش.  كذلك تطوير مؤسسات الرقابة والرصد سواء منها التابعة للدولة أو للمجتمع المدني لوضع الإستراتيجيات الدقيقة والفعالة لمنع هذه الجرائم أو الحد منها.

وينبغي أيضا تشجيع مؤسسات الدولة على أخذ شكاوى العنف ضد النساء على محمل الجد، وإتخاذ التدابير المناسبة لضمان حصول الناجيات من العنف الأسري على مأوى وحماية دون المساس بحريتهن.

أليس من المعيب على شعوب المنطقة وحكوماتها، أن مراكز حماية ضحايا القتل الاجتماعي موجودة خارج البلدان الإسلامية؟  وأن تلجأ آلاف النساء إلى دول غربية بحثا عن الأمان والحق في الحياة؟

—————–  

مداخلة الدكتور هيثم مناع في ندوة “جرائم الشرف بين الدين والقانون والواقع”، المركز التعليمي لحقوق الإنسان في ألمانيا، 09/07/2021