مُنعت الأحزاب الشيوعية من الوجود القانوني في أكثر من نصف البلدان العربية بدعوى حضها على الثورة والعصيان وهدم النظام. ومُنعت الأحزاب الإسلامية في أكثر من نصف الدول العربية أيضا بحجة رفض الطابع الديني للحزب السياسي. وقد تراوحت درجة الملاحقة والمنع بين الاعتداء على ثلاثية التنظيم والتجمع والتجمهر وصولا إلى حق الحياة، أو ما أسميناه في حينه “الإبادة السياسية” (كقرار النظام العراقي السابق إعدام كل عضو في حزب الدعوة وقرار مجلس الشعب السوري المشابه بحق المنتسبين لحركة الإخوان المسلمين).
ويمكن القول، أنه وبعكس الغاية من المنع والحظر، كانت النتائج في معظم الأحوال عكسية. فقد أعطت صورة “ضحية السلطة المستبدة” ورقة حسن سلوك عفوية لحاملها عند الجمهور. كما وسمحت بوضع الحزب المستهدف فوق النقد، باعتبار أن أية مساجلة سياسية أو فكرية “تصب في خدمة القامع وتعطيه الضوء الأخضر للاستمرار في ضرب المقموع”. بكلمة، أدت وسائل الحظر والقمع السياسي إلى نتيجة سلبية لمن لجأ إليها. ولنتائج كارثية على المجتمع الذي حرم من ممارسة السياسة كوظيفة مواطنية تشمل إلى جانب المشاركة، الحق في النقد والتجاوز.
في القرن العشرين، ارتدت أهم الأحزاب السياسية، قومية أم إسلامية أم دينية، ثوب القداسة. فلكل منها عقيدة، وهذه العقيدة تجمع بين التفوق والفرادة والحتمية والخلود. وسواء نصبت خصمها عدوا للإسلام أو الشعب أو الأمة أو الطبقة، فقد تعاملت مع من يغادرها بمنطق المرتد. بحيث يصعب في الواقع إقامة تمييز وظيفي بين التخوين عند التيارات القومية والتكفير عند التيارات الدينية.
إن كان جدار برلين قد نزع ثوب القداسة الإيديولوجي عن الحزب الماركسي اللينيني، وأسقط احتلال الكويت تماسك الحزب القومي، فعلينا انتظار 11 سبتمبر 2001 لنزع القداسة عن الحزب الإسلامي. شكّلت الحرب على الإرهاب الاختبار الأقسى خلال 75 عاما من وجود الحركة الإسلامية السياسية. اختبار جعل الحركة تخوض في امتحان عنف السياسة، الذي يتجاوز في قسوته ووضوحهسياسة العنف. وقد ساهم في ذلك حالة الهرج والمرج الناجمة عن فوضى الحرب على الإسلام، في معمعان الحرب المنظمة على الإرهاب.
هذه الفوضى جعلتنا نشهد نقاشات واسعة داخل الفضاء الإسلامي بتعبيريه الثقافي والسياسي. كما وأنقذت المسلمين من الكسل الذهني والاستسلام لموضوعة “كل شيء على ما يرام”. بنفس الوقت أظهرت هشاشة الحركة الإسلامية السياسية في بعض البلدان، وقوتها في بلدان أخرى. الأمر الذي رفع الحصانة العقائدية والمقدسة عن الحزب الديني. ليحل سريعا مكانها مواصفات سياسية أخلاقية عامة مثل فكرة القيادة الحكيمة أو الهزيلة، الخيارات السياسية الصائبة أو الخائبة، تورط كوادر الحزب في ممارسات قمعية أو ملفات فساد، أو تميز كوادره بأخلاق عالية وقدرة على التفاني والعطاء.. وكان لتسارع الأحداث السياسية في المنطقة دورا هاما في هذا التغيير السريع في تنامي مواصفات تقييمية جديدة عند عامة الناس. مما يذكرنا بالتعريف المبسط والعميق للسياسة عند ابن منظور: “القيام على الشيء بما يصلحه”.
في أشهر قليلة، اصطف جناح حركة الإخوان المسلمين مع قوات حلف الناتو في أفغانستان. وشارك إسلاميون في عملية بناء سلطة “تحت الطلب الأمريكي” دون أية عقدة ذنب. وقد حاور الحزب الإسلامي وحزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق الحاكم الأمريكي بريمر، باسم التعامل مع الأمر الواقع، ودخلوا وفق تصوره في مجلس حكم بأمرة الاحتلال. وبينت تقارير منظمات حقوق الإنسان تورط الأحزاب الإسلامية في خماسية النظام البعثي الراحل (الترويع والسجن والتعذيب والقتل والتهجير). بل، تمكن بعضها من بناء فرق الموت في أقل من عامين. في حين احتاجت التجربة السورية لتعطي فظائع سرايا الدفاع إلى عقد من الزمن. وبتتبع تقارير “المفتش العام الخاص بإعادة أعمار العراق” يتبين لنا أن لا فرق في سرقة المال العام والرشاوى والمحسوبية والنهب بين الأحزاب الدينية والأحزاب العلمانية الموالية للاحتلال.
هذه الوقائع البائسة دفعت بالعديد من الأحزاب الإسلامية المتأزمة للتركيز أكثر فأكثر على أساليب كانت تتنزه عن الخوض بها. مثل الإسراف في الخطاب الطائفي، والاعتماد على الروابط العشائرية والعضوية على حساب العلاقات المدنية. أو اللجوء لوسائل اقتصادية غير مشروعة لكسب رضا جماعات الضغط التقليدية والجديدة من حولها، بعد أزمة الثقة العقائدية التي يصعب استعادتها.
هل كنا بحاجة إلى هذا الزلزال لنقتنع بأن القاموس السياسي بأهم توصيفاته قابل للتطويع عند الأحزاب العلمانية والأحزاب الإسلامية سواء بسواء؟ أو أن تعبيرات مثل الاعتدال والتطرف، الوسطية والتهور، العقائدية والذرائعية، النقاش الداخلي ودكتاتورية القيادة.. لا تختلف في قراءتها عند هذا الحزب أو ذاك؟ بل ويمكن القول أن كلا التيارين الإسلامي والعلماني قد مر بمرحلة الحزب الثوري القائد المخلص أو أهل الحق والفرقة السياسية الناجية. ذلك قبل ظهور علامات الشفاء من هذه النظرة المتعالية للمجتمعين السياسي والمدني وعامة الناس. قبل بدء قبول فكرة أن الجغرافيا السياسية والمدنية رحبة واسعة لا يجوز تأميمها ولا خصخصتها بقرار حزبي أو حكومي.
لا تسعى هذه الأسطر لتصويب أو شجب أو تأييد هذا السلوك الحزبي أو ذاك، بل تطمح لوضع حد لمفهوم القداسة في العمل السياسي والحزبي. يهمها التأكيد على فكرة بسيطة وهامة جدا تقول: الحزب الإسلامي حزب كغيره من الأحزاب، لا قداسة له ولا حظر عليه. أما الدين، فهو كما حال الوطن.. للجميع.
—————————–
نشرت في القدس العربي
20/9/2007