أكتوبر 12, 2024

عميد المدرسة النقدية

عميد المدرسة النقدية

صدر عن المعهد الاسكندنافي لحقوق الإنسان كتاب “هيثم مناع: عميد المدرسة النقدية في حقوق الإنسان” وهو عبارة عن مجموعة نصوص للكاتب قام بجمعها والتقديم لها ماجد حبو، أسامة الرفاعي، صالح النبواني، مرام داود، هدى المصري. وقد حرص الباحثون على اختيار دراسات ومواقف لمناع، لم تنشر، أو نشرت منذ زمن وتكتسب راهنيتها، من كونها سبقت حقبتها ومازالت موضوعا لنقاشات عميقة سواء في مجال حقوق الإنسان أو المشروع الديمقراطي غير المنجز.

أول هذه النصوص يتعلق بموضوع “العقوبات” الاقتصادية الأحادية الجانب، وهو أول نص جامع للرد على سياسة العقوبات منذ نهاية القرن الماضي، والذي خاض منناع وعدد من الحقوقيين الدوليين معركة مع الدول الغربية التي تعتبره “وسيلة غير عنفية” لمحاربة الدكتاتورية.. نقرأ أيضا قراءة مناع لاغتيال الثورات المدنية السلمية عبر التطييف والتسليح والتدخلات الخارجية منذ مطلع العقد الثاني من هذا القرن. هناك أيضا استعادة وتوضيح لموقف مناع من الأطروحات الكوشنرية حول “حق التدخل”، نضالاته المبكرة وتوقعه المبكر لفشل الاحتلال الأمريكي في إقامة العدالة بعد إسقاط النظام العراقي بالدبابات، الحوارات الفلسفية من أجل قيام محكمة جنائية دولية، ضرورة  تفكيك الأساطير الإسرائيلية التي تؤدي بالضرورة إلى بناء آخر نظام أبارتايد على سطح البسيطة، محاولاته المختلفة للتقدم في موضوع الحقوق الثقافية على الصعيد الدولي إلخ. فيما يلي مقدمة الكتاب، وفصل لم ينشر بالعربية من قبل، والطبعة الالكترونية لكامل الكتاب.

مقدمة الكتاب

بعد صدور موسوعة “الإمعان في حقوق الإنسان” (2000-2018) و”أبحاث نقدية في حقوق الإنسان” و”مستقبل حقوق الإنسان”(2005)، تصدّر الباحث السوري هيثم مناع المدرسة النقدية في عالم حقوق الإنسان والمواطنة. في وقت سعت فيه المؤسسات الغربية لحصر هذه الحقوق في مسائل، حُلّت مبدئيا على الأقل في أوربة وأمريكا الشمالية، وذلك عبر اختزال هذه الحقوق في رباعية “الاعتقال التعسفي والتعذيب والاختفاء والقتل خارج القضاء”، هذه الرباعية التي وضعتها “الحرب على الإرهاب” على المحك في هذه الدول نفسها.

كان مشروع “الإمعان في حقوق الإنسان” محاولة جماعية لإخراج هذه الحقوق من القراءة الأوربية-المركزية، بمشاركة 52 باحثا من القارات الخمسة، وجاء صدور “قاموس حقوق الإنسان” بالفرنسية، ليؤكد ما قاله مناع حول عملية التأميم النفسية لموضوعة حقوق الإنسان في الخطاب والكتابات الغربية. لا يهم إن كان “ابن عربي”، قد طالب بإلغاء حكم الإعدام قبل مفكري التنوير في أوربة، أو أن التاوية قد هزت مفهوم الجريمة والعقاب قبل بكاريا،  المهم أن البيت الثقافي الأم لهذه الحقوق كان أوربيا! كان تعليق مناع على القاموس الفرنسي حازما بعد شهر من صدوره: “هل بالإمكان مع نظرة مبتسرة لحقوق الإنسان الرد على الأسئلة الجوهرية للمواطنة وانعتاق الأشخاص في الدول غير الديمقراطية؟ هل يمكن إعادة اكتشاف الذات الإنسانية ومشروع النهضة والنهوض دون ولوج عالم الحقوق الإنسانية من بابه الواسع؟ هل كان انتقال هذه الحقوق من الجيل الأول إلى الثاني والثالث والرابع..، مجرد نتيجة لصراع المعسكرين أثناء الحرب الباردة وصعود حركة التحرر الوطني أو ما يسمى عند بعض الغربيين الإيديولوجيات العالم ثالثية؟ أم أن صعود هذه الحقوق يشكل المسيرة الطبيعية والمنطقية لفكر وتوجهات حركة حقوق الإنسان كحركة عالمية أفلتت من عقال المركزية الغربية والإيديولوجية الليبرالية لتصبح في حدقة الرد على المشكلات الإنسانية الأساسية في حقبتنا؟ لا شك بأن القراءة الغربية لحقوق الإنسان ما زالت تسيطر على رؤوس الكثيرين من رموزها ومنظريها في الولايات المتحدة وأوربة، وتكفي قراءة سريعة لقاموس حقوق الإنسان الذي صدر حديثا (2008) وأكثر من محاولة لموسوعة حقوقية في أوربة لملاحظة ذلك. لكن هذه الحقوق، كمشروع مركزي غير منجز في حاضر البشرية، ليست مجرد ترف تتسلى به الشعوب الفقيرة، بل مفتاح للرد على مشاكل وانتهاكات وجودية، من هنا ضرورة تحريرها من النظرة الغربية المركزية، وأهمية متابعة التقدم الفكري والأنثروبولوجي والقضائي في مجال الحقوق الثقافية باعتبار معركتها، جزء أساسي من معركة المواجهة مع أطروحات التفوق والتفاوت الحضاري وصراع الحضارات”.(هيثم مناع، الحقوق الثقافية وإشكالياتها، 2008، نعيد نشره في هذه المختارات).

بحث مناع عن شجرة نسب الحقوق الإنسانية في الثقافات غير الأورو-أمريكية، وأعاد نشر نصوص مبكرة في نقد عمليات الإبادة الجماعية التي نالت السكان الأصليين في الأمريكيتين، كذلك تجارة الرقيق التي شارك فيها عرب وأروبيين خلال عدة قرون. كتب في الاقتصاد السياسي للإماء وفي الصراع بين المعرفة الدينية والمعرفة الحكمية Savoir savant في التاريخ العربي و/أو الإسلامي. كذلك أشكال المقاومة والتمرد المختلفة على الرأسمال التجاري الربوي شرقي المتوسط. ونشوء الروابط المهنية المدنية الأولى في الدولة العباسية. أعاد اكتشاف الحسن البصري، أول من طرح استقلال القضاء وسلطة الأمة في وجه سلطان الخليفة في العصر الأموي، ورواد العقلانية الأوائل من دهريين ومعتزلة.. كذلك شجرة القرابة بين “الإنسان الكامل” في الثقافة الإسلامية ونهاية عصر الإنسان القاصر في فكر التنوير في أوربة. ومنذ كتابه “تحديات التنوير”(1991)، وضع ما أسماه “التابو-ت الطائفي” والعنف عدوا رئيسيا لكل عمليات بناء المواطنة على أساس مدني حديث في البلدان الإسلامية.

لم تكن مواقف مناع تقليدية أو سياسوية، بقدر ما كانت مبدئية ولو كان وحيدا. ففي 1980، انتقد اليسار التقليدي الذي اعتبر التدخل السوفييتي في أفغانستان “ثورة في الثورة”، واعتبر حملات التعبئة للجهاد في أفغانستان أكثر ضررا على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني من وعد بلفور. وفي غمرة شعبية الثورة الإيرانية ووصول الإمام الخميني إلى باريس كتب مقالة “الإسلام والثورة” حذر فيه من سيطرة الجهاز الديني على الدولة الإيرانية وضرب الحركات المدنية والسياسية وإقامة دولة شمولية: “المؤسسة الدينية في إيران هي “الحزب” الوحيد المنظم الذي يضم قرابة 150 ألف شخصا في ظل دكتاتورية الشاه، وسيكون من الصعب على القوى المدنية أن تأخذ مكانها الطبيعي والضروري في أية ثورة اليوم، خاصة وقد شوّه النظام الشاهنشاهي فكرة “الحداثة” وسحق السافاك كل حديث عن الديمقراطية ولو في حلقات صغيرة “. 

في 1995، وبعدعودة بعثة تحقيق للفدرالية الدولية لحقوق الإنسان من المناطق الكردية، طالب هيثم مناع أعضاء البعثة بإطلاق اسم كردستان تركيا على ما أسمته “جنوب شرقي تركيا”. ووقف أعضاء البعثة الفرنسيين ضد ذلك، بدعوى أن تركيا تشكل الجبهة الشرقية لحلف شمالي الأطلسي ومن الصعب طرح هذا الموضوع لأنه يعتبر دعوة لتقسيم الجمهورية التركية الحديثة. قدم مناع أدلة مقنعة تقوم على وجود 55 بالمئة من الشعب الكردي في العالم في تركيا، وأن من المضحك الحديث عن كردستان سوريا ورفض هذا المصطلح بخصوص تركيا. وقد خسر مناع بالتصويت لكنه نجح في إصدار نص مستقل، في يوم صدور التقرير سماه “تأملات في القضية الكردية” نشر في الصحيفة الرسمية للفدرالية الدولية لحقوق الإنسان، بشرط عدم الإشارة إلى أن هذه التأملات رد على تقرير الفدرالية. ترجمت هذه التأملات لثماني لغات عالمية وصارت من أهم المراجع الحقوقية للقضية الكردية. (أعاد مناع نشرها في كتاب الأوجلانية بعد 22 عاما).

لعب مناع دورا هاما في ولادة المحاكم الجنائية الخاصة في يوغسلافيا السابقة ورواندا، كذلك في التحالف الدولي من أجل محكمة جنائية دولية. ونجح في إقناع السلطة الفلسطينية بالانتساب إلى هذه المحكمة حيث حمل مع وزير العدل الفلسطيني علي خشان رسالة من الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى المدعي العام موريس أوكامبو لانتساب دولة فلسطين لها. كذلك شارك في إنشاء “التحالف الدولي ضد مجرمي الحرب” في أوربة.

في اليوم العالمي لحقوق الإنسان في 1999، وزع بيانا بعنوان “من أجل تحالف دولي ضد العقوبات” وقد طلب من عدد من الحقوقيين الاقتصاديين مراجعته. وما زال حتى اليوم، من أهم النصوص الحقوقية النقدية للعقوبات. جاء في هذا البيان: ” إننا نتوجه نحو شكلين للهيمنة والسيطرة في المنطقة، الشكل الأول هو الحرب العسكرية بالمعنى التقليدي ولكن على قاعدة صفر خسائر. ولعل ما جرى في الكوسوفو يعطينا المثال على ذلك. والثاني، هو استراتيجية الخناق الاقتصادي والعقوبات، كما نرى في العديد من الدول من ليبيا إلى العراق إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة إلخ. لقد بدأت بالتشكل نويات قوية لحركة مدنية دولية ضد الحرب، ولكننا حتى اليوم وعلى صعيد العقوبات لم يتشكل بعد تحالف دولي صلب وعابر للقارات، لتعزيز الوعي العام وتنبيه الرأي العام الدولي لخطورة هذه الجريمة، التي تمارس تحت أنظارنا، بل ويعتبرها البعض بكل أسف، وسيلة مخملية مشروعة لتحقيق أهداف سياسية محددة”.

بعد ذلك قام أول تحالف دولي ضد العقوبات واختير مناع متحدثا باسمه. (أنظر النص الكامل: كتابات مختارة).

كانت الحرب على الإرهاب بالنسبة لمناع “انتصارا للأمن على الحرية أشد من الهزائم عارا”، وفي العشرية الأولى من القرن الجديد، صعّدت كل مشاعر الخوف والحقد من المختلف. في حديثه عن نتائجها على المسلمين والأفارقة في أوربة كتب في 2010: “في معمعان إشهارات الخوف المتبادلة، التي انتجت ثقافاتها الطارئة الهشة، صعدت كلمات الإسلام في أوربة وأوربة في العالم الإسلامي بشكل ومضمون مختلفين ومتعارضين. لم نعد أمام منطق حملة نابليون أو وسائل ولوج الرأسمالية الغربية العالم العربي في ثلاثية البضاعة والمدفع والمطبعة، كذلك لم تعد الرغبة في اكتشاف الآخر تثير فضول قطاعات واسعة هنا وهناك. لقد تشرنقت السلحفاة على نفسها بحيث لم يعد يظهر منها سوى درع صلب غير قابل لأية تسوية مع المحيط والعالم القائم. في هذه البيئة غير الصحية، تتم عملية تهميش منهجية لكل فكر نقدي يحاول أن يواجه عمى التطرف المعمم l’extrémisme généralisé، الذي يتغذى هنا وهناك من فكرة جهنمية غاية في القدم تعتبر “الآخر” مصدر مصائب “النحن”، تُبنى أشباه إيديولوجيات لا تختلف عن تلك التي انتشرت غيومها السوداء بين الحربين العالميتين إلا بالاسم،  ويصبح الحديث في “صراع  الحضارات”، حديثا عن جماعات بنيوية متكلسة، محكوم عليها بالإنغلاق مسبقا، ويتم التضحية في وضح النهار بكلمات لم تعد قادرة على حمل معناها مثل حقوق المواطنة والحريات والعدالة والتضامن في المجتمع الواحد وبين مختلف المجتمعات البشرية. تتكاثر احتفاليات التمجيد بكل من يتقن عملية “شيطنة” الآخر، المسؤول عن العرض المهان و”المواطن” الذليل والمستهلِك المستهلَك وكل فنون الغباء المشهدي الذي يجعل الفقير أكثر فقرا والمهمش أكثر تهميشا وهو يدفع ضريبة كل الأزمات الاقتصادية الغربية باسم “حريات” قزّمتها عولمة حالة الطوارئ..

أسس المكتب الدولي للجمعيات الإنسانية في 2003 الذي انتسبت له 156 جمعية ومؤسسة إنسانية من كل القارات. وانتخب رئيسا له حتى عام 2011. وقد قام المكتب بجهود كبيرة لرفع الملاحقات والمصادرات بحق جمعيات خيرية إسلامية باسم الحرب على الإرهاب. وقاد التحالف الدولي لإغلاق غوانتانامو والسجون السرية ورفع القوائم السوداء.

منذ عام 1973، نشرت مجلة “دراسات عربية” لطالب في كلية الطب مقالا بعنوان “الأسرة الأبوية في الإسلام”. منع العدد في كل البلدان العربية،  ومنذ انطلاق ما سمي “الصحوة الإسلامية” أصدر في 1980 كتاب “المرأة في الإسلام”. ودراسة “تحية” لاتفاقية “السيداو” حيث اعتبرها:  “قفزة بشرية هامة في وقت تسعى الظلاميات فيه إلى حجب المرأة وربط تحررها بالخلاعة والتفسخ الأخلاقي”. كان يُطلق على مناع في الجامعة اسم “صديق المرأة والأقليات”، وخاض مع الفقيد الدكتور معن معلا عدة معارك مبكرة مثل الاعتراف بالجينوسايد الأرمني والسرياني ونشر “نقد الكنيسة الكاثوليكية” (حول محاكم التفتيش في أوربة القروسطية) وطالب مع الفلسطيني الدكتور تيسير أبو راشد ومعن معلا بإلغاء وضع كلمة (موسوي) على جوازات سفر المواطنين السوريين من الديانة اليهودية. حيث استدعاهم وزير الدفاع مصطفى طلاس لمكتبه وقال لهم: لو لم تكونوا من عائلات وطنية معروفة كنا علقنا مشنقتكم، في الكيان الصهيوني يوضع على كل بطاقة هوية الدين أو الطائفة.. أجابه معن معلا: في جنوب إفريقيا أيضا.. ضروري نقلد الآخرين بأسوأ ما عندهم.”

أمضى عدة أشهر في المكتبة الوطنية في باريس يعيد بناء التكوين الاجتماعي لمكة والمدينة المنورة في حياة الرسول العربي، كان همه إظهار واقع الحياة اليومية في الإسلام الأول، وانتهى في ديسمبر 1980 من دراسة “المجتمع العربي الإسلامي، من محمد إلى علي”، الكتاب الذي رفضته دور النشر حتى 1986. ثم بدأ العمل مع بوعلي ياسين على قضية المرأة في اللغة والعادات الاجتماعية وألف ليلة وليلة. (نشر تباعا “المرأة في الإسلام”، المرأة في التاريخ العربي الإسلامي، المرأة في لسان العرب، الصراع بين المعرفة الدينية والمعرفة الحكمية…). وترجم للعربية “التاريخ الاجتماعي للحجاب” للدكتور منصور فهمي وهو جزء من إطروحته في السوربون التي نشرت في 1913، من المعروف أن منصور فهمي قد اضطره الأزهر لأن يعتذر عن أطروحته وأن لا يترجمها للعربية مقابل إعادته للتدريس الجامعي في مصر. وقد نشر ما ترجمه ضمن كتاب جماعي أصدره في 1990 “الحجاب”. في حين أصدر الفقيد بوعلي ياسين كتاب “خير الزاد من حكايات شهرزاد” في 1986 بعد كتابه الأول والمتميز “الثالوث المحرم”. وعملا معا على موضوعة “انتاج الإنسان شرقي المتوسط” التي صدر فيها كتاب واحد، وتوقفت مع إصابة بوعلي ياسين بمرض عضال.

في العشرية الأولى من هذا القرن، وفي اليوم التالي لوفاة الجنرال حافظ الأسد نشر “الاختيار الديمقراطي في سوريا” في صحيفة “الحياة” اللندنية، ثم باشر مع ناصر الغزالي وفيوليت داغر معركة التعريف بالحركة الثقافية السياسية السورية عبر كتاب جماعي شارك فيه 17 باحثا وباحثة من داخل البلاد، قسم هام منهم خرج حديثا من المعتقل. وقد صدر كتاب “حقوق الإنسان والديمقراطية في سوريا” في أوج ما يعرف بربيع دمشق. وقد تابعت اللجنة العربية لحقوق الإنسان ومجلة “مقاربات” و”مركز دمشق للدراسات النظرية والحقوق المدنية” الذي أسسه ناصر الغزالي في السويد، التعريف بالحركة المدنية الديمقراطية الناشئة وكتابها ومناضليها حيث نشرت كتاب الفقيد المحامي حبيب عيسى “النداء الأخير للحرية” (أرسله من وراء القضبان ونشر في 2003)، كذلك “من أجل مجتمع مدني في سوريا، حوارات “منتدى الحوار الوطني” في 2004 (كان رئيس المنتدى رياض سيف في المعتقل وقتها)، “حالة الطوارئ ودولة القانون في سوريا” (مناع وعبد المجيد منجونة وهيثم المالح) وعشرة أعداد من “مقاربات” نافذة لكل الديمقراطيين حيث لا يوجد اسم سوري برز في السنوات الأخيرة لم يكتب فيها.

على الصعيد الإقليمي، طرح ضرورة الحوار بين الإصلاح الإسلامي والعلمانيين الديمقراطيين العرب في البلدان العربية. ونظّم أو شارك في عدة ندوات لهذه الغاية. كان كتاب “تونس الغد” أول عمل يشرف عليه ضم من العلمانيين منصف المرزوقي ومصطفى بن جعفر وتوفيق بن بريك، ومن الإصلاحيين راشد الغنوشي ونور الدين ختروشي وأحمد المناعي، ولم ينجح في عمل مشابه في مصر. لكنه بقي على علاقة شخصية وفكرية متميزة مع عدد من الإصلاحيين مثل الفقيد الدكتور عبد الله الحامد الذي نشر العديد من أعماله (استقلال القضاء في المملكة العربية السعودية، الإسلام والمجتمع المدني…) والأستاذ عصام العطار والدكتور محمد هيثم الخياط والدكتور محمد المرزوقي. (العلاقة الإنسانية إن لم ترتق فوق الخلافات السياسية فهذه مصيبة على مفهوم الصداقة نفسه، يكرر دائما). وقد انضم للفريق المركزي الذي أعد أربعة تقارير أممية متميزة حول التنمية والظلم في العالم العربي  بإشراف الدكتورة ريما خلف.

أعاد الديمقراطيون في البحرين طباعة العديد من مؤلفات مناع، ونظم مع الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان دورات تدريبية هامة لمناهضة التعسف والتعذيب وبناء دولة القانون في المنامة، شارك فيها عشرات الحقوقيين من مختلف بلدان الخليج، وفي 26 يناير 2010، نال جائزة أحمد الشملان التقديرية، وكان لموقفه المبدئي الداعم للديمقراطيين في البحرين بعد قمع الحراك الشعبي بعد عام، أثره في وضعه على القائمة السوداء في معظم دول الخليج. كذلك دفع الثمن صديقه الشاب الناشر علاء الدين آل رشي، الذي نشر عدة مؤلفات لمناع في المملكة العربية السعودية.

من الضروري التذكير بوجود مناضلات ومناضلين أحرار، مثل الفقيد المهندس عبد الرحمن النعيمي ورفاقه (البحرين)، والفقيد الباحث والكاتب السوري حسين العودات ودار الأهالي، والناشر الإصلاحي الأستاذ علاء الدين آل رشي،  والفقيد الأستاذ يعقوب قرو صاحب دار عشتروت للطباعة والنشر، والأستاذ عيسى الأحوش صاحب بيسان للنشر، كان من الصعب نشر أكثر من مئة كتاب ومجلد، عرّفت الناس على ما يعرف اليوم بمدرسة “اللجنة العربية لحقوق الإنسان” الفكرية بين 1996 و2011، والتعريف بإصدارات المعهد الاسكندنافي لحقوق الإنسان منذ أكثر من عقد من الزمن.

في العشرية الثانية من هذا القرن، انخرط في النضال المدني السلمي من أجل التغيير في تونس ومصر وسوريا.. وقد وقف بحزم ضد ما أسماه مؤامرة العسكرة في التجربة السورية، مطلقا ما عرف باللاءات الثلاث (لا للعنف، لا للطائفية، لا للتدخل الخارجي) في نيسان/أبريل 2011، وقد دفع ثمنا غاليا لهذه المواقف شخصيا وعبر أهم أحبته ورفاقه الذين ناهضوا الدكتاتورية وتمسكوا بالخيار السلمي للتغيير الديمقراطي ( شقيقه المهندس معن العودات (اغتيال)، المهندس محمود العودات، الدكتور عدنان وهبه (اغتيال)، الدكتور عبد العزيز الخير (خطف)، المحامي رجاء الناصر (خطف)، المهندس إياس عياش (خطف)… 

بعد كتابة “عهد الكرامة والحقوق” مع عبد العزيز الخير وسمير عيطه وبطرس حلاق، سعى مع ما سمي معارضة الداخل المستطاع لمواجهة العسكرة والتطييف والتدخل الخارجي، ومنذ العام الثاني قدم تقريرا (ننشره لأول مرة) حول الطريق المدمر والمسدود للجهاديين ومن تحالف معهم والصامتين عنهم أكد فيه:

“لا يمكن لثورة مضادة مذهبية أن تنتصر في سورية على الدكتاتورية. بل لعل الطائفية والمذهبية أول مسمار في نعش الثورة. من هنا نؤكد ، أن ثورة أهل المواطنة هي السبيل الوحيد للقضاء على الدكتاتورية والتخلص من حكم العائلة والأجهزة الأمنية والمحسوبيات والعلاقات العصبية والزبونية. لقد أصبح من الضروري تحقيق الفرز الواضح بين القطب الديمقراطي بكل مكوناته، والقطب الإستبدادي بكل تعبيراته. لم يعد هناك مكانا للصمت أو المهادنة، لأن المهادنة تعني المشاركة في اغتيال أجمل ما قدمت لنا انتفاضة الكرامة، المواطنة في وجه الرعية، المدنية في وجه العصبية، السيادة في وجه الهيمنة الخارجية والديمقراطية كمنهج جامع لكل السوريين.”

في آخر يناير 2013 نظم في جنيف مؤتمرا سوريا دوليا “من أجل سوريا ديمقراطية ودولة مدنية” ردا على مؤتمر الدوحة وتأسيس الائتلاف السوري تحت مظلة ووصاية “أصدقاء الشعب السوري”. حارب وزير الخارجية الفرنسي (لوران فابوس) المؤتمر وطلب من السلطات السويسرية عدم منح تأشيرات دخول للمشاركين فيه. بل نظم مؤتمرا صحفيا في باريس لحظة افتتاح المؤتمر محاطا ببعض أعضاء من الائتلاف للتأكيد على أنهم وحدهم “الممثل الوحيد للثورة والشعب والمعارضة”. ومع ذلك حضر المؤتمر 270 شخصا من مختلف دول العالم وشارك عدد ممن رفضت تأشيرات دخولهم عبر السكايب. ويوم إعلان مخرجات المؤتمر، أعلن معاذ الخطيب أول رئيس للائتلاف أنه مع الحل السياسي والتفاوض. واستقال الشيخ من الائتلاف.

“العنف يؤجج العنف والحقد يزيد العمى ولا يعطي سوى الدمار، الحل الأمني العسكري سلاح دمار شامل ضد الشعب السوري ولا يمكن الرد عليه بالوسائل العنيفة نفسها”. “اللي بدو يجاهد يجاهد في بيت أبيه”، “تحضرون ألفا من الشاشان يأتيكم ألفين من لبنان، لا نريد أن تكون سوريا ضحية أكثر القضايا غباء وتخلفا… قميص عثمان صار فتاتا ودم الحسين ترابا.. الثارات المتأخرة تعيدنا لمجتمع الغاب”.. بعد كل تصريح من هذا النوع كانت تخرج سلال التهم بالعمالة والخيانة من الإسلاميين على اختلافهم، ناهيكم عن تزوير وثائق بصلاته ببشار الأسد وتقديمه النصائح له في القصر الجمهوري (الذي لا يعرف حتى مكانه)!!.. ليس المكان لاستعادة السنوات العشر الأخيرة، ولكن من الضروري على الأقل أن نستخلص بعض الدروس والعبر اليوم. لذا وجدت من الضروري استعادة مقابلة جامعة أجرتها “المندسة” مع مناع في الذكرى الثالثة للثورة، تكفي قراءاتها للوصول إلى حالنا الراهن بعد عقد من الزمن.

خاض مناع مع عدد من المفكرين الاقتصاديين معركة “إعادة التفكير في الحق في التنميةRethinking Right to Development ، ومعارك من أجل تمكين الحقوق الثقافية وحقوق الأقليات، فيما يتعدى إعلان مبادئ غير ملزم (أنظر الحقوق الثقافية وإشكالياتها من هذا الكتاب)، وقد رفضت مؤسسات الأمم المتحدة تنظيم أية فعالية تستحق الاسم حول هذه المواضيع. ولا غرابة، فالأمين العام للأمم المتحدة هو الذي رفض نشر تقرير “الظلم في العالم العربي والطريق إلى العدالة”، الذي كان مناع أحد محرريه.

 خاض في معركة المقاومة المدنية واللا عنف، كسبيل وحيد لتفكيك الدكتاتوريات في آخر معاقلها. “لم أتعلم اللا عنف في مدرسة غاندي أو مارتن لوثر كنغ، ولو أنهما من أحب الشخصيات لنفسي، تعلمت اللا عنف في مناطق النزاعات المسلحة حيث اقتادتني بعثات التحقيق إلى أشباه المشافي في أشباه مخيمات في أشباه بلدان، حيث تكون حياة وكرامة الإنسان البضاعة الأرخص”.

كانت البوصلة في مواقف مناع باستمرار حقوق الإنسان والشعوب. لذا كانت أوديل سيديم بولان الأمينة العامة للفدرالية الدولية لحقوق الإنسان في التسعينيات تسميه: “أصولي حقوق الإنسان“، أما فرانسوا جاكوب، المقاوم والباحث الحائز على جائزة نوبل فقد طلب منه تأسيس معهد لثقافة حقوق الإنسان “للتواصل مع الأجيال الجديدة والمساهمة العملية في إنقاذ حقوق الإنسان من ثقافة المجتمع المشهدي والعولمة”.

من أقسى المعارك التي خاضها مناع، كانت تلك التي خاضها مع أصحابه من “الديمقراطيين العلمانيين” الذين دخلوا في لعبة “التحالفات” الإقليمية والدولية منذ انطلاقة الحراكات الشعبية في العديد من الدول العربية، سواء ممن رفض من “إعلان دمشق” الدخول في مشروع “هيئة التنسيق الوطنية” التي رفضت العنف وسياسة المحاور وقتها، ودخل في مشروع “المجلس الوطني السوري”، أو صداقته التاريخية الفكرية-النضالية مع المنصف المرزوقي. رفض دعوة صديقه المرزوقي له لحضور “مؤتمر أصدقاء الشعب السوري” في تونس في 2012 كذلك استنكر إغماض عين حكومة التريوكا عن سفر آلاف التونسيين للقتال في سوريا. وقطع أية علاقة مع صديق ربع قرن، بعد تصريح له حول قطر في 2013 قال فيه: “الناس الذين يتطاولون على هذه الدولة الشقيقة بالسب والشتم، هم أناس يجب أن يتحملوا مسؤولياتهم أمام ضمائرهم قبل أن يتحملوها أمام القانون”…  عندما واجه أحد قياديي “حزب العمل التونسي” مناع بما قال صديقه المنصف، أجابه: “خلال 15 عاما، رفضت مدرسة اللجنة العربية لحقوق الإنسان السكوت عن انتهاكات وتجاوزات أي نظام سياسي من الماء إلى الماء، هذا الموقف لا يمثل إلا صاحبه”.

رغم ضغط النضالات اليومية، حرص مناع على نقل المعرفة الحقوقية النقدية للأجيال القادمة. وفي 12 عاما من وجود المعهد الاسكندنافي لحقوق الإنسان، ورغم كل المضايقات التي تعرض لها المعهد والحصار المادي عليه من كل المؤسسات الغربية والعربية، تمكن من استقبال قرابة 4000 طالب وطالبة وباحث وباحثة وعدد كبير من المتدربين.

شارك في تدريب مئات الحقوقيين الشباب في الجزيرة العربية والخليج والسودان واليمن والمغرب وتونس وسوريا وفلسطين وموريتانيا والعراق وأوربة وإفريقيا.. وفي معظم بعثات التحقيق التي قام بها كان يخصص يوما إضافيا لإلقاء محاضرة أو تنظيم دورة مصغرة لتدريب الكوادر. نظم عشرات المؤتمرات دفاعا عن الشعوب المظلومة. كسر مقص الرقيب منذ بداية منفاه الإجباري في 1978، فمُنع من عدد من المنابر الإعلامية. لكن منعه من معظم المنابر الإعلامية، لم يكن كافيا، فلجأ خصومه إلى الثلم والكذب بحقه دون أن يمنح يوما حق الرد. وكل ذلك لم ينجح في اغتيال هذا الصوت الحر.

بعد ثلاثين عاما على صدور كتابه “تحديات التنوير” نجد الأسئلة التي طرحها أمامنا والتحديات التي تناولها أكثر حدة وقوة من ذي قبل. يتابع مناع مسيرته الفكرية والنضالية بلا كلل، ويخرج علينا بأقل من شهرين بكتابين جديدين في 2021: “تهاوي الإسلام السياسي” و”بناء المواطنة”.. في معركته الطويلة ضد الظلامية والتطرف ومن أجل نهضة مشرقية جديرة بالاسم، وبناء مواطنة حديثة على هذا الركام الذي أوصلنا طغيان العصبيات الضحلة وتوحش السلطات الأمنية وأمراء الفساد والاستبداد إليه.

                        ماجد حبو، أسامة الرفاعي، صالح النبواني، مرام داود، هدى المصري

الكتاب على الرابط التالي:

عميد المدرسة النقدية في حقوق الإنسان والمواطنة