في 8/5/2008 قال وزير الدفاع الجيورجي دافيد كزراشفيلي (حامل الجنسية الإسرائيلية): “لا أعتقد أن جورجيا تعطي الإنطباع بأنها بلد مصاب بالجنون لتشن حربا ضد روسيا”. فهل أصيب الفريق الحاكم بالجنون ليشن حربا على أوسيتيا الجنوبية يقتل فيها أكثر من 25 ضابطا من قوات حفظ السلام الروسية ومئات المدنيين من هذا الشعب المتحدث بالروسية، والذي لم يقبل بعد دخول الجيش الجيورجي لأراضيه؟
كانت الإدارة الأمريكية الثلاثية (بوش-شيني-رامسفلد) تتحدى العالم باحتلال العراق خارج موافقة مجلس الأمن، عندما رأى مجموعة من الجيورجيين المحافظين إمكانية بناء قوة قومية تتحالف مع المحافظين الجدد والحركة الصهيونية داخل وخارج إسرائيل، من أجل تكرار التجربة الكوبية في القوقاز. فكما استطاع الثوريون الكوبيون، بدعم من ثوريين من أمريكا الجنوبية، إقامة شوكة في حلق الولايات المتحدة الأمريكية، طرح ميخائيل ساكاشفيلي مع مجموعة من المحافظين والموالين لإسرائيل فكرة تسليح حديث لجيورجيا وانخراط مباشر في حلف الناتو، مع طلب انتساب للاتحاد الأوربي لخلق خنجر حقيقي في خاصرة الجار الروسي. الفارق أن كاسترو-غيفارا كانا في صلب حركة ثورية رومانسية، في حين أن “فريق جيورجيا القومي” يحمل مزيجا من الشوفينية والبراغماتية، ويعتمد أكثر على مبدأي السمسرة الإقليمية والمرتزقة الجدد.
هكذا تمت التعبئة القومية في “ارتياني ناسيونالوري مودسراوبا” أي (الحركة القومية الموحدة) لمواجهة أخطار تفتيت جيورجيا عبر استقلال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، وظاهرة البطالة المستفحلة التي فاقت ثلث اليد العاملة في البلاد. وكون أي تأييد غير مشروط للسياسة الأمريكية يعني أن الحكومة الموالية ديمقراطية، لم يتوقف أحد عند الممارسات غير الديمقراطية للحكومة القومية الجديدة. بل لم تتابع لجنة حقوق الإنسان في البرلمان قضية تتعلق بوزير الدفاع الحالي حين كان مسؤولا عن الشرطة المالية. الإعلام الغربي قام بعملية التجميل اللازمة للثورة الوردية، وقدم الفريق المحارب الجديد باعتباره حاملا للقيم الغربية وحليفا أكيدا.
لم تكن الدولة العبرية بحاجة لدعم مفضوح لهذا المشروع. ففيها أكثر من ستين ألف من اليهود الجيورجيين الذين شكلوا أول الهجرات الكبيرة من الإتحاد السوفييتي. قسم منهم اختار تجارة السلاح وشبكاتها السرية والعلنية. كما أن قسما من المهاجرين عاد إلى تبليسي بتوجيهات من المنظمات الصهيونية.
يعيش في العاصمة الجيورجية (عدد اليهود في جيورجيا حوالي 12 ألف نسمة اليوم ومع هذا يمسكون بوزارات عديدة أهمها الدفاع والتأقلم). لم يعد سرا وجود الجنرال هيرش، وعدد كبير من الخبراء الإسرائيليين لتدريب القوات الخاصة الجيورجية على نمط تلك الإسرائيلية (سايرت ماتكال). فقد صرح وزير التأقلم، تيمور يعقوبشفيلي: “على دولة إسرائيل أن تعتز بخبرائها الذين دربوا الجنود الجيورجيين”.
إذن تملك الحكومة الإسرائيلية ورقة ممتازة، ولو أن لعبتها فيها مكشوفة للمخابرات الروسية. فبالإضافة لدورها في المنطقة العربية، تسمح لها علاقة عسكرية مع جيورجيا بامتلاك وسيلة ضغط فعلية على روسيا ذات العلاقة الجيدة مع إيران.
هذه “الثورة المضادة”، باستعارة تعبير من الأدبيات الاشتراكية لم يعد يستخدم كثيرا، كان يمكن أن تنجح لو لم يكن قوامها مراهقين في السياسة والاقتصاد، ولكن أيضا وقبل ذلك، لو لم تكن الإدارة الأمريكية تسبح في المستنقع العراقي وتتخبط في اللغز الأفغاني وتتراجع في أمريكا الوسطى والجنوبية. من هنا، وبعد عنتريات ميدانية لوزير الدفاع السابق رامسفيلد في 2003، تسير كونداليزا رايس والرئيس بوش في آخر أيام الإدارة الأمريكية على سياسة تذكرنا بالمثل الشعبي القائل: “الكلب الذي يكثر العواء لا يملك أسنانا يعض بها”.
موافقة الرئيس الفرنسي ساركوزي على مشروع النقاط الست التي حررت منحازة لروسيا، تعني أن قسما هاما في أوربة لم يعد مقتنعا بمغامرات المحافظين الجدد وأساليبهم. فهي قد تؤدي إلى بلقنة القوقاز باتجاه دول صغيرة ناطقة بالروسية، تشكل حزاما واقيا حول الفدرالية الروسية. خاصة في وقت تسود فيه حكومات جارة معادية في بولونيا وأوكرانيا، تعتبر الإرتهان لسياسة حلف شمال الأطلسي، الدرع العسكري الحامي من الجار الروسي.
استعملت القوات الجيورجية نمط الجيش الإسرائيلي القائم على الهجوم الخاطف. في حين لجأت روسيا لإسلوبها التاريخي التقليدي القائم على الكم الذي يخلق النوع. وكون الضحايا في صفوف الأبخازيين والأوسيتيين الجنوبيين من هجمات الجيش الجيورجي كبيرة، يمكن القول أن عودة أية قوات جيورجية من جيش أو شرطة لن تكون موضع ترحيب الإقليمين شبه المستقلين. وبعكس الشيشان، الجيش الروسي هنا مرغوب ومطلوب من السكان.
يعطي طلب الإسرائيليين المقيمين بشكل دائم في تبليسي نقلهم بطائرات الشركة الجيورجية للطيران، يعطي هذا الطلب مؤشرات عن مستقبل الصراع. خاصة وأن شركة العال، بالتنسيق مع الوكالة اليهودية وإشراف النائب في الكنيست ليون ليتينسكي، أمنت أيضا وصول يهود غورني إلى العاصمة ونظمت نقل 230 من يهود جيورجيا إلى إسرائيل. فهل دق ناقوس الخطر!
آخر رئيس للإتحاد السوفيتي ميخائيل غورباتشوف يدخل على خط التحليل ليقول: “الألعاب الجيوسياسية خطرة في كل مكان، وليس في القوقاز فقط”. ولعل هذا الزعيم، الذي أبصر بعينيه انهيار إمبراطورية، يشتم بأنفه حماقة القوى الافتراضية التي خلقتها الهيمنة الأمريكية.فكما كان التهور الأمريكي في العراق مؤشرا لتحجيم القدرة على التدخل العسكري الأمريكي، ها هو التهور الجيورجي يعطي روسيا الفرصة للعودة إلى حلبة السياسة العالمية من موقع المهاجم. يأتي هذا بعد أيام من حضور قرابة 90 رئيس دولة افتتاح الألعاب الأولمبية في بيجين، في استعراض سلمي للقوة الصينية أيضا. كل هذا مع أمريكا لاتينية أعطتها الحرب على الإرهاب فرصة لا تفوت للخروج من مهانة “الحديقة الخلفية” للولايات المتحدة الأمريكية.
فهل بالإمكان الحديث عن بداية النهاية لهيمنة القطب الواحد؟
————————
19-08-2008