ديسمبر 06, 2024

معارك غوانتانامو السرية والعلنية

Guantanamoفرنسا مستعدة لاستقبال جزائري، البرتغال مستعدة لاستقبال اثنين من السوريين، بلجيكا تتراجع عن استقبال تونسي وتستبدله بأوزبكستاني، 16 صيني من الإيغور ما زالوا بانتظار دولة مضيفة منذ 3 أكتوبر 2007،… إلخ. هذه الجمل ليست مأخوذة من صالة عامة للمزاد العلني، بل هي عناوين صحف يسهل تجميعها.

إنها تختصر مباحثات ماراثونية يشارك فيها أحيانا أكثر من عشرين شخصا من ستة أو سبعة بلدان، لتقرير مصير معتقلين وافق البنتاغون، منذ تسلم روبرت غيتس منصبه كوزير للدفاع في 18/12/2006، على تقييم منظمات حقوق الإنسان لهم باعتبارهم “غير مقاتلين وغير أعداء”. بل لا يتعدى سبب اعتقال الكثير منهم التواجد في لحظة ما في مكان مشبوه في ظرف غير مناسب.

منذ رحيل دونالد رمسفيلد من البنتاغون، بدأت الدولة الأميركية – بمعنى الدولة أكثر منه الإدارة- تبحث عن وسائل تفكيك ما صار يعرف بمنظومة غوانتانامو Guantanamo system. وقد بدا ذلك واضحا في قبول إدارة السجون الأميركية نقاش سيناريوهات متعددة مع أطراف بين حكومية (منظمة الأمن والتعاون في أوروبا)، وأطراف غير حكومية مثل “التنسيق العالمي لإغلاق غوانتانامو”، بل وطلب مساعدتها في العثور على مخرج أكثر إنسانية للمعتقلين وأمنا للأميركيين.

حينما بدأت هذه المرحلة، ظهر للعيان فصاحة المثل الشعبي القائل: “عندما يلقي مجنون بحجر في بئر، نحتاج لأربعين عاقلا لإخراجه”.
فغوانتانامو، كما تبين، ويتبين للإدارة الأميركية الجديدة، ليس مجرد سجن، بل منظومة معقدة ومتماسكة للإذلال البشري. وبوصفها كذلك، فقد طحنت وما زالت تطحن كل من يدخل حيزها الحيوي. وتعجز في الوقت نفسه عن إنقاذ الضحايا، باعتبار شيطنتهم شرطا واجب الوجوب لتماسك نقطة البدء الجهنمية. تلك التي اغتصبت جملة القيم والمفاهيم المقرة من الجماعة الدولية، والهادفة للحفاظ على حد أدنى من الكرامة للعدو في الحرب والسلم.

كان السيناتور الراحل إدوارد كينيدي قد وصف منذ 2/4/2004 العقلية المنجبة لمنظومة غوانتانامو، في حديثه عن المهندس القانوني لعملية الخروج على دولة القانون، ويليام هاينيس الذي أنضج وطور ثلاثة من أكثر قرارات الإدارة الأميركية السابقة مبعثا للاستنكار: “رفض معاملة أي سجين من مئات القابعين في غوانتانامو كأسير حرب تطبق بحقه اتفاقيات جنيف لعام 1949، تكوين محاكم عسكرية لمحاكمة المتهمين بجرائم حرب، الاعتقال والتوقيف حتى لمواطنين أميركيين بدون طلب أو مذكرة قضائية”.

يمكن أن نقول اليوم -دون أن نتجنى على أحد- إن الأفكار الجهنمية لهاينيس، سواء منها الخاص بالصفة القانونية للسجناء (المقاتلون الأعداء) أو (التقنيات المتقدمة للاستجواب)، لم تكن لتدخل حيز التطبيق لولا الدعم والتأييد الذي لاقاه من نائب الرئيس ديك تشيني ومستشاره دافيد أدينغتون ووزير الدفاع رمسفيلد. فيما يفسر صعود ديك تشيني للواجهة كلما جرى الحديث في ملفات التعذيب والمحاكم الخاصة والسجون السرية والتعليمات العسكرية. باعتباره المدافع الأول في قمة الهرم عن كل الانتهاكات التي حدثت، وله يعود “الفضل” في ضمان موافقة وتأييد الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن.

مزيج من الأحكام الأيديولوجية المسبقة، وازدراء القانون، والشعور الباطن بالتفوق، وعنجهية القوة، برز بحدة على السطح بعد جرح 11 سبتمبر/أيلول النرجسي، شكلت فيه وزارة الدفاع غرفة العمليات الرئيسة. ونجم عنه مجموعة قرارات خطيرة على صعيد الحقوق الدستورية في الولايات المتحدة، وانتهاكات جسيمة للقانون الدولي على الصعيد العالمي. بحيث لم تتخلص إدارة الرئيس أوباما بعد من عقابيل هذا الميراث.

ففي 18/9/2001، أي بعد أسبوع من أحداث 11/9/2001، صدر مرسوم السماح للرئيس باستخدام القوة العسكرية بتصويت الكونغرس ومجلس الشيوخ الأميركي. هذه الصلاحيات تعطي الرئيس قرار التدخل العسكري في أية منطقة من العالم. وقد تم تعزيز ذلك بما يعرف بالأمر التنفيذي (أكتوبر 2001) الذي يدوّن قواعد التعامل مع العدو كبديل لاتفاقيات جنيف. بحيث دخلت الولايات المتحدة في منطق اللجان العسكرية، والتعليمات العسكرية، والسجون السرية، والمحاكم الاستثنائية. أي تدشين الأسس الضرورية لمنظومة غوانتانامو.

للدخول في المنطق السائد في ظل ما سمي بالحرب على الإرهاب، من المفيد استرجاع المحادثة التي كشف عنها الكولونيل موريس ديفيس، الرئيس المستقيل للجان العسكرية في غوانتانامو، والتي جرت بينه وبين ويليام هاينيس في أغسطس/آب 2005: “قال لي هاينيس عن محاكمات اللجان العسكرية في غوانتانامو: “هذه المحاكمات ستكون نورمبرغ العصر” -في إشارة إلى محاكمات القيادات النازية في 1945-، “وستصبح أنموذجا للقواعد الإجرائية لمحاكمة مجرمي الحرب”.

علق على ذلك ديفيس بأن محاكمات نورمبرغ تمخضت عن أحكام كثيرة بالبراءة، مما أعطاها مصداقية عند الجمهور. “عند هذه النقطة، يقول ديفيس، فتح هاينيس عينيه وقال: “انتظر لحظة، لن يكون بوسعنا إصدار أحكام بالبراءة، نحن نحتجز هؤلاء الأشخاص منذ فترة طويلة، كيف نفسر الإفراج عنهم دون تهم؟ لا يمكن الحكم بالبراءة.” يضيف ديفيس: “لقد انسحبت لأنني شعرت بأن المنظومة أصبحت مسيسة بشكل لا يسمح للمرء بالقيام بعمله بمسؤولية”.

أصبح من المعروف اليوم أن نقاشات رمسفيلد هاينيس في يونيو/حزيران ويوليو/تموز 2002 حول: فعالية الاستجواب الماراثوني والحرمان من النوم (حرمان 48 ساعة من النوم ثم استجواب 20 ساعة)، التعرية الإجبارية، الإهانة الجنسية، الإهانة الدينية، استعمال الكلاب البوليسية، وسائل تفعيل الشدة والتغطيس، الموجات الصوتية المؤذية، الحرارة القاسية بردا وحرا، واستخدام الأدوية الحالّة العصبية (نيوروليبتيك)… إلخ، هي التي بلورت 24 طريقة “ضغط” تم استعمالها ولم تكن تصنف وسائل تعذيب.

وقد ضمن هاينيس بتوقيع رمسفيلد عليها في ديسمبر/كانون الثاني 2002 القدرة على أن يقول: “وزير الدفاع كان باستمرار صاحب القرار النهائي”. أما جوناتان فريدمان، المستشار في مركز مكافحة الإرهاب التابع للمخابرات المركزية، فيدلي بدلوه في تقييم هذه التقنيات بالقول: “يمكن أن نعتبر هذه التقنيات تعذيبا إذا مات المعتقل”، ولكنه يستدرك: “في هذه الحالة، السبب هو سوء الاستخدام وليس التقنية بحد ذاتها”.

فات فريدمان التذكير بأنه لم يكن بالإمكان الوصول إلى الأقفاص المسماة زنازين ورؤية السجين المكبل، دون الاصطدام بلوحة تقول: “التزام بشرف الدفاع عن الحرية” ! Honor Bound to Defend Freedom.

لم يكن “التنسيق العالمي لإغلاق غوانتانامو” -الذي ولد في باريس في الذكرى الأولى لافتتاح السجن- وحده في المعركة لإغلاق غوانتانامو. فقد باشر الاتحاد الأميركي للحريات المدنية ومركز الحقوق الدستورية مبكرا النضال لإغلاق غوانتانامو. كذلك تم إصدار ثلاث دوريات أسبوعية ونصف شهرية بالإنجليزية والفرنسية من مجموعة منظمات دولية وإسلامية لمتابعة أخبار غوانتانامو. ثم تصاعد النضال بدخول منظمة العفو الدولية بكل ثقلها في المعركة.

وقد اعتبر لوي جوانيه، رئيس فريق العمل الخاص بالاعتقال التعسفي في المفوضية السامية، قضية غوانتانامو آخر معاركه الحقوقية. ورغم الأجواء الباثولوجية للحرب على الإرهاب، فقد نجح البرلمان الأوروبي في استصدار عدة قرارات تطالب بإغلاق معتقل غوانتانامو. إلا أن الحدث الرمزي الأهم، كان في قرار المحكمة الأميركية العليا في 28 يونيو/حزيران 2004. اعتبرت المحكمة أولا، أن الحكومة الأميركية تمارس السيطرة الكاملة على قاعدة غوانتانامو، وبالتالي لا يمكن الحديث عن ممارسات خارج الأراضي الأميركية وثانيا، أهلية المحاكم المدنية الأميركية لمعالجة الوضع القانوني لمعتقلي غوانتانامو باعتبارهم مشمولين بقانون الإحضار أمام قاضٍ.

كانت إستراتيجية المدافعين عن بقاء “منظومة غوانتانامو” تعتمد على نقطتين رئيسيتين: الأولى، التخلص من الحالات المكلفة كحاملي الجنسيات الأوروبية أو حالات الخطأ الفاضح، والثانية: تحمّل الرئيس ووزير العدل ووزير الدفاع مباشرة مسؤولية قرارات تحمي الممارسات الاستثنائية في غوانتانامو.

ضمن هذه السياسة تم الإفراج عن 130 معتقلا، وتأمين زيارات من أجهزة الأمن القومية لمعتقلي البلدان الغربية، مع اختيار خمسة عشر معتقلا لتقديمهم للمحاكمة أمام اللجان العسكرية بعد عامين ونصف من الاعتقال، وتشكيل محكمة إعادة تقييم صفة المقاتل التي تسمح من داخل الجهاز العقابي الخاص للمعتقل بطلب إعادة النظر في الوصف المعطى له.

ولم يمض عام، حتى وقّع الرئيس الأميركي على “قانون معاملة المعتقل” في ديسمبر/كانون الأول 2005. هذا القانون يسحب من المحاكم الفدرالية صلاحية التعرض لمعتقلي غوانتانامو، في مخالفة صريحة لقرار المحكمة العليا. وفي أقل من شهر، واعتمادا على هذا القانون، أرسلت الإدارة الأميركية إشعارا للمحاكم يطالبها برفض كل الطلبات المقدمة من معتقلين في غوانتانامو أو بغرام. بعد ستة أشهر، عادت المحكمة العليا لتعتبر المادة الثالثة المشتركة من اتفاقيات جنيف الأربع تشمل ما يطلق عليه اسم المقاتلين الأعداء، وأن نظام اللجان العسكرية غير قانوني. مما دعا الرئيس بوش لتقديم مشروع قانون جديد للجان العسكرية، تم إقراره من قبل مجلسي الشيوخ والنواب في سبتمبر/أيلول 2006. وفقا للقانون الجديد، لا يحق للجان العسكرية مناقشة أية حالة معاملة قاسية أو لا إنسانية وقعت قبل 31 ديسمبر/كانون الأول 2005. الأمر الذي جعل السلطة التشريعية شريكة في بناء “منظومة غوانتانامو”.

كان من حسن حظ نشطاء حقوق الإنسان أن رئيس اللجنة البرلمانية لمجلس الأمن والتعاون في أوروبا، الأميركي ألسي هاستنغ، من المعادين بشدة لمنظومة غوانتانامو. وقد طالب بتسمية مفوض خاص بغوانتانامو وعهد بالمنصب للسيدة آن ماري ليزان، رئيسة مجلس الشيوخ البلجيكي آنذاك.

بالنسبة لنا، كان لا بد من تحويل أرقام غوانتانامو إلى أشخاص من لحم ودم ومشاعر. عدد من الصحفيين تطوع لإنتاج أفلام قصيرة أو كتابة مقالات تعرّف بشخصية المعتقل وعمله وعائلته ومحيطه. كما ولعبت قناة الجزيرة دورا مركزيا في تحويل النقاشات حول غوانتانامو من أروقة المنظمات بين الحكومية وغير الحكومية إلى الجمهور الأوسع.

كان التنسيق العالمي قد كلفني شخصيا باختيار عشرة أشخاص يمكن أن يكون لحالتهم تأثير على الرأي العام، فاخترت منضوين تحت لواء العمل الخيري والتعليم ومصور الجزيرة سامي الحاج، مع التركيز في الإعلانات المدفوعة الثمن على سامي وعادل حمد وعبد الله المطرفي. ومنذ إطلاق سراح العشرة الذين تم اختيارهم للحملات الإعلامية، لاحظنا كم كان الثمن غاليا، حيث لم يكن من السهل الانطلاق بأسماء جديدة.

في هذا الوقت بالذات طرحت مسألة التعاون بين مختلف المعنيين بإغلاق غوانتانامو من أجل الوصول لهذه الغاية. وقد تم الاتصال بعدة دول أوروبية لاستقبال سجناء لم تثبت أية تهمة عليهم، وثمة خطر على حريتهم في حال عودتهم لبلدانهم. فوافقت عدة بلدان على استقبال حالات لا تتعدى أصابع اليد الواحدة. بل كان رد بعض البلدان، مثل فنلندا، على شاكلة “فليقلعوا شوكهم بأيديهم”. لكن كوننا معنيين بمصير ومستقبل السجين، وليس فقط الإفراج عنه، تقدّم منسق “التنسيق العالمي لإغلاق غوانتانامو” لمدير إدارة السجون الأميركية باقتراح متكامل حول مشروع إعادة تأهيل قرابة ثمانين معتقلا يمنيا (35% من الباقين في غوانتانامو) في الأراضي اليمنية. ذلك بعد البحث عن تمويل للمشروع من رجال أعمال خليجيين وفريق متطوع من الأطباء والمساعدين الاجتماعيين والمدربين لعدد من المهن الحرة.

نوقش المشروع مطولا مع آلان ليوتا ومساعد له بوجود السيدة آن ماري ليزان في العاصمة الفرنسية. إلا أن الاقتراح لم يلق موافقة البنتاغون، الذي يفضل حتى اللحظة خطة عمل أخرى تقوم كما يبدو على:

– تسفير المعتقلين اليمنيين إلى منطقة سعودية محاذية لليمن.
-البحث عن مراكز اعتقال عربية للسجناء الذين ترفض الدول الأوروبية استقبالهم.
-تحويل السجناء الأكثر خطورة إلى سجن حماية مشددة داخل الأراضي الأميركية.

أي أن ما يجري في النهاية الإعداد له من طرف أصحاب القرار، هو الحفاظ على العديد من معالم “منظومة غوانتانامو”، لكن خارج القاعدة الأميركية في كوبا. فيما يذكرنا بمأثورة جان جوريس: “عندما لا يستطيع الأشخاص تغيير الأشياء يغيرون الأسماء”.

من هنا ضرورة وضع إستراتيجية عمل جديدة لكل المناهضين لمنظومة غوانتانامو داخل وخارج الولايات المتحدة.

الجزيرة نت 30-09-2009