لن أتعرض لاحصاءات الكارثة الإنسانية التي يعيشها قطاع غزة بصورة شبه دائمة على الأقل منذ بداية الانتفاضة الثانية، والتي بلغت في الزمن الأخير درجة الحصار الشامل لزمن غير قصير مع النتائج المأساوية التي نعرفها. ولكن سأتعرض لإشكالية الحصار والعقوبات الاقتصادية الجماعية في عالم حقوق الإنسان والأمم المتحدة لإعطاء فكرة عن غياب قطاعات واسعة من الحركة الحقوقية العربية للأسف عن عمل فاعل ومؤثر على هذا الصعيد وترك الساحة في معظم الأوقات إلى مجموعات ضغط يمينية محافظة وصهيونية للتأثير في المؤسسات والرأي العام..
شكلت التسعينات من القرن الماضي أهم سنوات التأمل الحقوقي والمدني حول مفهوم العقوبات والمحاصرة. فهذا المفهوم، الذي نشأ بادئ الأمر باعتباره العقوبة الأقل عنفا لم يلبث أن تحول، مع العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة على العراق، إلى إجراء لا إنساني ليس له أية فاعلية تذكر في بقاء أو سقوط السلطة السياسية المستهدفة. من هنا جرت نقاشات عميقة وواسعة في صفوف المجتمعات المدنية في العالم، كانت محصلتها فك الارتباط بين المنظمات الجدية والمستقلة لحقوق الإنسان وبين مفهوم العقوبات الاقتصادية إلا في حالات جد خاصة، لا تترك هذه العقوبات فيها أثرا على الحقوق الأساسية للناس. وبالتالي أصبحت العقوبات عند التيار الأهم والأعمق في الحركة الدولية لحقوق الإنسان، قبل سقوط بغداد، مرفوضة حقوقيا وأخلاقيا. وتشرفت اللجنة العربية لحقوق الإنسان في 1998، باقتراح مشروع اتفاقية عالمية لحماية حقوق الإنسان ومنع ارتهان الشعوب بالعقوبات الاقتصادية لم تتبناه للأسف المنظمات الشمالية الكبيرة بضغوط اللوبي الموالي لإسرائيل.
يمكن تعريف العقوبات بالقول : هي قطع أو التهديد بقطع العلاقات الاقتصادية بين الدول بهدف التوصل إلى تغيير في تركيب أو مواقف أو سياسيات البلد أو المجموعة المستهدفة. ويمكن للعقوبات أن تأخذ صيغا عديدة تشمل : حظر الاستيراد أو التصدير أو كلاهما، تقييد المبادلات المالية، وقف المساعدات العسكرية أو الاقتصادية، تقييد السوق المالية، الخ. وهي تطبق من جانب دولة واحدة أو عدة دول عبر هيئة إقليمية أو دولية (الأمم المتحدة، الاتحاد الأوربي، جامعة الدول العربية..).
رغم أن العقوبات هي إجراء يتخذ من حكومة أو حكومات بحق دول أو أطراف متمردة، فالأمر لا ينحصر بالسلطات السياسية فقط. إن العديد من وسائل الضغط في الصيغ الأدنى من الدولة (لوبي معين، تعاطف شعبي مع قضية، قوى اجتماعية وسياسية الخ) أو الأوسع من حدود الدول (الشركات المتعددة الجنسية، البنك الدولي، الهيئات بين الحكومية) تؤثر في اتخاذ أو استمرار قرار بالعقوبات.
يعتبر العديد من الخبراء العقوبات سببا لزوال عصبة الأمم. وجاء في ميثاق الأمم المتحدة في المادة 41 أنه “يحق لمجلس الأمن الدولي دعوة الدول الأعضاء وفرض إجراءات لا تتضمن قوة السلاح لتفعيل قراراته”.
فرض مجلس الأمن الدولي خلال الأربعين سنة الأولى من عمر الأمم المتحدة العقوبات على نظامين : الأول: روديسيا الجنوبية أي “زيمبابوي اليوم” والثاني نظام الأبارتايد في جنوب أفريقيا، حيث كان على رأس كلا النظامين أقلية بيضاء مستوطنة. في حالة روديسيا فرضت عقوبات “إلزامية” عام 1966 بعد إعلان الأقلية البيضاء للاستقلال من جانب واحد، ورفعت عام 1969 بعد مباحثات أدت إلى وصول حكومة أغلبية سوداء.
من مفارقات التاريخ، أن بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية هما الدولتان اللتان عارضتا عارضت العقوبات ضد نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا بالرغم من الضغوطات الشديدة عليهما في مجلس الأمن. أخيراً وبعد إجراءات تطوعية ( كان قد تم التصويت عليها عام 1963 ) كان لها نتيجة ضعيفة محدودة، وافقتا على مقاطعة إلزامية Arms Embargo عام 1969. لكنها عارضت كل الجهود التي بذلت من خلال الأمم المتحدة لتشديد هذه العقوبات من ضمنها مشروع قرار استعمل ضده العضوان الدائمان في مجلس الأمن حق النقض في 8 آذار 1988 (S / 19 / 585 ). بالرغم من ذلك أرغمت حملة دولية الحكومات والمستثمرين على تبني إجراءات المقاطعة. ويعتقد العديد من المختصين أن المقاطعة ساعدت في إجبار نظام التمييز العنصري على الانهيار وفي انتقال سلمي نسبياً للسلطة.
الملفت للنظر هو تضاعف ظاهرة العقوبات منذ انتهاء حقبة الحرب الباردة وحلول نظام القطبية الأحادية. مما يشكل تهديدا لأسس القانون الدولي الذي يفترض فيه تنظيم العلاقات بين الدول وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول أو تهديدها أو استعمال القوة في مواجهتها أو التعدي على سيادتها واستقلالها السياسي. لقد فرضت هذه الدولة العظمى على الأمم المتحدة وبالأخص مجلس الأمن قراءتها الخاصة للميثاق بما يتفق مع مصالحها السياسية والاقتصادية. فبطلب من الولايات المتحدة، لجأ مجلس الأمن منذ عام 1990 إلى استعمال عقوبات دولية بحق عدة بلدان ( العراق 1990، يوغسلافيا السابقة1991، الصومال، هايتي وأنغولا 1993، رواندا 1994، ليبيريا 1995، السودان وبروندي 1996)، مستندا في قراراته على الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
بالطبع، لم تقتصر العقوبات على غطاء مجلس الأمن فقط حيث هناك عقوبات فرضتها الولايات المتحدة منفردة على ما يقارب خمسين دولة. هذا بالإضافة إلى عدد مماثل من العقوبات الثنائية التي في غالبها أنجلو-أمريكية، والتي طالت في غالبها دول العالم الثالث بما فيها دولا عربية وإسلامية. واستفادت الدولة العبرية واللوبي الموالي لها من هذا التوجه لتطبيق أقصى العقوبات الجماعية على الشعب الفلسطيني في حالة غياب تام للمحاسبة.
تدخل الاعتبارات السياسية في تحديد حجم ومدى العقوبة المفروضة. وبما أن فرض العقوبات يستلزم مناخا دوليا توافقيا بين الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، فقد لجأت الولايات المتحدة لاستعمال كل الوسائل المتاحة من ضغط وتهديد ورشوة واستعمال القوة لفرض العقوبات التي شاءتها، كما حاولت إبرازها وكأنها قضية المجتمع الدولي؟
إن مجلس الأمن المحكوم بالقانون الدولي ينتهك مهامه والتزاماته القانونية في حماية حقوق المدنيين وبالأخص الفئات المستضعفة من نساء وأطفال الذين يتمتعون بحماية خاصة بصمته عما يحدث في غزة. ومن حق المدافعين عن حقوق الإنسان بقراءتنا للقانون الإنساني الدولي مقاضاة المسؤولين الإسرائيليين بل والمصريين الذين يشاركون في الحصار على غزة بالاختصاص الجنائي العالمي في الدول التي تطبق هذا المبدأ. فعدم الربط بين العقوبات الاقتصادية والحقوق الأساسية للناس مع ما يترتب على ذلك من موت جماعي وعقوبات عمياء يشكل برأينا جريمة ضد الإنسانية في ميثاق روما. والحق في الحياة هو “الحق الأعلى الذي لا يسمح بالمساس به حتى في ظروف الطوارئ العامة”. يؤكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والمدنية والسياسية والاتفاقية الدولية لحقوق الطفل واتفاقية جنيف الرابعة على حقوق الحياة والرعاية الصحية ومكافحة الأمراض وسوء التغذية وخفض وفيات الرضع والأطفال وعلى الحق بالتعليم وبمستوى معيشة لائق وغيره مما أسهم الحصار في انتهاكها. كما نصت المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة على حفظ السلام والأمن الدوليين وإنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المساواة بين الشعوب وحقها في تقرير المصير وعلى تعزيز احترام حقوق الإنسان دون تمييز. فأين ما يحصل في فلسطين اليوم من كل هذه المواثيق؟
21-11-2008
البديل المصرية