أبريل 19, 2024

من توتو إلى غولدستون

Goldstoneفي سبتمبر 2008، قدمت  لجنة تقصي الحقائق، التي يرأسها القس الجنوب أفريقي ديزموند توتو، آخر تقاريرها إلى مجلس حقوق الإنسان عن القصف الإسرائيلي لبلدة بيت حانون في قطاع غزة عام 2006 والذي أدى إلى مقتل تسعة عشر مدنيا. وفي مؤتمر صحفي في جنيف، أعرب توتو عن رفضه للحصار المفروض على قطاع غزة وقال إنه يعد من أكثر العوامل التي تؤثر على ضحايا قصف بيت حانون في الوقت الراهن.

قال تقرير اللجنة، المكلفة من قبل مجلس حقوق الإنسان، إن غياب أي تفسير إسرائيلي قوي حول ما حدث في بيت حانون يجعل اللجنة تخلص إلى أن القصف قد يعد جريمة حرب، وأوصت بأن تقوم إسرائيل بدفع تعويضات للضحايا. انتقد المندوب الإسرائيلي أهارون ليشو يار التقرير في كلمته أمام المجلس، وقال:

“إن التقرير الذي تم تقديمه اليوم سيأخذ مكانه في المكتبة الواسعة لتقارير الأمم المتحدة عن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، كما أن القرار الذي قد ينجم عن التقرير سينضم إلى قائمة القرارات أحادية الجانب التي اتخذها مجلس حقوق الإنسان ضد إسرائيل حتى الآن.”

يومها طالبت اللجنة العربية لحقوق الإنسان والمنظمات الفلسطينية غير الحكومية بمتابعة الموضوع أمام العدالة الدولية. ولكن وبسبب الضغوط الأمريكية في الأيام الأخيرة لإدارة بوش والموقف الأوربي المتخاذل، فإن تقرير توتو دخل أرشيف الأمم المتحدة كما توقع المندوب الإسرائيلي، دون أي متابعة أو محاسبة من أي نوع.

بعد عام، جلست في الشرفة العليا في صالة مجلس حقوق الإنسان في قصر الأمم بجنيف، أراقب وأسمع كلمات الوفود تناقش تقرير القاضي غولدستون،  أفضل تقرير أعد لمجلس حقوق الإنسان منذ ولادته في 15 مارس آذار 2006. على يساره قاضية أخرى من جنوب إفريقيا، المفوضة السامية القاضية نافي بيلاي، وعلى يمينه فريق العمل الذي رافقه في هذه المهمة الشاقة والحساسة السيدة هينا جيلاني والبروفيسور كريستين تشينكين والعقيد ديزموند ترافرز.

لم يخطر ببالي أن يطلق المندوب الإسرائيلي على تقرير غولدستون اسم “تقرير العار” وأن لا يضع رئيس الجلسة بعدها نقطة نظام، ومن المؤسف أن “الزميل السابق” في “حقوق الإنسان أولا” مايكل بوسنر تقمص لغة السلطة جاء ليدافع عن خطاب “حقوق الإنسان أخيرا” وكاد يوحي لي في لحظة ما وأنا استمع إليه بأن أطفال غزة قوة عظمى عندما تحدث عن وجود معيارين.

كنا، مجموعة من مواطني العالم، قد اجتمعنا منذ يناير 2009 في تحالف دولي لنقول لا لغياب المحاسبة، نعم لتدويل الطلب الفلسطيني وغير الحكومي للدعاوى المقدمة للمحكمة الجنائية الدولية وتفعيل الإختصاص الجنائي العالمي في الشرق الأوسط. لأن غياب المحاسبة جعل من جرائم الحرب وسيلة من وسائل العمل السياسي المقبولة في منطق الأقوى. فنحن نعلم سقف ومدى استقلالية السلطة الفلسطينية في رام الله، وشاهدنا بأم أعيننا كيف حطمت إسرائيل البنية التحتية الفلسطينية الأساسية في أربعين عاما ونيف من احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، وكيف جعلت من سكانها بشرا غير قادرين على العيش بإمكاناتهم الذاتية بسبب الحرب المستمرة على الطبيعة والصناعة والزراعة والتجارة والإنسان.. لا بد من صوت للعدالة الدولية يعيد الثقة للناس بأن الإسرائيلي لا يمكن أن يبقى فوق القانون وفوق المحاسبة وأن بإمكانه دائما، حتى لأسباب انتخابية تافهة، أن يستبيح كل ما هو حوله باسم الدفاع عن النفس. كان التفاؤل حذرا ولكن كنا متأكدين من وجود أكثر من ثلاثين صوتا مع تقرير غولدستون عندما وقعت الصاعقة وطلبت السلطة الفلسطينية من مندوبها في جنيف تأجيل التصويت على التقرير ستة أشهر. لم أكن أبصر أمامي من الغضب وأنا متوجه في ظهيرة 2/10/2009 إلى أستوديو الجزيرة في المونبرناس في العاصمة الفرنسية: “لقد تلقيت اليوم جرعة علقمية.. لا يحق لأحد التصرف في حق الضحية في المحاسبة”.. “أبو مازن أترك العدالة الدولية تدافع عن شعبك..” مئات الرسائل والاتصالات انهالت عليّ من الأراضي الفلسطينية دون تمييز بين غزة ورام الله، بين حماس وفتح، من كل منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية والعربية.. وخلال سبعة أيام، انطلقت انتفاضة حقوق الإنسان الفلسطيني ضد قرار التأجيل، مظاهرات ومسيرات احتجاج في المدن الفلسطينية، اعتصامات يومية للضحايا، استنفار عام لمنظمات حقوق الإنسان والمقاومة المدنية، نقاش في آليات اتخاذ القرار الفلسطيني، في العلاقة بين التسوية السلمية وغياب المحاسبة، في الدور الرمزي لمجلس حقوق الإنسان وأهمية توصيات غولدستون. وأصبح مجلس حقوق الإنسان وقضية العدالة الدولية لأول مرة في تاريخه الخبر الإعلامي الأول والأهم في وسائل الإعلام الكبيرة باللغة العربية،  إلى أن رضخت السلطة الفلسطينية لشروط حركة حقوق الإنسان و”التحالف الدولي لملاحقة مجرمي الحرب”: “جلسة طارئة لمجلس حقوق الإنسان، جلسة خاصة للجمعية العامة للأمم المتحدة، متابعة ملف فلسطين أمام المحكمة الجنائية الدولية فورا.”. وزير العدل الفلسطيني يصل إلى باريس صباح الإثنين والتقينا لمباشرة التحرك في ثلاث اتجاهات: لاهاي، جنيف ونيويورك.

تشكلت لجنة فلسطينية للتحقيق وقدمت شهادتي لها على الفور، وأصبحت التعبئة من أجل الاستدراك الدولي لما حدث في معركة مشتركة لكل الأطراف الحريصة على أن يكون للعدالة الدولية صوت، في عالم صار بعد سنوات السجون السرية وغوانتانامو والقوانين الاستثنائية، غابة يحكمها ويفرض نمط عيشها الأقوى. لكن من جديد تفاؤل أكثر من حذر، فقد تحدث رئيس الوزراء الإسرائيلي عشية الإثنين 12/10/2009 ليقول بأن الإسرائيلي فوق العقاب وأن “الدفاع عن النفس” و”يهودية الدولة” موضوعان وجوديان بالنسبة لإسرائيل، وأنه يرفض أن يحال من أرسل إسرائيليا للحرب دفاعا عن أمن إسرائيل إلى أية محكمة وسيفعل ما بوسعه للحؤول دون عودة تقرير غولدستون إلى مجلس حقوق الإنسان.

هذه اللغة التي تجعل من جريمة الحرب والجريمة ضد الإنسانية، وسيلة مشروعة للدفاع عن النفس، هي المنتج الأساسي للعنف في الشرق الأوسط، وهي التي تحول دون ولادة تيار مدني واسع للدفاع عن السلام. فالسلام كلمة جردتها الإتفاقيات من أوسلو إلى واشنطن، من كل معانيها. يوم توقيع أوسلو كان في الضفة الغربية قرابة مئة ألف مستوطن، نحن اليوم نرصد أكثر من ربع مليون. كان هناك قرابة 22 حاجزا، اليوم قرابة 600 حاجز، لم يكن جدار الفصل العنصري قائما، وكانت موارد العمل الذاتية للإنسان الفلسطيني ثلاثة أضعاف الحال اليوم. أوسلو في الذاكرة الجماعية مصيبة حلت بالإنسان الفلسطيني وبطموحاته الوطنية والمواطنية، فأي سلام، السيد نوبل للسلام، وأنت غير قادر على فرض وقف الاستيطان، أي سلام ووزير الخارجية البريطاني يعتبر جرائم الحرب الإسرائيلية قرار ديمقراطي من دولة ديمقراطية؟ أي سلام وقد امتنعت دول الاتحاد الأوربي عن التصويت لقرار تشكيل بعثة تحقيق.. مجرد بعثة تحقيق في مقتل 1400 فلسطيني ثلاثة أرباعهم من المدنيين؟

نحن أمام أزمة أخلاقية غربية بكل معنى الكلمة، هذه الدول التي تعطي في كل يوم الدروس في استقلال القضاء وحقوق الإنسان وضرورة المحاسبة، تقف في كل مرة عند الحاجز الإسرائيلي عارية غير قادرة على التمتع بالحد الأدنى من المصداقية. تراجع الاختصاص الجنائي العالمي في بلجيكا من أجل شارون، وتراجع في إسبانيا من أجل جنرالات “الرصاص المسكوب”، ولا ندري أين سيتراجع غدا في القارة العجوز، كما أسماها رامسفلد. فهل أصبح مجرم الحرب الإسرائيلي أقوى من بنيان سلطة قضائية عمرها أكثر من قرنين من الزمن، هذا هو السؤال المطروح على المؤسسات القضائية القومية والإقليمية والدولية اليوم.

في لحظة تاريخية هامة من لحظات بناء العدالة الدولية، يقف غولدستون “اليهودي” في وجه نتنياهو “اليهودي” ليقول للعالم: لقد حتم عليّ انتمائي اليهودي أن أقوم بهذا العمل لأنني على ثقة بأن لا سلام بدون عدالة”.

14-10-2009

تنشر في العدد الأول من جريدة نوفمبر