أبريل 11, 2024

الأشجار تموت واقفة

free expressionكلمة الدكتور هيثم مناع في ندوة “الحرية لمعتقلي الرأي في العالم العربي التي نظمتها اللجنة العربية لحقوق الإنسان، مالاكوف، 28/09/2010

اتصل بي الدكتور عبد الجليل السنكيس قبل مغادرته لندن بأيام، لم أكن أتوقع أن يكون آخر حديث هاتفي بيننا قبل اعتقاله، عندما غادر إلى المنامة، لم يكن يمكن أن يجول بخاطره أن تنظيم ندوة عن حقوق الإنسان في مجلس اللوردات البريطاني يعادل محاولة انقلابية مُحكمة بالتعاون مع دولة أجنبية.  منذ 13 آب/أغسطس 2010،  والسنكيس، المعاق والمنهك صحيا، المهندس الذي تلقى تعليمه في بريطانيا، ويعمل أستاذا في جامعة البحرين، يقبع في المعتقل، ولقد تأكد لنا سوء المعاملة والتعذيب الذي تعرض لهما، ومن المضحك أن هذا الأكاديمي البارع  ليس في تحديد الأهداف الإستراتيجية للعدو، بل في تكوين ملف موثق يتعلق بانتهاك حقوق الإنسان في بلده، قد دشن انطلاقة أكبر اعتداء على الحقوق والحريات منذ مطلع هذا القرن في مملكة البحرين. حملة اعتقالات طالت شخصيات حقوقية وسياسية وشملت العشرات، حملة ترافقت بالتشهير بأسماء حقوقية وشخصيات اعتبارية معروفة في البلاد، الدعم غير المشروط من مجلس التعاون الخليجي، إغلاق موقع “الوفاق” ووقف صحيفة “الديمقراطي” التي تصدرها جمعية وعد، وأخيرا وليس آخرا، مصادرة الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان، أقدم هيكل حقوقي في الخليج ولد منذ 1978 وتغير اسمه أكثر من مرة ليأخذ شكلا علنيا في مطلع هذا القرن داخل مملكة البحرين بعد أكثر من عقدين من النضال في المنفى. قررت وزيرة التنمية الاجتماعية مصادرة الجمعية لإعادة هيكلتها من فوق؟؟

هذا التدهور ليس بعيدا عن حالة الجمود والتراجع العامة في المملكة العربية السعودية. ففي قوائمنا يسير من العدد المعلن من وزارة الداخلية السعودية نفسها التي اعترفت بشمول اعتقالات الحرب على الإرهاب ثلاثة إلى تسعة آلاف معتقل، وعندما نقول بوجود قرابة 600 سجين سياسي في سجن الحاير وحده، فالعدد أقل من الصحيح. ولكن هذا ما استطعنا التحقق منه في مملكة الصمت. ولا يمكن ونحن نتحدث عن حملات واسعة حدثت باسم وتحت مظلة الحرب على الإرهاب أن ننسى المناضلين من أجل الحريات الأساسية الذين جرى اعتقالهم في جدة في ومازالوا باستثناء شخصين أطلق سراحهما، يعانون من ظروف لا إنسانية في الاعتقال وظروف خارج أي مفهوم قانوني أو شرعي للاحتجاز. فما هي جريمة سعود الهاشمي وعبد الرحمن الشميري وموسى القرني وسليمان الرشودي وعلي بن خصيفان القرني  وزملائهم من المطالبين بالإصلاح الدستوري والحريات الأساسية؟ لماذا لا يقدم قرابة 55 شخصية جامعية وعاملة في الحقل الإنساني ورجل دين وكادر مختص إلى المحاكم الشفافة والعلنية ويقبعون في السجن دون محاكمة أو تهمة؟ ماذا عن المعتقلين العرب في السجون السعودية من العراق واليمن والكويت والبحرين وسورية وغيرها؟ وماذا تريد المباحث العامة من الشيخ سعيد بن زعير وقد قاربت سنين اعتقاله الخمسة عشر عاما منذ 1995 تخللها فترات حرية ثلاث لم تكن تكفي حتى لاستعادة بعض الأنفاس العلاجية قبل العودة لظلام السجن؟.

وصلتنا رسائل من سجن سلا المغربي تذكرنا بأن مأساة المعتقلين السياسيين الستة في المغرب مازالت قائمة. العبادلة ماء العينين، المصطفى المعتصم، الأمين الركالة، محمد المرواني وعبد الحفيظ السريتي، الذين ينتمون إلى مدرسة سياسية إصلاحية معتدلة، تنبذ العنف والتطرف وتتبنى قيم الوسطية والعمل السياسي الديمقراطي مازالوا تحت وطأة أحكام جائرة جاوز معظمها العقدين من الزمن. إثر محاكمات ماراتونية شهدنا بأعيننا كيف جرى رفض استدعاء الشهود أو إحضار المحجوزات أو ترجمة الوثائق أو تزوير محاضر التفتيش والحجز… وغير ذلك من المسائل التي يلزم القانون القضاء الفصل فيها أوَّلا، أو ضم العديد من تلك المدفوعات للموضوع وحرمان المعتقلين السياسيين من التمتع بقرارات في شفافية كاملة ووضوح لمسار المحاكمة دون التفاف أو مناورات مسطرية فيما جعل هيئة الدفاع تنسحب والمراقبين يخرجون حتى لا يكونوا مجرد شهود زور في أنموذج لقضاء التعليمات المغلف بستار الغموض والفوضى والشك في الخليط العجائبي بين السلطة التنفيذية والقضاء الذي لا يعتبره الدستور المغربي سلطة حتى اليوم.

ماذا نقول في قرابة ثلاثين ألف معتقل في العراق وفق تقرير منظمة العفو الدولية معظمهم دون محاكمة وشهادات كل من خرج تؤكد الممارسة المنهجية للتعذيب في سجون المحتل والداخلية والميليشيات. كيف نقبل الصمت على حكم الإعدام من قبل علماء ومثقفي الأمة ونحن نسمع من وزيرة حقوق الإنسان في العراق أن عدد المحكومين بالإعدام بين 2005 و 2010 بلغ اثني عشر ألف شخصا؟ لا أدري كيف يسقط أستاذ لبناني في القانون وهو يتحدث عن العراق اليوم فيقول في ظل هكذا انتهاكات: “العراق الدولة الحرة الوحيدة في مستنقع الاندحار الخلقي والسياسي العارم في المنطقة”.

أليس في أقوال كهذه التعبير الأسمى للازدراء السائد لفكرة الإنسان وكرامته وحقوقه، هذا الازدراء الذي زرعه الاستبداد وسقاه التطرف ويستعد لتأبيده العقل الشمولي المغلق.

السلطات الإسرائيلية تسعى لجعل اعتقال 20% من الشعب الفلسطيني منذ عام 1967 ووجود أكثر من تسعة آلاف مخطوف في سجونها قضية عادية ضمن حملات الاعتقال في دول الجوار، بل صارت تحارب الفلسطيني بالفلسطيني وهي تعطي أرقام المعتقلين في سجون غزة ورام الله. أية مأساة أن تقع حركة تحرر وطني في أوحال أمن الدولة قبل قيام الدولة الفلسطينية، وفي ترف الانقسام قبل خروج المحتل.

سيحدثنا منصف المرزوقي عن الصديق هيثم المالح ومهند الحسني ومعتقلي حقوق الإنسان في سورية، وإبان حملة تشارك فيها منظمات عدة من أجل حرية المدونة الشابة طل الملوحي، أريد أن أذكر بأن قائمة زوار السجن النسائية في سورية هذا العام كانت استثنائية وشملت الدكتورة تهامة معروف والسجينة السياسية السابقة رغدة الحسن والحقوقية نادرة عبدو ومنال إبراهيم إبراهيم وفاطمة أحمد حاوول وهدية علي يوسف. وأن المنسيين اليساريين عباس عباس وأحمد نيحاوي ووفيق عمران وغسان حسن أحيلوا لشبه جلسة محاكمة بعد 16 شهرا على اعتقالهم، أما علي العبد الله فبدأ محاكمة جديدة، مازال مشعل التمو وأنور البني في المعتقل. مصير المناضل الحقوقي نزار رستناوي بحكم المجهول، ومازال سجن صيدنايا يحمل صمتا رهيبا يضع عائلات قرابة ستين معتقلا مفقودا في حالة حداد غير طبيعية.

أما السلطات المصرية، فآمنة مطمئنة كون “الفرفور في العالم الغربي ذنبه مغفور”، يلاحق فيها كل من يناضل جديا من الحقوقيين، ويمارس التعذيب بشكل منهجي في السجون، وليس لدى أية منظمة حقوقية مصرية قائمة تقريبية بأعداد السجناء وهم بالآلاف، ثمة حصار متعدد الأشكال على النضال السياسي والمدني، ولا يمكن أن نعلم ببعض الاعتقالات إلا لتمكن حركة سياسية أو مدنية من رصدها. وكلما شعرت السلطة بأن الاعتقال الإداري المتكرر غير كاف، طلبت للمحكمة العسكرية التحرك.

لن يتسع المجال اليوم لمناقشة أوضاع السودان واليمن حيث سنخصص ندوة لانتهاكات حقوق الإنسان في ظروف الاضطرابات الأهلية في مطلع العام القادم تتناول السودان واليمن والصومال، لكن الزميل سليم بن حمدان سيستعرض لنا الوضع التونسي، ولا شك بأن قضية الاعتقال السياسي في العالم العربي تحتاج لندوات وندوات، ولكن قطعة من رغيف خير من أن نبقى دون خبز.

في دول القمع العربية، السجن لا ينتهي بمغادرته، معاناته قاسية، وما بعده حرمان من العمل، حرمان من التعويضات، حرمان من السفر، حرمان من إمكانية استعادة الشروط الدنيا للبقاء على قيد الحياة المدنية. كم هم من دفع ويدفع هذا الثمن، كيف تحول السجن لمنظومة شمولية تبدأ بالتحقيق وتنتهي بالمراقبة الإدارية مدى الحياة مع بطالة إلزامية أو انتقائية، وتحطيم لظروف العيش المقبول. ويسأل المرء نفسه، كيف يصمد هؤلاء في ظروف الجوع والقهر والقمع، أليس مجرد وجودهم النضالي دليلا على قوة الإنسانية في وطن جعل من البربرية منظما للعلاقة بين الحاكم والمحكوم؟ هذا الفصام بين وطن مؤمم ومواطنة غائبة وسلطات بدون شرعية أو مشروعية يترجمه الصديق الشاعر والحقوقي علي الدميني بلغة الشاعر والأديب، رسالة إلى الوطن قال فيها:

وطني الغالي ..

كتبت لكم رسائل كثيرة بمفردي، متمنياً عودتكم إلينا سالمين غانمين من سفرتكم الطويلة، ومحملين باللازم من المؤن والأدوية والملابس، والحقائب والأحذية للصغار الذي يتهيئون للعودة إلى مدارسهم يوم السبت القادم.

كما أنني قد كتبت الكثير من القصائد الوجدانية الحارة التي لا تطمع في الحصول على الهبات المالية، ولا تستجدي منح الأراضي الواسعة، وإنما ترجو منكم أن تشتمل خيمتكم الندية على ملامح كل أبنائها، لكي يتفيأ الجميع تحت ظلكم الوارف كل معاني الوحدة الوطنية، والمساواة الإنسانية، والعدالة الاجتماعية، وأن ينعموا بنسيم العدالة والحرية والكرامة، والديمقراطية، وأن يستظل الجميع تحت ظلكم العالي بتطبيق أبسط مبادئ حقوق الإنسان التي كفلتها الشريعة الإسلامية، وأفاضت في تفصيلها عهود ومواثيق حقوق الإنسان العالمية التي اطلعتم عليها ووافقتم على تطبيقها تحت خيمة الوطن.

يا وطني الغالي..

نحن بشوق لرؤيتك مثل شوق الجبال والأشجار والرمال والأعشاب للمطر والماء، وقد ناجيناك في الصمت حتى تعبنا، ودعوناك في الجهر حتى شقينا، وما زلت تواعدنا بالحضور وتعدنا بالكثير، وما زلنا ننتظر..