الهزيمة يتيمة، لذا الخيار الأسهل اعتبار الآخر سببا لها، أو تبرئة الذات من جرم المشاركة فيها. لكن المراهق الذي كنته يوم الهزيمة لم يكن يملك حق التصويت، وبكل الأحوال فقد صادرت حالة الطوارئ في انقلاب عمّد ثورة هذا الحق من البالغين. خرجنا من امتحان الشهادة الإعدادية نجري تحت غارة جوية إسرائيلية، ثم استعدت أنفاسي بعد يومين في مساعدة النازحين على بناء خيام الهروب الطوعي الذي بدأه الجيش في انسحاب “كل من يده له” وقلده الناس. أذكر أن العديد كانوا يذهبون ليلا من أجل إحضار حاجياتهم من قراهم ولم تكن هذه القرى محتلة بعد. بعد العمل الإنساني كان التطوع للعمل الفدائي.. لعل رد الفعل للمراهق الذي كنته يختصر رد جيلي على هزيمة لم يكن له أية مسئولية فيها وشاء أن يقفز عن الطفولة والمراهقة لاحتلال مواقع المسئولية من جيل هزيمة مبكرة.
قد يعتبر البعض الحديث في حقوق الإنسان في تقييم حقبة تعود لأربعين سنة نوعا من الترف الفكري. فالديمقراطية لم تكن هما رئيسا، وحقوق الشعوب صعدت إلى السطح منذ هزيمة الليبرالية الكولونيالية. نكبة 1948 تركت بصماتها في تشكل الوعي ما بعد الاستعماري. لم تكن حقبة نزع الاستعمار قد انتهت بعد عندما اعترفت الأمم المتحدة بدولة واحدة على أرض فلسطين هي دولة إسرائيل. أي أبقت قرارات التقسيم والعودة حبرا على ورق. كيف يمكن لعربي عاش النكبة أن يحترم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن أمم متحدة اغتصبت فلسطين باسم الشرعية الدولية؟ من هنا علاقة المفارقة بين 1948 التاريخ الإيجابي لحقوق الإنسان والسلبي لحقوق الشعب الفلسطيني، 1958 تاريخا إيجابيا للوحدويين العرب وتاريخ تحضير أول مؤتمر حول الديمقراطية في العالم العربي لم يهتم بأعماله أحد. 1962 تاريخ ولادة أول رابطة لحقوق الإنسان في سورية في ظل أول حكومة انفصالية عن مصر ؟ 1963 تاريخ إعلان حالة الطوارئ وولادة “الشرعية الثورية” في سورية بعد عشرين عاما من ولادتها في مصر. هذه المفارقات التي خلقت حالة فصام بين حقوق الإنسان وحقوق الشعوب، بين الوطن والمواطن، بين المشاركة في الخاص وقيادة الخلاص، بين سيادة تصنعها سلطات تغطي الفضائين الحكومي وغير الحكومي، أي سيادة الأمة، وسيادة الفضاء التنفيذي (بتعبيريها السياسي والأمني).
يلخص الصديق محمد حافظ يعقوب الحالة النفسية للحاكم والمحكوم بالقول:”لم يكن الطلب على الديمقراطية من قبل المحكومين في عقدي الخمسينات والستينات واهنا فقط بل وملتبسا على الأرجح. فلئن انخرط المحكومون في العقيدة التي يروج لها الزعيم الملهم بخصوص مساوئ الحزبية والتعددية وفضائل تغيب الرأي المختلف وسيطرة الحزب الواحد الذي يقوده الزعيم نفسه، فان هذا الأخير زرق خطاب التحرر السياسي بجرعة قوية من الأساطير التي تخلط بين الخصوصية والاستبداد والعدل والعسف”.
لم يكن التسلط خيارا وحيدا لدول التماس العربية و الدول الأخرى بل لعله وبكل المعاني قد شكل الخيار الأسوأ ، فلا وطن وخطاب وطني في غياب أسس المواطنة، لقد حقق المماليك انتصارات عسكرية هامة تبعتها عقود انحطاط.
بنت الإيديولوجيات القومية العربية خطابها المهدوي على حتمية واقتراب الانتصار الذي يزيل العار عن الأمة المغتصبة، وقد منحتها التجربة الناصرية الصاعدة زخما نفسيا هائلا فعبد الناصر أمم القناة وحقق الاستقلال وأول وحدة عربية معاصرة بالإمكان الذهاب معه إلى آخر الشوط لتحقيق الرسالة الخالدة المنشودة. لذا ورغم الإنتاج السياسي الخصب لتجربة 1954-1958 لم تناقش بجدية من أي طرف جماهيري قضية الحفاظ على التعددية الحزبية والاستقلالية النقابية والأهلية. وعلى العكس فقد استخدمها خالد بكداش الأمين العام للحزب الشيوعي السوري كذريعة لرفضه للوحدة ورفض فكرة حل حزبه. أما بالنسبة لعبد الناصر فلم يكن هناك أية أوهام حول ضرورة العودة إلى ما اعتبره جيله النظام الملكي القديم: في مقابلة للرئيس جمال عبد الناصر مع رئيس تحرير جريدة هندية في مارس 1957 قال الصحفي: هل يمكنني أن أوجه إليك السؤال التالي : ماهي الديمقراطية ؟ و يجيب ناصر : كان يفترض وجود نظام ديمقراطي في مصر في الفترة الواقعة بين عامي 1923 و 1953 . و لكن ما الذي قدمته هذه الديمقراطية لشعبنا ؟ أقول لك : في تلك الفترة كان ملاك الأرض والباشوات يحكمون شعبنا . لقد استخدموا هذا النمط الديمقراطي :أداة سهلة لتحقيق مصالح النظام الإقطاعي. لقد رأيتم الإقطاعيين يجمعون الفلاحين و يسوقونهم إلى غرف الاقتراع، حيث كان الفلاحون يدلون بأصواتهم طبقا لتعليمات سادتهم .. إنني ابغي تحرير الفلاحين و العمال سواء من الناحية الاجتماعية أو من الناحية الاقتصادية ، بحيث يمتلكون القدرة على قول “نعم” . إنني أود أن يصبح بمقدور الفلاحين والعمال أن يقولوا “نعم” و “لا” دون أن يؤثر ذلك على سبل رزقهم و قوتهم اليومي. وهذا من وجهة نظري هو أساس الحرية والديمقراطية”.
طالما طرحت على نفسي السؤال: لوكان هذا الصحفي الهندي يحمل مسدسا وأطلق الرصاص على الرئيس عبد الناصر، هل تنتهي عملية تحرير العمال والفلاحين ؟.
لم تشكل حرب حزيران 1967 بهذا المعنى المنعطف الذي أعاد للديمقراطية الاعتبار بعد هزيمة النظامين الناصري والبعثي في الحرب، فالأقلام الجديدة تتحدث عن حرب التحرير الشعبية ونجاح ستالين في عملية تصنيع الاقتصاد السوفييتي كما يؤكد صادق جلال العظم، وتجمع الستالينيات “الجديدة” على أن الثورات الناجحة هي تلك وحسب التي قادها حزب شيوعي ثوري، وان من الترف إضاعة الوقت مع القوى الانتهازية على يمينه والطفولية على يساره. إلا أن كره الستالينية نفسه وسيف القمع، أكثر منه وعي ضرورة تاريخية، سيجعل للمدافعين عن الحريات الأساسية وحقوق الإنسان أنصارا في صفوف اليسار في مصر وسورية و لبنان.
لقد كنا جميعا نعيش تحت طائلة هزائم الجيل الذي سبقنا وهاجس هزيمة محتملة الأمر الذي عزز مواقع أصحاب المواقف الصارمة واظهر الاتجاه الأكثر ديمقراطية كتعبير للميوعة و الهلامية وضياع الرؤية الواضحة. وللأسف فان أول حملة الكتابات الديمقراطية كشعار مركزي كانوا في الممارسة يغطون تجاوزات الأصوليين ويتسترون على الطبيعة التعسفية لمصادر لقمة خبزهم الفلسطينية أو الليبية أو العراقية أو السورية وبشكل أقل من اليوم، دول الخليج. أما الجمهور الأوسع فلم يعد يثق بعالم الإنسان فصعد إلى السماء بحثا عن نجدة الله لإنقاذه من ظلم حكامه والصهيونية والإمبريالية الذين اتفقوا على كون الديمقراطية علاج غير ناجع له. إن إسرائيل ، كما يقول عزمي بشارة، ” تميل إلى الاعتقاد بأن الديمقراطية في أي بلد عربي تعتبر مجازفة كبيرة، بمعنى أن إسرائيل لم تتغلب – و لا اعتقد أنها في المدى القريب سوف تتغلب – على شعورها بالغربة في المنطقة، وعلى شعورها بأن التقدم و التكنولوجيا و الديمقراطية العربية هم تهديد لها.”
لا شك بأن مفهوم السيادة بمختلف تعريفا ته السياسية والاقتصادية ذو صلة مباشرة وبآن معا بالديمقراطية في العالم العربي وبالصراع العربي-الإسرائيلي في ذاته وفي مجمل صلاته بالحقبة الكولونيالية الجديدة. ومهما جعلت العولمة من هذه السيادة قضية نسبية، فقد قامت بذلك في إطار الهوة اللا متكافئة بين نسبية عالمثالثية ومبالغة في سيادة الأقوى وتنصبه فوق القانون والجغرافيا وإمكانية محاسبته أو تقييم أفعاله. بالانطلاق من هذه الواقعة يصعب تصور سيناريوهات أمريكية تصب في صالح تشكل دولة-أمة ذات طابع ديمقراطي و تنموي في الأرض العربية. و بهذا المعنى التقت المصالح الأمريكية والإسرائيلية مع الكيانات التسلطية على أكثر من جبهة ومن أكثر من منظار.
إن تتبع مسألة الصراع العربي الإسرائيلي وتطور الديمقراطية يوجه أنظار الباحث إلى عاملين أساسيين في الصراعات البشرية هما الذاكرة الجماعية لشعب وتأثير التصرفات العدوانية ذات الطابع التفوقي، أي القائمة على إذلال الآخر، على أواليات تشكل الوعي في المجتمع. فمهما كانت أهمية العوامل الجيو استراتيجية والطبقية والاستراتيجيات الإقليمية و العالمية، فإن نفسية الأفراد والجماعات ترتكز أيضا على شحنات انفعالية وعاطفية هامة تجعل الحديث عن تهميش موضوعي للصراع العربي الإسرائيلي مسألة جد نسبية ومتعددة الاتجاهات. إن نظريتي الأمن الأحادي الجانب والحفاظ على التفوق العسكري اللتان يجمع عليهما اليسار واليمين في إسرائيل منذ أكثر من خمسين عاما تشكلان المصنع الأكبر لإنتاج الحقد والعنف في المنطقة على ضفتي الصراع. إن أكثر الأحاسيس إيلاما الشعور بالظلم ولم يشكل اغتصاب كرامة الآخر في يوم من الأيام عامل أمان واستقرار نفسي للغاصب. من هنا الإحساس العفوي الرد فعلي والغالب إلى أن استعادة الحق مسألة تسبق الحق في الحريات. هذا الحس التلقائي الخديج (غير المكتمل)لم يبلغ بعد حالة عقلنة الضروريات في حاجات شعب، أي إدراك دور الديمقراطية في القضاء على العدوان، كونه في غيابها، بوعي أو بدون وعي، تنفذ الضحية برنامج الجلاد. عن التغييب المتعمد للجموع عن المشاركة في الحياة العامة، عملية تقييد المبادرات الشعبية والمدنية عبر قرارات فوقية ألغت أو قيدت حق التجمهر والتجمع والتنظيم النقابي والجمعياتي والحزبي تركت فراغا كبيرا لم يعد لأحد غير أجهزة السلطة التنفيذية أن يحتله بشكل شرعي. إبعاد المجتمع عن الحياة المدنية والسياسية جعل المجتمع يرتكس إلى العلاقات العضوية ويعيد اكتشاف نفسه سلبيا في الطائفة والعشيرة والقبيلة والإقليم. لم يعد الانتماء المشترك لأمة، لوطن، التشابه والتشارك في حقوق وواجبات المواطنة مركز الحياة السياسية-الاجتماعية. من هنا التفتت الذي عاشته مجتمعاتنا وعبّر عن نفسه في أكثر من مناسبة في حروب استئصال جماعية كما كان الخطاب بين المتصارعين في سورية بين 1978 و1982. لا يختلف الحال كثيرا في صراعات الحزب الاشتراكي اليمني الذي اعتبر البندقية وسيلة التعبير الأولى في صراعات اجنحته التي قضت على تجربة خاصة.
لقد فقدت الأمة مناعتها الذاتية عبر عملية تهميش الكل المجتمعي عن الفعل المدني. لقد نسي المثقف والسياسي أن الدولة لا يمكن أن تمثل كل الناس في كل زمان ومكان، وحتى أصحاب بيانات الديمقراطية نسوا أن المجتمع غير الحكومي كلمة جديرة بالاستعمال من أجل بناء أي ديمقراطية جديرة بالتسمية وأن عسف السلطة لا يواجه جديا من منظرين لم يكتشفوا بعد مفهوما مركزيا كمفهوم السلطة المضادة؟
لا تهدف هذه الورقة للمحاسبة على هزائم ذهبت وإنما المطالبة بالتوقف عن لعب البوكر بمصائر الشعوب. إنها دعوة من أجل نضال على المضمون، نضال لم تخطئ بوصلة الشعوب عندما رسمت معالمه الأساسية. المجلس الوطني للمقاومة في فرنسا لم يضع كلمة علمانية في الأم الروحية للعلمانية في أوربة (فرنسا) لكسب كل الديمقراطيين والمدافعين عن كرامة الأمة والإنسان، وجمع بحكمة وسعة نظر بين حق الأمة بالتحرر وحقوق الأفراد والجماعات الأساسية سياسية واقتصادية ومدنية واجتماعية. ونحن ما زلنا نشترط لنضالنا غياب الآخر منافسا أو خصما عن الساحة؟
هناك أهمية حيوية لمقاومة مدنية تعيد اللحمة المفقودة بين حقوق الشعوب وحقوق الإنسان، أي تنزع حقوق الإنسان من عمليات التوظيف الغربية، وتنزع حقوق الشعوب من عمليات الاحتواء التسلطية المحلية.
دوة فكرية نظمها الملتقى الثقافي العربي الأوربي
باريس في 9 يونيو/حزيران 2007، أربعون عاما على عدوان حزيران 1967