يمثل الاعتقال السياسي مرض نقص المناعة الذاتية في مجتمعاتنا المدنية والثقافية والسياسية. هذا المرض يهدد الحق في الوجود لكل أشكال المشاركة في الشأن العام: من ضرورة الاختلاف، وحرية التعبير، والوعي التنويري، وحق التنظيم والتجمهر. وكونه يترك آثاره على مستقبل الوطن والمواطن، فإن المسئولية في مواجهة هذا المرض الخطير لا يمكن أن تكون من مهمة منظمات حقوق الإنسان وحدها. أو في جعل هذه القضية تحل محل البرامج الطبيعية للأحزاب السياسية. حيث المفترض أن تكون مهمتها في التصدي لبرنامجها وخطها العام، وليس الانتقال لمواقع دفاعية بحتة اختارتها السلطات التسلطية. إن مهمة الدفاع عن المعتقلين السياسيين هي مهمة عامة تشمل كل أديب وشاعر وصحفي وجامعي وطبيب وصيدلاني ومهندس وعامل الخ. إنها بكلمة واحدة، قضية مجتمعية عامة. وإن لم تصبح كذلك، سيبقى سلاح الاعتقال التعسفي مشهرا بوجه العمل المدني والسياسي، والنشاط الثقافي بالمعنى الواسع. أي أننا سنبقى عاجزين نراقب أجهزة الأمن وهي تضع السماد على أشواك الاستبداد والفساد والتخلف.
من أجل هذا، يجب تجاوز، أقول تجاوز وليس إلغاء، الطرق التي أصبحت روتينية في العمل الحقوقي، مثل كتابة الرسائل للمسئولين أو عرائض جماعية للجمعيات والشخصيات أو تقديم طلب إلى فريق العمل الخاص بالاعتقال التعسفي الخ. المطلوب تعزيز الوسائل الموجودة بأخرى جديدة، وشمول التحرك الحقوقي آليات التواصل البشري كافة. كون التسلط العربي بات يتعامل مع الوسائل التقليدية “بمهنية عالية”. أحيانا عبر العاملين في المؤسسات المسماة بالقومية، والتي تجمّل صورة السلطة أكثر منه الدفاع عن الضحايا. أو عبر من يدجّن من المنظمات غير الحكومية، ويحول هذه لوسيلة امتصاص للصدمات الناجمة عن انتهاكات حقوق الإنسان. ولا ننسى أيضا أن السلطات الاستبدادية تلعب على عامل الوقت. في هذا المجال أشير إلى ما قاله لي أحد السياسيين العرب الذي طلبنا منه التدخل من أجل الدكتورة فداء الحوراني: “عند المسؤولين السوريين للأسف قناعة بأن الضجة الحالية ستستمر شهرا أو شهرين ثم تهدأ الأمور. لهذا لم يتجاوبوا معنا عندما حدثناهم عن ثمن باهظ لاعتقال هذا الرمز الهام في المجتمع السوري”. وكم هذا صحيح عندما يَجُبُّ ملف المحامي مهند الحسني ملف المحامي أنور البني، ثم يَجُبُّ ملف المحامي هيثم المالح ملف المحامي مهند الحسني، ثم تغطي محاكمات آزادي على محاكمات سبقتها وكأننا أمام أحداث موسمية تنتهي مهمة منظمة حقوق الإنسان والمجتمع بمجرد إصدار بيان.. وعليها أن تنتظر تراجعا خطيرا في صحة المعتقل حتى تتذكره ببيان آخر أو تعريجة.
هذه القناعة موجودة عند السلطات السعودية، التي تقول بأن الحملة من أجل الدكتور عبد الرحمن الشميري فترت، وظروف اعتقال الدكتور سعود الهاشمي طويت، وقصة الدكتور سعيد بن زعير نسيت، وهكذا سيكون حال اعتقال خالد العمير ومحمد العتيبي وأكثر من أربعين من الجامعيين والإصلاحيين والمدونين الذين يجاورون آلاف المعتقلين في مملكة الصمت، الصمت الذي إن تم اختراقه من قناة فضائية تعاقب بإنهاء عقدها مع عربسات. إنه أيضا حال السلطات اليمنية، التي تتوقع أن يضيع اعتقال بل واختفاء عدد من نخبة الصحفيين والسياسيين في ضجيج حرب صعدة واضطرابات المدن. السلطات المصرية من جهتها مطمئنة لأن الحملة من أجل الدكتورين عبد المنعم أبو الفتوح وجمال عبد السلام يمكن أن تتبعثر في كل أشباه المعارك السطحية المركبة، مثل استفزازات كرة القدم بين فريقي الجزائر ومصر، هذه الأحداث الضرورية لكل عقلية بلطجية. كذلك تباطأت من أجل خيرت الشاطر وإخوانه بعد الأحكام والأحكام الإدارية المضادة، ومن الصعب أن تعود بنفس القوة.. هذه الفجاجة انتقلت طبعا، ولا فخر، لإخواننا الفلسطينيين الذين يتحدثون في أمن الدولة قبل ولادتها. والذين يتسابقون في الاعتقال بين غزة ورام الله، ليضعوا الحركة الحقوقية التي تحفر في الصخر في قضية الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية في زاوية تشتيت الجهود والطاقات.
واجبنا اليوم لمواجهة كل هذا، البحث عن وسائل جديدة للنضال من أجل الحريات وإطلاق سراح المعتقلين. وعندما نرى أن استراتيجية التسلط تقوم على ضرورة نسيان المعتقلين في السجون، فإن استراتيجيتنا تتطلب أن يكون هؤلاء حاضرين في كل مناسبة وكل مجال ممكن. من واجبنا أن لا ننسى، مع توالي الصدمات والهموم، الملفات التي باتت عند الصحافة غير الملتزمة قديمة. أو نعتاد، مع مرور الوقت، على ما كان قبل حين يؤرقنا. فالسلطات التسلطية خبرت كل هذه السلوكيات وعرفت كيف تتعامل معها.
في النفس غصة من أن يكتب رئيس تحرير نوفيل اوبسرفاتور جان دانييل افتتاحية في اعتقال الشاعر الكبير توفيق بن بريك ولا يتصدى رئيس تحرير صحيفة عربية أو شاعر عربي معروف لهذه المهمة؟ غصة لرؤية منظمات حماية الصحافيين غير العربية تتحدث عن أسماء عربية لا يتناولها اتحاد الصحافيين العرب؟ وأن تتحدث نقابات الأطباء العربية بخجل أو تصمت عن اعتقال الأمين العام لاتحاد الأطباء العرب عبد المنعم أبو الفتوح؟ من يمكن أن يصنع رأيا عاما عربيا في غياب نخبة نقدية تطالب بكل من غيب وراء القضبان لمجرد اختلافه في الرأي مع السلطة السياسية في بلده؟ وهل يمكن النظر بعين التقدير لمن لم تصادر حريته بعد عندما يصمت عن حرمان زميل مهنة أو صاحب قضية أو أشخاص نذروا أنفسهم للدفاع عن حرية الآخرين؟؟ ألا يخجل عشرات آلاف الأطباء العرب من رسائل تضامن أوربية مع الأطباء العرب المعتقلين ولا نسمع إلا من قلة لا تكاد ترى بالعين المجردة صوت احتجاج؟
يمكن لأي شخص أن يفعل شيئا، أن يقول غدا قد يكون جاري بل قد أكون أنا.. بل قد يكون ابني الذي يرفض ما قبلتُ به من ذل الصمت. لدينا عشرات بل مئات الحقول الغنية التي لم تستثمر بعد في هذا المجال، سأحاول استعراض بعض الاقتراحات للمرة الألف علّها تستولد اقتراحات أخرى:
التبني الفردي: صار من الضروري مع عولمة القمع، الدفاع عن الهوية الشخصية للضحايا. فالمعتقل السياسي ليس رقما، بل هو طاقة إنسانية وعطاء ودم ولحم وقصة حب وهواية ومهنة وجزء من عائلة ومجتمع. من أجل ذلك، لا بد من أشخاص يعلنون من كل بلد عربي تبنيهم لمعتقل أو أكثر، بحيث يتابعون ما فعل وظروف سجنه وأوضاع عائلته والمنظمات التي تتبناه وبؤس التهمة الموجهة إليه. ومن المحبذ في هذا الاتجاه أن تتعزز العلاقات المدنية والإنسانية. بحيث يتبنى مثقف عربي مثل كمال عبد اللطيف السياسي الكردي مشعل تمو ، وفنان أمازيغي مدون سعودي، ومفكر علماني ناشطا إسلاميا. فإن كان للواحد منهم موقع على الانترنيت، يصدر الموقع بصورة المعتقل الذي يتبناه. وإن كانت لديه مقابلة أو مقالة ينهيها بصفة (تؤام المعتقل فلان). فما أجمل أن يكون المفكر المصري نادر فرجاني تؤاما للمحامي السوري هيثم المالح، وأن يكون الصحفي المغربي توفيق بوعشرين تؤاما للشيخ سليمان الرشودي، والناشر السوري حسين العودات تؤاما للصحفي اليمني محمد المقالح، والنقابي المصري عصام العريان تؤاما للصحفي السوري فايز سارا، والناشطة المصرية عايدة سيف الدولة تؤام المناضلة السورية فداء الحوراني، والمناضلة اليمنية سعاد القدسي توأم الشاعر التونسي توفيق بن بريك الخ. بحيث توضع صورة المعتقل إلى جانب صورة التؤام على الفيس بوك والمواقع والرسائل وفي المناسبات. وعندما يكون للمعتقل أكثر من تؤام يتواصل المدافعون عن المعتقل لتنسيق جهودهم.
التبني المهني: التبني المهني موجود اليوم في العمل النقابي ومنظمات حماية المدافعين عن حقوق الإنسان أو الصحفيين أو العاملين في المجال الخيري. لكن هناك مجالات خصبة لم يتم بعد استغلالها. فمثلا أن تكون تدعم الصحافة المصرية المستقلة قضايا الملاحقة الاعتقال في الصحافة المغربية. وأن يتبى تلفزيون الحوار مراسل قناة المنار في المغرب عبد الحفيظ السريتي. وأن تعرّف أحزاب سياسية مشرقية بقضية المعتقلين السياسيين الستة في المغرب.
توظيف المناسبات: في كل يوم تعقد ندوات وورشات عمل واجتماعات والمناسبات لا تحصى. فماذا يضير هذه التجمعات أن تضع إلى جانب “تحت رعاية” أو بدونها (وتضامنا مع معتقل الرأي..)؟ وإذا كان هناك خوف من منع السلطات، فلا بأس أن تكون البداية برمز من بلد آخر. حتى يتأصل التقليد ويصبح من الصعب وقفه. يمكن أيضا تعميم هذه الأشكال التضامنية لتشمل عيد الأضحى وشهر رمضان.
كل منا قادر على التفكير بوسيلة جديدة. وكلنا قادر على فعل شئ. المهم أن لا يتقاعس الذهن وتتكاسل العزيمة.. المعتقلون أمانة في أعناقنا. والدفاع عنهم دفاع عن كرامة كل واحد منا أولا وقبل كل شئ
—————–
كلمات محدّثة مستعادة من أجل التذكير بأن 62 ألف معتقل يقطنون في السجون العربية والإسرائيلية والأمريكية في العالم العربي.
16-11-2009