ديسمبر 06, 2024

عن أي مجتمع مدني يتحدثون؟

civilsocietyلأول مرة في تاريخ يزيد على مائتي عام، يدخل مصطلح “المجتمع المدني” في اللغة السياسية والثقافية والإعلامية بل والأكاديمية باعتباره كلمة السر للانتماء إلى العصر الذي نعيش فيه، وإن كانت أهم النقاشات الفكرية حوله تعود لما قبل لينين ويلسن.

غير أن هذا المصطلح دخل الكهف كأهل الأسطورة أكثر من تسعين عاما مفتقدا، باستعارة تعبير عزمي بشارة، أي موطئ قدم في النظريات الاجتماعية والسياسية والقانونية الأساسية التي سادت في الشرق والغرب.

وقد عاد هذا المصطلح اليوم بثوب فضفاض وذمة واسعة وآفاق متعددة تسمح بأن يكون أداة مطواعة للقامع والمقموع.

نستخدم مصطلح “المجتمع المدني” للإشارة إلى فئة، أو كتلة اجتماعية يُفترضُ أن يتوفر فيها مقدار ما من التجانس، ويمكن القول بتعريف قائم على النفي، إنها ليست المجتمع الواسع وليست الدولة الجغرافية.

هذه المنزلة بين المنزلتين، باستخدام مقولة تعود للمعتزلة، تقوم على أن الدولة لا يمكن أن تمثل الناس في كل زمان ومكان وقضية، وأن المجتمع الذي سبق الدولة وصنعها قادر من حيث المبدأ على البقاء خارج فضائها بأشكال فردية أو جماعية، تلقائية أو منظمة.

وبقدر صلابة وقوة هذا “المجتمع المدني” يمكن أن يتشكل صمام أمان بين الحاكم والمحكوم، حلقة وسيطة تطمح لتوازن ضروري في الاجتماع بين الدولة ومكونات المجتمع، وهو مصدر شرعية للدولة ورقيب على سلطاتها وأخيرا وليس آخرا، السلطة المضادة الضرورية للجم أشكال التعسف التي تنتجها.

إلا أن هذه المقاربة لا تشكل قاسما مشتركا أعلى لكل من يتحدث عن المجتمع المدني، بل يمكن القول دون حرج، إننا في المقاربة الأكثر تكريما لهذا المصطلح.

فهناك من يعرّف “المجتمع المدني” على أنه الفضاء العام المتكون من مجموعة المنظمات غير الرِّبحية أو غير الحكومية.

وهي كل منظمة لم تنشأ بواسطة الدولة ولا تُوجَّه مباشرة من قبلها ولديها أهداف اجتماعية ونشاط يخدم غرض المجموعة كما يخدم المجتمع عموماً بحيث لا تخضع أجندتها لأية اعتبارات مالية أو سياسية خارجية.

ويجنح جون كين لاعتبار المجتمع المدني تجمعا معقدا وديناميكيا من الهيئات غير الحكومية التي تميل إلى العمل السلمي والتنظيم الذاتي والمراجعة الذاتية.

وهناك الذين يوسعون نطاق “المجتمع المدني” بحيث يشمل التنظيمات غير الحكومية والتطوعية الاختيارية كلها كالأحزاب والاتحادات العمالية والنقابات المهنية وهيئات التنمية الاجتماعية وغيرها من “جماعات الضغط”.

ويعتمدون في ذلك على رفض المفهوم المغلق الذي يسمح لمؤسسات تتمحور حول شخص One Man Organization وسكرتارية وتمويلات سخية بأن تسمي نفسها تنظيمات للمجتمع المدني في حين نشهد عملية إبعاد للجمعيات المفتوحة للانتساب والتطوعية غير الربحية، خيرية أو ثقافية أو تنموية والنقابات التي يصعب بيعها وشراؤها أو تحويلها إلى مروج للمهيمن من الخارج أو مهرج للقامع في الداخل.

لكل ما ذكر يكتنف الاستعمال العشوائي -عربيا ودوليا- لمصطلح المجتمع المدني، كثير من اللّبس، فهو ينفتح على إشكاليات العمل الاجتماعي والثقافي والسياسي كافة، خصوصاً في حقبة انعدام الوزن التي نعيشها والتي تمر فيها المعارف البشرية بأزمة عميقة: أزمة عجز عن سبر الظواهر التي يفترض أن تكون ميدانَ اختصاص المكونات الأساسية للمجتمع.

لذا يجدر التذكير دائما بأن هذا المصطلح لا يشكل ورقة حسن سلوك مجانية لأحد، إلا بالمعنى الذي نقول فيه إن كل إنسان مثقف.

أما استعماله القسري فيشكل عملية تحجيم وتشويه، لإمكانية إقحامه في آليات التحويل الديمقراطية، إذ إن هناك فارقا بين صبية شيكاغوChicago Boys ومناضلي الحرية في بلدان الجنوب، وليست ثمة رابطة تجمع مؤسسات المحافظين الجدد بالمدافعين عن الإنتاج الذاتي لقيم العدالة والممارسات الديمقراطية.

ومن الضروري -لإدراك معنى هذا التمييز- العودة إلى تجربة المؤسسات الأميركية الشمالية غير الحكومية في أميركا اللاتينية حيث لم تجد عدة هيئات غير حكومية حرجا في تعميد مجازر بينوشيه إنقاذا لتشيلي من الشيوعية في 1973؟

هل من الضروري التذكير بالعلاقة بين الكونترا والعديد من المؤسسات الأميركية التي تسمي نفسها بمنظمات مجتمع مدني؟

هل من الضروري التذكير بأروقة الترويج المدفوعة الأجر للحرب على الإرهاب اليوم التي تختبئ وراء عباءة المجتمع المدني أيضا؟

هل من الضروري التذكير بأن قوائم “البحرين غيت” موجودة في كل دول العالم بما في ذلك فرنسا وبريطانيا وألمانيا التي تنتج منظمات حكومية غير حكومية حسب الطلب والحاجة بتوجيهات وزارة التعاون أو الخارجية أو الداخلية بل أجهزة الأمن؟

ألم تنجح عدة نظم سياسية في تدجين مراكز وشخصيات حقوقية تحت خيمة هيئاتها القومية وضمن السقف المقبول رسميا؟

في هذا الفضاء، نحن أمام مقولة اجتماعية هلامية وإن كانت تحمل دلالات غير مستقرة، الأمر الذي يحمل في طياته كل أشكال التوظيف والاحتواء والإبعاد عن عملية التراكم التاريخية لهذه “الجماعة” التي لم تكن تتجسد في منظمات غير حكومية وجمعيات خيرية في عهد ماري أنطوانيت، وهي لا تملك تطورا طبيعيا منظما كذاك الذي يقدمه داروين في أصل الأنواع.

كذلك لا يمكن أن نقول بشكل إرادي أن المناضلين من أجل إلغاء تجارة العبيد في القرن التاسع عشر هم تعبيرها الأمثل.

ولعل في الغياب الطويل لهذا المصطلح ما يطرح علينا جميعا سؤالا جوهريا: هل يمكن لمصطلح سياسي وتاريخي أن يدخل في فترات كمون ثم يعود حسب الطلب؟

بتبسيط شديد، استبدلت المدارس الاشتراكية المختلفة المجتمع المدني بالبروليتاريا، أما الليبرالية فقد جعلت السوق أنموذج المجتمع، وفي الحالتين، لم يكن ثمة قوى سياسية وثقافية وحقوقية تجد في المجتمع المدني مصطلحا يستحق الدراسة، بل حتى الذكر في ثوراتها وأزماتها.

عودة المجتمع المدني إلى الظهور كانت ابنة الغلو في إلغاء التعبيرات غير الحكومية في الدولة الشمولية في دول المعسكر البيروقراطي السوفياتي.

وقد بلورت التجربة الستالينية في الحكم نهجا في ممارسة السياسة يعتمد على:
– توحيد مراكز القرار وتركيزها في يد القيادة الحزبية وأمينها العام.
– ضرب فكرة فصل السلطات.
– إلغاء السلطة الرابعة باعتبار الإعلام، كالعنف، موضوعا يحتكره الحاكم.
– تحويل المنظمات الشعبية إلى أقمار تدور في فلك الحزب القائد.
– تشكيل وحدات خاصة في الجيش والأمن مهمتها ضمان استمرار الأوضاع.
– وأخيرا تنظيم عملية صناعة النخب المسموح لها بممارسة السلطة.

هذا الأنموذج هو الأب الشرعي للعودة الظافرة لفكرة المجتمع المدني التي تحمل في رحمها وقلبها -وإن كانت تكسر في الصميم مفهوم احتكار الثروة والثورة- اقتصاد العنف والانتقال السلمي إلى سلطة تقبل فكرة المشاركة في الشأن العام مع من لم يعرف مدرسة الكادر الحزبي والتأهيل النقابي والقولبة الأيديولوجية.

عربيا، استطاع الفضاء غير الحكومي في الأزمنة الحديثة التدخل في عملية صناعة التاريخ على الأقل مرتين، الأولى مع احتضار الخلافة العثمانية واتساع مجالات الحركة خارج نطاق الدولة، والثاني في خضم انشغال الدول المستعمرة (بريطانيا وفرنسا) بمواجهة الخطر النازي، الأمر الذي جعلها تؤثر توسيع سلطات وكلائها المحليين وهامش الحريات العامة تفاديا لحركات راديكالية تطالب بنهاية وجودها الاستعماري.

ومن مهازل القدر أن تكون السلطات الوطنية بعد الكولونيالية الذراع الأهم في ضرب نوى حركات مدنية قادرة على الفعل والتأثير فوق الحدود وفوق سياسات أشباه الدول في أشباه الأمم.

سلطات “مسخ” المشروع القومي لم تستغل فقط فرص التقارب القومية باسم الوحدة، والحريات الخاصة والعامة باسم الحرية، والعدالة والتنمية باسم الاشتراكية، بل تعدت ذلك إلى الأذى المستقبلي بضربها الأسس الموضوعية لقيام تيار وحدوي ديمقراطي عبر تمزيقها للنسيج المدني والفضاء الحر في ظلال سلطاتها الأمنية؟

لم يطرح جيلنا والجيل الذي سبقه موضوعة المجتمع المدني مبكرا، ولا نجد عند أول المدافعين العرب عن الديمقراطية المستعادة بدون زوائد (ثورية أو اشتراكية) بعد 1967, أقصد الشاعر المصري جورج حنين، أي حديث عنها، كذلك الأمر في كتابات المثقفين العرب بشكل عام حتى تردد صداه في تحركات أوروبا الشرقية.

وقد أجهضت الملاحقات الأمنية المشروع الفكري المشترك الذي باشرته مع المرحوم الصديق بوعلي ياسين حول إنتاج الإنسان شرقي المتوسط الذي خصصنا فيه حيزا واسعا لما أسميناه البنيات العضوية والبنيات المدنية.

كان المنطلق النظري لنقاشاتنا يومها أن البنية الاجتماعية المدنية في العالم الثالث ليست محصورة في فئة ولا طبقة، بل هي مجموعة الأفراد والجماعات التي قبلت ومارست فكرة تجاوز البنية العضوية إلى بنية جديدة أساسها العلاقات والحقوق المدنية.

وكانت الأمثلة التي نقدمها لشرح وجهة النظر هذه الحلقات الثقافية والحلقات الطلابية والنادي السينمائي والملتقيات الفنية والجمعيات الخيرية وغيرها من التجمعات المقبولة أو غير المرخص لها التي تملك استقلالية نسبية عالية عن الفضاء الحكومي والحزبي والأمني، وتضم في صفوفها أعضاء من مختلف الطوائف والمحافظات بعيدا عن أية مرجعية عضوية (عائلية أو عشائرية أو طائفية).إلا أننا اعتبرنا هذه البنيات غير قادرة على الفعل السياسي والمدني دون نشوء نقابات حرة جديدة تغطي الفراغ النضالي الذي خلقته القرارات الفوقية التي ضربت نقابات العمال والفلاحين والطلبة وبدأت بنقابات المهن الحرة يوم ذاك لتنجز عملها رمزيا في اعتقالات إضراب اليوم الواحد في 31 مارس/آذار 1980 في سوريا.

لقد شهدت تسعينيات القرن العشرين عودة قوية لمفهوم المجتمع المدني في البلدان العربية، وكان حملة المشروع -إلى جانب المدافعين عن حقوق الإنسان والحريات الأساسية- رهط من قدماء المحاربين السياسيين وأيتام سقوط التجربة السوفيتية ومن همشتهم السلطات التسلطية العربية.

ولا يعدم المشهد ستالينيين أشاوس قفزوا دون مراحل انتقالية إلى الليبرالية الجديدة.

والمشكلة الأساسية في أوساط غير قليلة تحمل راية المجتمع المدني، حملها لكل العاهات التي يفترض في المجتمع المدني النضال للتخلص منها كغياب الشفافية النضالية والمالية وغياب العلاقات الديمقراطية الداخلية وضحالة الفكر النقدي وقلة المبادرات وخضوع النشاط اليومي لأجندة غير منتجة مجتمعيا، أي مفروضة إما من المؤسسات الممولة أو من أيديولوجية مسبقة لا تلبي بالضرورة طموحات واحتياجات الناس.

من الضروري إذن نزع الثوب المثالي عن مقولة المجتمع المدني وإعادتها إلى لحظة انطلاقتها الأهم، يوم كانت الممثل الأفضل لإعلان حقوق الإنسان والمواطن، يوم أقامت نسيجا دوليا مع تبلور الوثائق الدولية الأولى للدفاع عن حقوق الإنسان، يوم اشترك شمالها وجنوبها في المطالبة بنزع الاستعمار، يوم أقامت جبهات مقاومة الحرب والتسلح والعدوان.

وهي اليوم تبني اللبنات الضرورية للانتقال الديمقراطي كمشروع تاريخي ومدني ومجتمعي، لا كوسيلة إعادة هيكلة للهيمنة على الصعيد العالمي.

واليوم هي تدرك أن السلم الأهلي (أي الأمن الإنساني الاجتماعي) شرط واجب الوجوب للحديث في ثقافة السلام بين الدول والشعوب.

اليوم وغدا، هي في خضم بناء المقاومة المدنية ضد الحرب على الإرهاب وتبعاتها الكارثية على الاجتماع البشري وحقوق الناس.
عن الجزيرة نت 20/11/2006