ديسمبر 06, 2024

من أجل نهضة جديدة

New renaissanceفي الأزمات المعمَّمة، أي ذات البعد الحضاري الشامل، وليس فقط السياسي أو الاقتصادي بالمعنى المباشر، تصعد قضية التنوير إلى مكان غاية في الأهمية، ومن النادر مباشرة معركة التنوير على صعيد واسع، بقدر ما تكون بذوره من أفراد مهمشين في وضع متردٍ عام يعجز موضوعيا عن إنتاج واسع للمعرفة.

إلا أن هذا التحدي، الذي يحتاج إلى تراكمات أساسية معْبر لا بد منه للانتقال من المعارك الثقافية والسياسية المسطحة إلى المعارك الفعلية المؤثرة في الصراعات والمخاضات التي يعيشها المجتمع. إن أي مشروع نهضة جديدة لا يكتسب شرعيته من مدى الشعبية المحتملة بقدر ما يكتسبها من مدى تعبيره عن حاجات تاريخية ضرورية، ولا ينال أهميته من مستنقع الرضا والإرضاء بقدر ما يجد مكانه في مدى تفاعله مع المخاضات الفعلية للانعتاق والتغيير.

إن أي مشروع للنهضة لا يطمح إلى فك ارتباط حر مع العناصر المكبلة للتجديد والتغيير في العالم العربي أولا، ولا يحقق النقلة إلى إنتاج ثقافي نهضوي يعتبر الإنسان مركز اهتماماته ثانيا، أي مشروع لا يوفر هذين الشرطين لا يدخل في اعتبارنا في إطار هذا التعبير، خاصة أن النهضة كلمة عربية ذات دلالة، وذات تاريخ، وإن كانت هذه الكلمة قد أجهضت في محاولتها الأولى قبل قرن، فليس من الضروري مسخها بمحاولات أعجز عن إمكانية التجاوز وإمكانية الإخصاب من جديد.

في عبارات موجزة ودقيقة، يلخص جورج حنين إحدى أهم معضلات النهضة الأولى في تلمسه لفرضية نهضة جديدة أساسها الحقيقة قبل عقدين من الزمن يقول: “من الواضح أن النهضة الأدبية والانفعالية في 1880-1920 والتي تم الترحيب عبرها بعودة العرب إلى تاريخ كان يمشي بوتيرة أسرع منهم، لم يجر حتى الآن صقلها بشكل جدي عبر نقد جريء لا في الشرق ولا في الغرب.

لأن كتابا سوريين ولبنانيين انتحلوا، في نهاية القرن التاسع عشر قواميس أمينة، تم الاعتقاد على الفور بأن الأمر يتعلق بموسوعيين. ولأن الشيخ محمد عبده حاول صنع سبيكة من العقلانية والإيمانيات المكتسبة وفرز الحقل الواسع للذاكرة الدينية، جرى الحديث عن دينامية جديدة. بقناعة أكثر، كان التقليد الذهني من السعة بمكان في هذه الظاهرة بشكل ينتزع مقدما سلطة تطويع العقول والطباع. بانتحال أرنست رينان، باحتواء أوغست كونت، حاول هواة النهضة إنجاز أوراق اعتماد لم تكن في أحسن الأحوال سوى دبلوم تطبيق سياحي. على الصعيد المعرفي، كان للنهضة آثار ذات قيمة، إلا أن معرفة “اللحاق” هذه نادرا ما أعطت ثقافة أصيلة. مبرقشة وأحيانا عرجاء حيث البصمات والترقيع مرئية بشكل أكثر من العلامة المتميزة. إنها ثقافة تبحث عن مراضاة عرابيها ودائنيها الأبعد، ولا شيء يفوق في وهنه المراضاة”. أ.هـ

إن السؤال المطروح على النهضة الأولى لم تجر الإجابة عليه إلا في جانبه العالمي، أي بشكل جزئي، فاعتبار الإنسان مبتغى والدنيا غاية كان بحق لسان حال أقلية راديكالية في التجربة الأولى، ولكن هل كان بالإمكان الشروع في تحرير الفكر دون الإلمام بجملة الدمامل والأمراض التي تعصف بجسد الإنسان؟ إن الذين اعتبروا الأخير محط اهتمامهم كانوا للأسف الأقل انخراطا في عملية تشريح مجتمع الإنسان المعني بالأمر، أي مجتمعهم الخاص، ومن هذا المنظور كانوا الأقل تواصلا مع المشكلات المباشرة في العالم العربي بالمعنى العميق للكلمة.

ليست الإرادة كل شيء، خاصة إذا ما كانت الإرادة محصورة في فرد أو مجموعة، إلا أن الوعي قوة مادية فاعلة في الواقع الموضوعي، ونشارك مدرسة بودابست القول بأن الإنسان الفرد أو أجيالا بكاملها تتحرك في المكان الموضوعي المحدد بالشروط المعطاة في إطار –يكبر ويصغر حسب الحقبة- من الاحتمالات ومن بدائل التطور. الإنسان يحدد اختياره في هذه الاحتمالات محددا بذلك تحقيق هذا البديل أو ذاك عبر مجموع النشاطات البشرية.

إن أسباب هذه النشاطات لا تحصى وهي غالبا ذات طابع عرضي، وهذه النشاطات تندمج بشكل واع أو غير واع في مجموع. الإنسان، للحديث على طريقة لوكاتش، كائن يجيب، وهو يرد باستمرار على البدائل الناجمة عن تطور المجتمع، وهو نفسه، يحّول الاتجاهات العفوية المتناقضة لهذا التطور المقصود والتي يبحث بالتالي عن إجابات واعية لها. وهنا تكمن أهمية ثورة الفكر باعتبارها الذخيرة الحية التي يتسلح بها البشر للتأثير في واقعهم ولإنضاج خياراتهم في اللحظات التاريخية الحاسمة.

إن واحدة من أهم مشكلات النهضة في العالم الثالث، تكمن في كون المجتمع المشهدي الغربي قد حقق تفوقا ماديا وعلميا وفكريا يسمح له بالتعتيم على النوى المبدعة المحلية، وبتعميم قانونه الاستهلاكي القائم على حصر حرية الفرد في “الاختيار” بين أشيائه الجاهزة وسلعه الثقافية المختلفة وخياراته هو للعوالم الأخرى. إلا أن هذا الغرب لم يعد غربيا، فعالمية الهيمنة تفترض عالمية العديد من المشكلات الأساسية المطروحة، ويتحرج من مؤسساته الثقافية الاستلابية عينها أحيانا أكثر الأقلام راديكالية في نقده.

إن النمط المرتجى لأي نهضة في العالم الثالث، لا يمكن أن يعثر على مثاله الأفضل في النموذج الإمبريالي السائد أو التشكيلات البيروقراطية المتأزمة، بقدر ما يجد مصداقيته في طموح تشكيل نمط حياة إنساني جديد، نمط متحرر من سلاسل قيد الماضي وفي قطيعة تامة مع عبودية سلطات الحاضر، بكلمة، نمط يسمح للبشر بالقرار في اختيارهم طريقة حياتهم ووجودهم وفقا لاختيار واع معرفي وقيمي ومسلكي. إلا أن هذا النمط لا يمكن أن يأتي من رحم إلهة الجمال وإنما من صلب المجتمع نفسه.

ولإنتاجه، فإن النهضة الفكرية تشكل العتلة الضرورية لتسليح البشر بأهم منجزات عصرهم وطموحاته التي لا يمكن دخول حلبة السباق في إطارها، دون مواجهة تحدي الخوف من الذات ومن الآخر ومن المجهول، واعتبار الاكتشاف النقدي لما هو قائم أساسا لكل عملية تجاوز.

النهضة الفكرية ممكنة، لأن التجاوزات النوعية لأفراد ينتمون إلى العالمين العربي والإسلامي بدأت تبرز إلى الوجود من جديد، ووضعها الجنيني طبيعي جدا، فالنهضات، كالإنسان، لا تولد كهلة.

لا مكان لثورة في الفكر إن لم يكن إمامها النقد.. وعندما نقول النقد، فلا نقصد هفهفات مؤدلجي السلطان التي يتردد في مجالسه ما هو أجرأ منها.. أو هواجس جرح المشاعر وتخريش عفن السائد… لقد آن الأوان لكسر عقيدة الترهيب والترغيب لإخراج اللغة من عبودية الخوف، وفي عملية نقدية جدية، لا بد من تشريح الذات لإمكانية إلباسها ثوب الانعتاق.

لم يتحرر العقل السلفي بعد من حرفيته، في مشروعه القائم في أحسن (أو أسوأ ) الأحوال على الرد على أوتوريتارية السلطات بتوتاليتارية دينية. توتاليتارية الإسلام الأصولي، شمولها لكل مظاهر الحياة والكون وتحكمها في تفسيره لطريقة سيرها ومآلها بدقة فقهاء القرون الوسطى، هذه التوتاليتارية التي واجهها إيمان عصر الازدهار العقلاني بالتأويل، وارتجفت أمامها أهم الحركات الإسلامية السياسية، تشكل بنفس الوقت معضلة الإسلام ومشكلة المجتمع العربي مع إسلامه.

فصيحة سيد قطب: “خذوا الإسلام جملة أو دعوه” تعطي الإيديولوجي مداه دون أي مهادنة مع التقدم والتاريخ، ليس الإسلام بحاجة إلى أي كلمة جديدة بعد 14 قرنا، ولو أنه كان بحاجة إلى الناسخ والمنسوخ في 14 عاما من حياة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم). الدرس الوحيد الذي خرج به قطب من ثقافته العلمانية كان التنبؤ بمحدودية التجربة الناصرية، أما بعدها، فالإسلام كفيل بذلك لكون المستقبل له. إن الحتمية التي يرى فيها قطب المستقبل للإسلام تفوق بلا منازع حتمية الماركسيين المحتضرة، وتتجاوز أكثر الأحاديث النبوية وتحشر البشر اليوم بين القيامة والمجتمع الإسلامي.

في كل كلمة تعبوية تختلط الهوية والأنا عند سيد قطب، التلميذ الأمين للمودودي، تختلط بـ”كنتم خير أمة أخرجت للناس”، و”.. أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين”. التفوق في مواجهة الخنوع، التفوق في مواجهة الإذعان، الذي كلما ازداد إذعانا شد رحاله أكثر إلى الانغلاق، لاغتيال شروط النهضة باسم النهوض، وكلما أذله العصر الحديث أنتج أشباه خطباء من وراء حجاب يضعه الرجال والنساء على عقولهم.

اغتصبت الرأسمالية الغربية، وهذا أقل ما يمكن قوله، المجتمعات العربية التي فاوتت في نمط معيشتها دويلاتها التاريخية وأشكال استعمارها. كانت النهضة الأولى محاولة للتعايش مع الإيجابي من قيم المستعمر، إلا أن حراب الاستعمار القديم أرادت من هذا التعايش أن يكون تبعيا وغير متكافئ.

وقد بقيت الرأسمالية تتابع ولوجها بشكل متعرج وهزيل، بمعنى أن البرجوازية المحلية لم تستطع دخول التقسيم الدولي للعمل كطرف فاعل ومؤثر فيه. إن الأهمية التاريخية للمشاريع القومية العربية كانت تكمن في ربط الرأسمالية المسلولة بمشروع حضاري قادر على إعطائها الأسنان الكافية للدفاع عن نفسها أملا في قيامها ككيان مستقل. ومع فشل هذه المشاريع، عادت الرأسمالية التابعة محليا إلى تعبيرها الأكثر شراسة.

في هذه الظروف جرى استكمال قطرية العالم العربي، أي أنجزت السلطات العربية ما بدأته القوى الاستعمارية من التقسيم الفعلي للبلدان العربية إلى كيانات تربطها بالغرب علاقات تفوق بأميال صلاتها مع بعضها.

إن سبيل الخلاص من حالة الاستعصاء هذه يتطلب فيما يتطلب، العودة إلى الفرد المسحوق هذا لرصد شبكات استعباده من الصباح إلى المساء ومن المهد إلى اللحد: ما هو مكانه في الأسرة وفي الجماعة؟ ما هي خريطة التقسيم الاجتماعي للعمل وعلاقتها بمكوناتها؟ ما هي منظومة القيم التي تؤثر على الفرد وتحدد خياراته؟ ما هي مصالحه وكيف هي طريقة حياته (أسلوب معيشته، ذوقه وتطلعاته، باختصار، حياته بشكل كامل).

إذا كان التقسيم الاجتماعي للعمل يمنع معظم البشر من تطوير شخصيتهم في العمل وفي السيطرة على عملية الإنتاج وتوجهات المجتمع وتطوره في المجتمعات الصناعية المتقدمة، فما هي انعكاسات تشوه طابع العمل في السوق العربية اليوم الذي يجد تعبيره في أعمال الأطفال الشاقة غير المرخصة وغير المنتجة وغير المحدودة بوقت أو ضمان أو اعتبار لعمرهم وصحتهم؟ كيف تجري عملية تشويه النمو البشري من سن مبكر في السوق وفي المدرسة وفي البيت؟ وكيف يمكن لهذه الكتل البشرية أن تكون عاملا في التغيير دون أن تسقط في النوازع الفاشية باعتبارها الثأر الذي تأخذه لنفسها من الحاكم والمحكوم؟ كيف يجري تفسخ الأسرة في الواقع وتتمزق العادات الجنسية التقليدية في أكثر معاقل المحافظة؟

كيف يمكن مواجهة الانهيار في الوضع الصحي الذي يجعل من المرض مشكلة وجودية؟ ما هي أسباب انتشار ظاهرة “التميك” باستعمال الكلمة الشعبية المغربية أو “التمسحة” و”كل من يده له” في اللغة العامية المشرقية؟ وظاهرات الدروشة والانكفاء على الذات؟ كيف يمكن توجيه السهام بشكل فاعل إلى الروابط الاجتماعية العضوية التي أصبحت تشكل أيديولوجية سائدة في رأس القامع والمقموع، من العصبيات العائلية إلى الطائفية والمذهبية والروابط الجغرافية؟

مع فرد كهذا يمكن لصدى النهضة أن يشكل خلاصا من الكابوس اليومي عندما يكون نقد الكابوس اليومي موضوع النهضة والانعتاق منه غايتها. مع القطاعات الأمية، كما هو الأمر مع القطاعات المتعلمة، يشترط في المتنورين أن يخوضوا معركتهم بأسلحة في مستوى العصر, أسلحة تصعب محاصرتها ومنعها من الوصول إلى المعنيين بالتغيير، أسلحة تتجاوز الكتابة من أجل خلق ظروف الانتقال الصحية من المجتمع الشفهي إلى محو الأمية وبوسائل تستعمل الطاقات الفنية والأدبية كافة وبتعدد مشاربها من الكاسيت إلى المسرح الشعبي ومن الأغنية إلى الحواريات المسجلة ومن النكتة الشعبية النقدية إلى الشعر. مسلحة بأمضى الذخائر النظرية وبطول النفس والجرأة والحقيقة والوضوح.

من نقطة الصفر ووقفة الشك ومرارة التجربة تولد لحظة الاختيار.. سألت صديقي بعد فراق دام اثني عشر عاما: أين أنتم؟

فأجابني: في الذل، نحن في الذل..

في وضع كهذا، نعود لمأثورة محمود درويش: الولادة تماما أو الموت تماما.

 

نشرت في الجزيرة نت

16- 04- 2010