بعد 1975 بدأ العالم يكتشف منظمة “أطباء بلا حدود” كمنظمة إنسانية من نمط جديد يقوم على الاستقلالية والموضوعية ويرفض أن يكون معنى الحياد في الصمت عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية والمساواة بين الضحايا والمتسبب في مأساتهم. وقد تلقفت المنظمة بأول متطوعيها للاجئين الخمير من كمبوديا عبر نقطة ارتكاز لها في تايلاند تمكنت عبرها من إنقاذ عدد كبير من الفارين من مجازر الخمير الحمر. ومنذ ذلك التاريخ بدأ الربط بين العمل الإنساني والخيري والمبادئ الأولية للكرامة والحقوق الإنسانية تتقارب في عدة فلسفات بعضها ربطها بضرورة توفر القوة الحكومية الضرورية (حق التدخل عند كوشنر وشركاه) والبعض الآخر أكد على ضرورة حق التضامن الإنساني المدني بغض النظر عن الدين أو اللون أو القومية أو الجنسية، باعتبار هذا الحق (والواجب بكل المعاني) هو الأساس لمد جسور الثقة بين عوالم فرقتها استراتيجيات الهيمنة ومبادرات المصالح والتوظيف المتعدد الأشكال. لم يلبث جيل “أطباء بلا حدود” أن دخل في قواعد لعبة تمرد عليها، فأعطى وزراء وخبراء ومنظمات محترفة، لكن لم تعد الروح الخلاقة المؤسسة لهذا التوجه قائمة، خاصة وقد تحول مفهوم التدخل إلى مجلس الأمن ليفقد علاقته بالضحايا بوصفهم كذلك وليعاد تعريفه وفق مصالح الكبار، ونجم عن سوء استخدام التدخل في شؤون البلدان تحول قسم من العاملين الإنسانيين لمرافِقين لجيوش أو مرافَقين من شركات أمنية. بل واضطرت منظمة أطباء بلا حدود لمغادرة أربع مناطق نزاع في السنوات الأخيرة حرصا على سلامة أعضائها.
في هذا الزمن بالذات، وبعد سقوط جدار برلين ومحاولات ترتيب أوضاع الهيمنة في نظام عالمي قديم-جديد، بدأ جيل جديد من المقاومين للأوضاع البشرية بالتكون في أمريكا اللاتينية وأوربة وبعض الدول الإسلامية، هذا الجيل سأم كل أشكال التأقلم والتدجين للمجتمع غير الحكومي وانطلق من كلمة بسيطة (قاوم)، قاوم لأن المقاومة أرقى شكل من أشكال رفض عالم ظالم، قاوم، لأن المقاومة هي الصيغة الأفضل لخلق وسائل نضال جديدة مبتكرة، قاوم لأن العدالة تركع أمام القوة في مجلس الأمن والناتو والبنك الدولي وغيرها من المؤسسات المسخرة لتعزيز التفاوت والمظالم. السلطة المضادة تتحول خلال سنوات من تكوينات قومية أو قارية إلى مقاومة مدنية عالمية، وفي خضم تكونها، تلتقي بأشكال المقاومة الصاعدة في أمريكا اللاتينية وجنوب إفريقيا والعديد من الدول الإسلامية. وفي هذا الوقت بالذات، خاضت منظمة (إنساني يارديم فاكفي IHH) التركية أولى أنجح معاركها الميدانية في البوسنة، ليدخل جيل من الجمعيات الإنسانية الإسلامية بدم جديد واحدة من أكثر الأوضاع الأوربية دقة وحساسية. بعد ذلك، وفي خضم “الحرب على الإرهاب”، اجتمع في باريس في 10 يناير 2003 قرابة 200 مشارك ومنظمة إنسانية في مؤتمر للجمعيات الإنسانية للرد على الهجوم الأمريكي على الجمعيات الخيرية الإسلامية أعطى “المكتب الدولي للجمعيات الإنسانية والخيرية” أول كونفدرالية للجمعيات الإنسانية تضم أكثر من 160 جمعية من أربع قارات.
لم يعد التاريخ يكتب وحسب بأحرف لاتينية، فالمبادرات الجديدة تأتي من خارج الكنائس التقليدية للجمعيات الإنسانية. وإن أرخ 31 مايو 2010 لشيء، فقد أرخ لبداية حقبة جديدة للمقاومة المدنية العالمية في قافلة لم تطلق الحكومات الغربية على مناضل واحد لحقوق الإنسان أو العمل الإنساني منها هذه الصفة، بل وصفته بالمناصر للقضية الفلسطينية. ولم تجرؤ معظم الصحف الغربية على تسميتها بالاسم الذي أطلقته على نفسها (قافلة الحرية)، وكأن الحرية ماركة غربية مسجلة لا يجوز لمواطني 42 جنسية استعمالها إلا بترخيص من الكريف أو الأيباك!! لقد انهارت واحدة من أهم الأساطير المعاصرة التي تربط حقوق الإنسان والعمل الإنساني بالمبادرات الغربية لحظة أطلق الجنود الإسرائيليين النار بكل جبن على مناضلي سفينة مرمرة الذين حملوا جنسية الإنسانية وتوجهوا إلى غزة لرفع الحصار الجائر عنها، ووضعت أوربة الرسمية نفسها في خندق المتواطئ.
لا، لسنا من السذاجة بحيث نصدق بأن حقوق الإنسان والعمل الإنساني قوة محدِدة للعلاقات الأوربية العربية أو العلاقات الإسرائيلية الأوربية. لكن لم يكن بإمكان أحد أن ينكر أهمية الحقوق الإنسانية في صورة ومصداقية أوربة في العالم منذ الثورة الفرنسية. بل أكثر من ذلك، دور حقوق الإنسان والعمل الإنساني والتبشير في استراتيجيات المصالح الأوربية والتصور السياسي الأوربي للعالم. هذا التوظيف “اللطيف” أعطى الأوربيين قوة أخلاقية فعلية وإن لم يكن النهج الأوربي الرسمي يستحق هكذا هدية. وعلينا بالفعل انتظار التعبيرات الأولى للسلطة المضادة والمجتمع المدني المقاوم لكي نرى حكومات أوربية تقبل بإعطاء حقوق الإنسان قوة حضور من وقت لآخر في علاقاتها الخارجية. ولعل أول تثبيت للحقوق هذه في اتفاقيات استراتيجية كان في مؤتمر هلسنكي (1975) الذي أقر هنري كيسنجر المحاور الأمريكي وقتئذ، في مقالة له عام 2001، أن “حقوق الإنسان كانت بالنسبة لنا سلاحا دبلوماسيا جبارا ضد الشيوعية”. أما محاولة الاستقطاب الثانية، والتي لم تكن بقوة وحضور هلسنكي، فكانت في عودة البناء الأوربي بعد الحرب الباردة وفي غياب إيديولوجية مشتركة للطبقة السياسية الأوربية. هنا تم التصديق على عدد من بروتوكولات الملحقة بالاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان ووضعت فقرة خاصة بهذه الحقوق في اتفاقية الشراكة الأوربية المتوسطية (1995).
إن كانت نهاية القرن العشرين قد سجلت بعض المواقف الأوربية غير المتطابقة بالضرورة مع الإدارة الأمريكية في مواضيع حساسة مثل تشكيل مفوضية سامية لحقوق الإنسان، تكوين مجلس لحقوق الإنسان، تشكيل المحكمة الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة وولادة المحكمة الجنائية الدولية، فإن القرن الواحد والعشرين قد بدأ شاحب الوجه قاتم المعالم مع ثلاثة أحداث لعبت دورا مركزيا في تهميش حقوق الإنسان في الخطاب الأوربي:
1- توسيع الاتحاد الأوربي ووصول دول لا تشكل حقوق الإنسان عندها قضية تستحق التوقف كثيرا أمام مشكلات التحول في نظامها الاقتصادي والسياسي.
2- ابتكار الإدارة الأمريكية للحرب على الإرهاب وعولمة الحالة الاستثنائية مع كل ما حمل ذلك لأوربة من سجون سرية وقوائم سوداء وقوانين وقضاة لمناهضة الإرهاب يعملون بالأدلة السرية مع نظرة مانوية للعالم: من ليس معنا فهو ضدنا.
3- تعزيز صورة الإسلام كعدو للحضارة الغربية في وقت التدين العام فيه ظاهرة عالمية وليس ظاهرة إسلامية أو مسيحية أو يهودية وحسب.
في السنوات الأخيرة، أنفق الاتحاد الأوربي مئات ملايين الدولارات في برامج من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان. ماذا أعطت هذه البرامج وماذا بقي منها وهل نالت هذه المساعدات الأطراف التي تعمل باستقلالية وأمانة وعلاقة مباشرة مع مواطني شعوبها أم أعطيت لعرب وأفارقة الخدمات؟ هل يمكننا الحديث عن نتائج ملموسة للمجتمعات المعنية خارج نطاق سياحة مؤتمرات حقوق الإنسان و”السلام” التي عززت وجود نومنكلاتورا (مجموعة مقاولين مستفيدين) تعيش من حقوق الإنسان أكثر منه من أجل حقوق الإنسان؟ ألم يتم دعم كل ممارس للتبعية والترويج والرضوخ للشروط الغربية ولممارسات تتعارض أحيانا مع الشرعة الدولية لحقوق الإنسان؟ كم صُرِف من مساعدات في فلسطين المحتلة دمرتها القوات الإسرائيلية دون حساب أو حتى مجرد عتاب؟ من استطاع من المراكز العربية الممولة أوربيا أو المنظمات الشمالية المسماة بالدولية الوقوف بحزم ضد قرار وقف المساعدات الأوربية عن الحكومة الفلسطينية المنتخبة ديمقراطيا؟ من استطاع تفعيل قرار تجميد الشراكة الأوربية المتوسطية مع الحكومة الإسرائيلية؟ لماذا يحق للحكومة البريطانية مطالبة الأمين العام لائتلاف الخير بالإختيار بين منصبه وقيادة جمعية أنتربال البريطانية في حين تسكت الحكومة نفسها عن مساعدات بلا فواتير وصفقات تحت الطاولة و”تمويل كاش” لمنظمات أيدت سياسة طوني بلير العدوانية التي أثبتت فشلها على كل الأصعدة؟ “إنها واقعة محزنة واستنتاج أليم أن نقول بأن أوربة فشلت في أكبر اختبارات علاقتها بالعالم العربي” يقول النائب الفرنسي جيرار بابت في مداخلة له في ندوة “العالم العربي والاتحاد الأوربي: خلافات وتقاطعات!”.
لكن هل يمكن توجيه التهم للمؤسسات الأوربية ونسيان الحكومات والبرلمانات؟ خاصة وأن العالم العربي قد شهد في العقد الأخير أحداث في غاية الأهمية ليست أوربة بعيدة عنها بحال من الأحوال، لنستعيد للمثل لا للحصر:
– الانتفاضة الثانية والدعم الأوربي للحكومة الإسرائيلية بالرغم من مجازر مخيم جنين وبيت لاهيا وتهويد القدس ونقاط التفتيش القاتلة والبناء المتسارع للمستوطنات وبناء الجدار العازل وحصار الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات واغتيال قادة المقاومة الإسلامية خارج القضاء. في حين أصدر البرلمان الأوربي في 2003 قرارا صارما يصنف أهم منظمات المقاومة الفلسطينية في قوائم الإرهاب ويطالب السلطة الفلسطينية بتصفيتها!.
– احتلال العراق بمشاركة عدد من الدول الأوربية الأمر الذي مزق صورة أوربة معتدلة قادرة على الفعل في وجه تطرف الإدارة الأمريكية.
– الموقف الهزيل من العدوان الإسرائيلي على لبنان في 2006 والمواقف الأوربية المتواطئة التي لم تترك آثارها السلبية على المنطقة وحسب، بل انعكست على حلفاء الغرب في لبنان أنفسهم !
– غياب أية إدانة واضحة لعلمية الرصاص المسكوب ضد قطاع غزة في ديسمبر 2008 /يناير 2009 والتي ارتكبت فيها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في وضح النهار. ويمكن القول أن التواطؤ الأوربي مع الإسرائيلي يشمل المستويات الدبلوماسية (ترقية علاقات وتغطية جرائم) والإنسانية- المدنية (دعم استمرار حصار غزة مباشرة أو بشكل غير مباشر) والاقتصادية (التحايل لشراء منتجات المستوطنات وبناء مترو الأنفاق في القدس) وقضائيا (عبر تراجعات في القضاء الإسباني والبلجيكي ومشروع تراجع فرنسي وربما بريطاني لحماية مجرمي الحرب الإسرائيليين).
– الغياب الكامل لأي موقف مشرف في كل ما يتعلق بالسياسة الإسرائيلية في مجلس حقوق الإنسان منذ ولادته في 15 مارس 2006 وحتى اليوم. حيث كانت مواقف الأغلبية الساحقة لدول الاتحاد غالبا الإمتناع عن التصويت أو تأييد الموقف الإسرائيلي.
– هيمنة الصورة السلبية للعربي (في 12 شهر الأخيرة ازداد من يربط بين العرب والجانحين من 12 بالمئة إلى 27 بالمئة في فرنسا مثلا) والمسلم (ازدادت الاعتداءات ذات العلاقة بالإسلاموفوبيا عدة أضعاف في عشر سنوات في أوربة) هيمنة هذه الصورة السلبية في المجتمع المشهدي الأوربي التي تسيطر عليه مجموعات ضغط موالية للإسرائيليين ولوبيات العداء للمهاجرين والثقافات غير الأوربية.
– يزيد الطين بلة، الدعم غير المشروط للحكومات الأوربية لدول غير ديمقراطية وتنقصها الشرعية السياسية والدستورية لمجرد تبعيتها للسياسات الغربية.
في هذا الدرك المظلم على الصعيد الأوربي الرسمي، جاءت حملة التضامن الدولية مع غزة لتكشف كل عورات الوضع المأساوي لاتحاد أوربي لا يمتلك سياسة خارجية موحدة. وفي غياب موقف موحد له، كانت مواقف معظم حكوماته بائسة وملحقة بالموقف الأمريكي حول الصراع العربي الإسرائيلي. ووضعت الحملة الدولية لملاحقة مجرمي الحرب القضاء في بلدان أوربة الغربية أمام المصداقية التي يتحدث إلى العالم بها، وكشفت الحملة المدنية لمقاطعة البضائع الإسرائيلية التواطؤ الأوربي الرسمي مع السلطات الإسرائيلية .
القضية الفلسطينية هي التي تضع اليوم الاتحاد من أجل المتوسط والشراكة الأوربية المتوسطية والخطاب الأوربي عن حقوق الإنسان والعمل الإنساني الأوربي في بلدان الجنوب أمام حصادهم البائس وفي أهم اختبار لهم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية: هل تنحصر العلاقة السليمة بين العالم العربي وأوربة اليوم بمبادرات المواطنة والمقاومة المدنية المشتركة؟ هل تقزمت أوربة الرسمية في موظفين تعيد انتخابهم جماعات الضغط المناهضة للعرب والمسلمين؟ هل انتهى دور أوربة تشرشل وديغول وبدأ عصر “المماليك”؟ أم مازال بإمكان دول الإتحاد الأوربي ومؤسساته أن تكسر قيود مجموعات الضغط الموالية لإسرائيل والولايات المتحدة والعودة إلى حوار بناء ومتكافئ بين العالم العربي وأوربة يقرأ المعطيات الجديدة وينفض عن خلاياه الدماغية غبار حقبة انتهت؟.
هذا هو التحدي الذي وضعته قافلة الحرية أمام أوربة اليوم.
الجزيرة نت 16-06-2010