أبريل 22, 2024

الغياب الاستراتيجي المصري السعودي

egysauعندما غادرت البيت ملاحقا  قبل 33 سنة، كانت والدتي تتحدث في الأشهر الأولى عن ابنها البكر وكأنه حاضر، إلى أن شعرت بفراغ حقيقي احتله بجدارة أخوتي. ومع الأيام لم يعد الحديث عن الأخ الحكيم والحكم مفيدا إلا للذكريات. هذه الواقعة المعاشة علمتني أن العنصر الأكبر يحتل مكانه بأفعاله ووجوده الفيزيائي. لكن عندما يغيب عن الساحة، ليس ثمة مكان لنظرية الفراغ في المحيط العائلي. هذا الأمر يصح في السياسة أيضا، حيث لا مجال للفراغ الاستراتيجي.  لذا يمكن لمتدرب أو أخ صغير أن يقوم بدور هام عندما يغيب صاحب الدور “المنطقي”. بنفس المنطق يمكن تناول أزمة غياب مصر والسعودية عن الساحتين الإقليمية والدولية، وثمن ذلك على صعيد التوازنات الإقليمية الضرورية.

استعراض متوسط عمر أفراد العائلة المالكة السعودية يظهر أنها أعلى من متوسط عمر العائلة الملكية السويدية، بفارق أن آل سعود يمتلكون كل السلطات ويتحكمون بمصير البلاد والعباد. لكن دون أن يجددوا دمهم أو ينعشوا نمط تفكيرهم أو يكتشفوا مستجدات عصر أبنائهم وأحفادهم. وقد جاءت أحداث سبتمبر، بمشاركة سعودييين، لتختزل الدور السعودي في المنفذ الإقليمي لسياسة الإدارة الأمريكية. وذلك على عدة أصعدة حيوية وهامة تحتاج إلى القرار المستقل وحاسة الشم الشرقية. لقد تم بكل أسف تسخير كل الطاقات المالية والإعلامية السعودية لهذا الغرض. بحيث استطاعت الشبكة الإعلامية في دولة قطر تجاوز الإمبراطورية الإعلامية السعودية بهامش استقلالية نسبي. كما ونجحت المقاومة الإسلامية في التمتع بثقة لم ينلها قطبا النظام العربي في المشرق.

لا شك بأن مشاركة عدد هام من مواطني المملكة في أحداث 11 سبتمبر طبعت التخبط الرسمي و”سمحت” للإدارة الأمريكية بابتزاز أكثر حلفائها العرب وفاء. مما اضطر إعلام المملكة الرسمي لخوض حملة شرسة (وليس انتقادا منطقيا أو تقييما لسوء أداء) ضد كل ما هو سلفي وجهادي، بل وإخواني في السنوات الأولى بعد سبتمبر. ثم بطلب خارجي، عودة لتجميل صورة حركات إسلامية معينة، تسمى الصحوة في العراق والسلفية في لبنان. إضافة لاستنهاض الخطاب المعادي للرافضة، وحصر من لا يتصدى للغزو الشيعي في خانة التخلي عن الإسلام والجماعة. بحيث يبدو أن المطالب الأمريكية انتقلت من صدارة قضية “القاعدة” إلى صدارة الملف النووي الإيراني مع تقزيم للخطر الإسرائيلي أمام الخطر الإيراني-الشيعي.

هذا التحول في الأجندة السعودية جعل التوافق الإعلامي يركز على الإرهاب في ولاية بوش الأولى ويعبئ شحنات الحقد بين أهل السنة والشيعة في الولاية الثانية. أما النتائج المحلية لهكذا سياسة على مستوى السلام الأهلي اللبناني والعراقي والسوري، فلم تكن موضوع تأمل جيو سياسي في المملكة. فهي فقدت مكانتها كقطب سياسي إقليمي، ولم تعد تصدّر إلا السطحي في الثقافة والتبعي في السياسة.

أما بما يخص الغياب المصري، يمكن القول أن أول مقوماته إفلاس مراكز القوة المحيطة بالرئيس حسني مبارك وحسر دورها في سرطانية الفساد وتوغل التسلط. ومن البديهي أن أية سلطة تشعر بالكراهية تخشى، كما يقول مكيافيللي في “الأمير”، من كل إنسان ومن كل شئ. أي يصبح لديها القدرة على ممارسة العنف المجاني، مع كل ما يترتب على ذلك من قطع وشائج التواصل بين الحاكم والمحكوم. من هنا خاضت مراكز القوى في مصر سبقا مع غيرها نحو تسليم القرار السياسي المصري للإدارة الأمريكية، ولم يعد هناك صوت مصري يذكر في القضايا الإفريقية والعربية. صحيح أن الدور المصري بدأ بالإنحسار منذ العزف المنفرد للرئيس السادات على أنغام التسوية السياسية مع الدولة العبرية. لكن التراجع الكبير كان منذ قرابة عشر سنوات، بعد قمة شرم الشيخ لمناهضة الإرهاب، التي رسخت فكرة انحسار الدور المصري (دور الدولة المصرية) إلى السمسار الإقليمي. من ثم يختزل هذا الدور بعد احتلال العراق في إدارة شؤون الفصائل الفلسطينية والاحتجاج الشديد اللهجة على فيلم إيراني أو إغلاق وفتح معبر رفح. لقد قزمّت الحكومة المصرية نفسها بنفسها، وكأنها قايضت موضوع استمرار الفريق الحاكم بالامتناع عن أي دور لائق بهذا البلد. بلد شكّل يوما أحد أضلاع مثلث حركة عدم الإنحياز ومركز اهتمام العرب لعقدين من الزمن السياسي. ذلك بعد أن كانت مصر مركز أول نهضة عربية في الأزمنة الحديثة زرعت أهم مقومات الثقافة العربية بعد العثمانية.

تفرجت مصر الرسمية على العدوان الإسرائيلي على لبنان، وغابت مع السعودية عن القمة العربية في دمشق بتوجيهات أمريكية. ثم لم يلبث “غياب الدور” أن ترك فراغا استراتيجيا هاما بات بوسع دول أخرى أن تلعبه.

بعد تهاوي خطاب الرئيس الأمريكي عن الديمقراطية ومشروعه لقيام دولة فلسطينية قبل نهاية ولايته، كانت الرباعية الأخيرة لكونداليزا رايس مع مديري المخابرات في مصر والأردن والإمارات العربية والسعودية.

لم يعد الحديث عن الإصلاح سوى اسطوانة مشروخة لنظم غير صالحة. فأية انتخابات حرة نسبيا تأتي بأعداء الإدارة الأمريكية. لذا اختارت إدارة بوش-شيني العودة لقضايا الأمن ومناهضة الإرهاب. واختارت السلطات السعودية ضرب رموز الإصلاح الدستوري والتضييق عليهم واعتقال أحد أهم رموزهم (الدكتور متروك الفالح). أما السلطات المصرية، فعوضت عن انهيار شعبيتها بتراجعات كبيرة قوننت فيها الاستثنائي وعسكرت القضاء وركزت بيد الرئيس سلطات جديدة تشمل القضاء والتشريع.

ليس من المدهش في وضع كهذا، أن تقفز الدبلوماسية القطرية والتركية إلى صف متقدم لملء الفراغ الناجم عن التحنط المصري-السعودي. ليس فقط في لبنان، بل وفي وادي النيل بالذات.  كما أنه ليس بالغريب في وضع كهذا أن يقرر الرئيس الفرنسي ساركوزي غياب وحضور “رئاسة” الاتحاد من أجل المتوسط من الساحة الإقليمية على مزاجه. أو أن تصبح إيران، قبل صناعة قنبلتها، طرفا إقليميا أساسيا في المنطقة. في حين اختزل المشهد السعودي في سوء استعمال المال النفطي، وقدمت صورة لسلطات مصرية شاغلها الأول والأخير ضبط النظام وقمع الأنام.

————–

مفكر وحقوقي عربي يعيش في فرنسا

البديل المصرية 26/9/2008