أبريل 14, 2024

احتضار الشرعية الدولية

legitimacyالشرعية، مصطلح سياسي مركزي مستمد لغوياً من شَرَعَ (الطريق)، أي نَهَجَ وبيَّن وسَنَّ؛ والشَرْعَةُ والشِرْعَةُ: المَثَلُ، والمِثْلُ والسُنَّة. وقد درجت الترجمة العربية للكلمة باعتبار الشارع، وفق ابن منظور، الطريق الأعظم الذي يشرع فيه الناس عامة.

والشرعية، كما ينوه محمد حافظ يعقوب، هي المقابل المصطلحي الحديث لمفهوم البيعة في التراث الإسلامي.

يُقْصَدُ بالشرعية، وفق ماكس فيبر، قدرة النظام السياسي على اكتساب الاعتراف به والنظر إليه على أنه يعبِّر إما عن المصالح الفورية والمباشرة للجماعة و-أو عن مصالحها الإستراتيجية: مصالحها التي تتَّصل بهويتها، أي بوجودها ونظرتها لنفسها في الزمان.

أما بحسب ابن خلدون، فهي ناتج البيعة. وهذه الأخيرة هي نوع من التعهد التعاقدي المتبادل بين طرفين هما الحاكم والمحكوم.

يتفق ابن خلدون وفيبر من جهة، ومدارس العلوم السياسية والقانون الدولي الحديثة من جهة ثانية، على أن الشرعية تستند على فرضية التراضي: التعاقد بين طرفي العلاقة السياسية، وهما الحاكم والمحكوم، المقرر وموضوع القرار، القوي والضعيف.

والبيعة هي بهذا المعنى فعل مؤسس للشرعية وللعلاقة السياسية في آن، وشرطها احترام الطرفين العقد وعدم إخلالهما بشروطه، ومعيارها الإقرار بحق أو على الأصح بحقوق متبادلة.

ليست الشرعية معطى ناجزا يطرح مرة واحدة وإلى الأبد، وهي ليست ماهية ثابتة تستعصي على الحركة والتبدل والتغير إذن. إنها سيرورة: تُغذى وتُكتسب وتَرْسَخ كما تتآكل وتتلاشى.

من التجربة القصيرة التي بدأت عمليا في القرن العشرين، نلاحظ أن الشرعية الدولية تتعاظم وتتكرس في حركة جدلية صاعدة ترسخت مع ولادة القانون الدولي لحقوق الإنسان، وكذلك مع القدرة على زرع أوضاع أمنية على الصعيد العالمي انطلاقا من مرجعيات قانونية وأخلاقية في الحرب والسلم، وليست فحسب تأصيل فرضية موازين القوى التي أنتجتها.

من هنا، توجد عملية توافق ضمني كي لا تكون هذه الشرعية ابنة علاقات الهيمنة التي تسود العالم بقدر ما هي مشروطة بمواثيق وعقود ضابطة تضمن إعادة إنتاجها بدون خوارج وهوامش تتسع لتحدد دورها مع الزمن.

أية شرعية هي الطفل الطبيعي للزمان والمكان والفعل السياسي الذي يطبعها، كما أن حياتها ومماتها رهن بمصداقيتها في العقل الجماعي للبشر.

وهي تنهار حالما تُفتقد صدقية العمل السياسي المستند إلى مرجعية مقبولة (ميثاق أو دستور أو اتفاقيات)، أي العمل الذي يجعل من القواعد المنظمة للعلاقات الدولية، لا المصالح المباشرة والسياسات قصيرة النظر، أساسا للعمل الجماعي القادر على إنتاج قواسم مشتركة للسياسة الإقليمية والدولية.

فليست هناك سلطة أو هيئة في العالم، معنوية كانت أم فعلية، تحمل في ذاتها تبريرها وشرعيتها النهائية مرة واحدة وإلى الأبد. إنها ليست قوة ساكنة.

وكون الهيئة الدولية محصلة توازن أو حالة اختلال توازن، فهي يمكن أن تخسر بالتالي صفتها الاعتبارية مع عجزها عن التعبير عن مجموع الأصوات التي تتكون منها، وليس فقط الصوت الأقوى.

الاعتراف بأية شرعية دولية ليس صك غفران أزلي، وهو يحتاج باستمرار إلى المحاجة العقلية الضرورية لتبيان أسسه المنطقية والحكم القيمي الأخلاقي الذي يقنع المعنيين بقرار دولي بعدالته، أو على الأقل باعتباره الأقل سوءا.

من هنا الجدلية الدائمة بين المرجعيات المستحضرة عند كل قرار دولي يصدر عن مجلس الأمن مثلا والنسبية المرتبطة بالحقل المنتج لهذا القرار.

لكن حتى في حال العثور على المرجعية المنسجمة مع ميثاق الأمم المتحدة والتعبئة الإعلامية لاستقطاب رأي عام مؤيد، يخرج لنا باستمرار عامل ثالث هو العطب الميداني، أي قدرة قرار أو توجه أو خيار سياسي دولي على التمثل في أرض الواقع كعنصر استقرار سياسي وأمن إنساني وتوافق حد أدنى بين أطراف الصراع.

الواقع أن كل سلطة سياسية تطرح نفسها، في بورصة الشرعيات السياسية، استناداً إلى الزّعم بأن الاعتراف بها كسلطة قائم على تضافر عنصرين اثنين: محاجة عقلية بيانها ضرورة السلطة للاجتماع، وحكم قيمة خلقي بيانه أن السلطة خير بذاتها، باعتبارها مكرسة للمصلحة العامة.

الشرعية الدولية، ومنذ عصبة الأمم، تدعي كالشرعية السياسية، الحق في احتكار ممارسة العنف.

وهي تعتبر تجاوزها للتعصب القومي نحو قيم ومبادئ جامعة فوق قومية مصدر مصداقيتها وأساس تلاؤمها مع الوضع الدولي.

من هنا واجبها الدائم في خلق هذا الاعتقاد، حرصا على عدم إيجاد حالة تعارض بين العدالة والشرعية.

بتعبير آخر إلغاء الشرعية بفعل تعارض مسيرتها مع عدالة دولية نالت مصداقية أعلى في القلوب وفي العقول، الأمر الذي يضعنا أمام احتضار سريري للشرعية الدولية ويفتح الطريق لولادة شرعية جديدة على أسس مختلفة.

كانت أولى عناصر اهتزاز الشرعية الدولية، المنبثقة عن هزيمتي عصبة الأمم والنازية، منح الدول الخمس الدائمة العضوية حق الفيتو وقرار استبعاد الصين الشعبية عن الأمم المتحدة، حين أعطي مقعد الصين لجزيرة تايوان، في تمثيل هزلي لآسيا يدل على قصر نظر المعسكر الغالب في الحرب العالمية الثانية.

وقد تثبت مع حق النقض مفهوم رهن حقوق الشعوب برضا القوى العظمى.

الزلزال الثاني كان في قرار تقسيم فلسطين وتوزيع أراضيها على دولتين عربية ويهودية بإرادة سامية شمالية في القرار 181 لعام 1948.

وإن كانت الأمم المتحدة قد تداركت حماقتها الأصلية في قضية الصين، فهي لم تزل أسيرة الفيتو، ولم تزل أيضا تجتر الأخطاء، حتى لا نقول الجرائم، منذ 58 عاما، في كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية.

لا شك بأن صيرورة المشرق العربي منطقة نفطية هامة، وضعف الثقة البنيوي في العقلية الغربية بالعربي والإسلامي، قد خلقا قناعة سائدة بأن إسرائيل قاعدة عسكرية نافعة، باعتبارها غير قادرة على العيش دون دعم الدول الغربية.

شكلت حقبة الحرب الباردة العصر الذهبي لشرعية دولية كانت تبحث باستمرار عن مصداقية الحد الأدنى، باعتبار هذه المصداقية هي الشرط الأول لمحدودية توظيف الأمم المتحدة من هذا المعسكر أو ذاك.

وكان لانهيار المعسكر السوفياتي أن فتح الشهية للمنتصرين الجدد بإعادة رسم خريطة العالم وفق مصالحهم أولا، فكانت التجمعات المدنية في العالم الطرف الأول المناهض لتوجه كهذا.

ورغم الحديث عن نظام دولي جديد أكثر عدالة، خرجت التظاهرات أثناء احتلال الكويت للدعوة لانسحاب سلمي للجيش العراقي منها.

كما جرت نقاشات معمقة حول ضرورة تعزيز ترسانة الشرعة الدولية لحقوق الإنسان لمواجهة السياسة الأميركية التي بات هاجسها الأول البناء الإمبراطوري أكثر منه التنظيم الجماعي للعلاقات الدولية.

كان عام 1993 قمة هذه النشاطات المدنية والحقوقية، حين تبنى مجلس الأمن قرارات لجنة حقوق الإنسان المتعلقة بإنشاء محاكم جنائية دولية خاصة بيوغسلافيا ورواندا، وإنشاء مفوضية سامية لحقوق الإنسان، والتقدم في حقوق البيئة.

بالمقابل، كانت الولايات المتحدة الأميركية تعد العدة لإعادة تنظيم الاقتصاد العالمي على أساس تعزيز هيمنتها وتثبيت قواعدها في الخليج والجزيرة العربية، وممارسة عقوبات تأديبية رادعة بحق العراق.

كذلك كانت تقوم بالتأسيس لمفهوم مرن للشرعية يسمح لها باعتماد بنيات موازية لكل ما ينتجه المجلس الاقتصادي والاجتماعي من قواعد قانونية وخلقية لا تنسجم مع عملية إعادة بناء موازين القوى على الصعيد العالمي، إضافة إلى دعم وتعزيز السلطات السياسية الحليفة للولايات المتحدة، وبغض النظر عن أسلوبها في ممارسة الحكم، ديمقراطيا أو تسلطيا.

بل يمكن القول إنه بالرغم من كل السياسات المعلنة للإدارات المتعاقبة حتى اليوم، آثرت الولايات المتحدة سد الطريق على الإرادات الشعبية الحرة انطلاقا من أن نشوء رأي عام من العيار الثقيل، ونظم ديمقراطية ذات مجتمعات مدنية فاعلة في بلدان الجنوب، يشكل خطرا حقيقيا على مشروعها للهيمنة.

ومهما كان وضع الرأي العام الشمالي، فهو لا يجد غرابة في امتيازات تمنح لفرنسا وبريطانيا في مجلس الأمن مثلا.

كيف يمكن أن أنسى، أنه في الذكرى الخمسين لقيام الأمم المتحدة، فشل مشروع إعلان تقدمتُ به حول إصلاح الأمم المتحدة للفدرالية الدولية لحقوق الإنسان كنائب لرئيسها وقتئذ، لأنه يتضمن إلغاء “حق” الفيتو؟

لقد وقف كل مندوبي الدول الشمالية ضد اقتراحي في هذه المنظمة غير الحكومية.

ومع كل التقدير لما يقوم به منتدى السياسات الشاملة “GPF” من أجل إصلاح الأمم المتحدة، نجد كيف هشمت “الحرب على الإرهاب” الجهود الجبارة لتفكيك المنطق الرافض لدمقرطة الأمم المتحدة.

إدارة العالم باتت أسهل مع وجود منظومات موازية تجعل الأمم المتحدة ومجلس الأمن المشرع الضروري لسياسة الأمر الواقع للأقوى.

لذا جرى تعزيز وأقلمة مبادرة قمة السبع الأغنى في العالم التي تعود لعام 1975 لتشمل روسيا بعد السوفياتية، وتأسيس منظمة التجارة العالمية.

ورغم أن مبرر وجود حلف شمال الأطلسي لم يعد قائما، باعتباره الحلف العسكري الوحيد اليوم، فقد جرى تعزيزه وتقويته.

كما منح في 1999 امتياز إعلان حرب خارج نطاق الأمم المتحدة في كوسوفو لمنح مصطلح الشرعية الدولية بعدا فضفاضا وذمة واسعة تتسع لكل المبادرات التي تقوم بها الولايات المتحدة الأميركية.

بدأ إذن مفهوم الشرعية الدولية، بمعنى قرارات الأمم المتحدة، بالتآكل أولا بأول، مع غياب احترام قراراتها من قبل الدولة المدللة من الغرب (إسرائيل).

واستمر الأمر في التفاقم مع إقرار عقوبات لا إنسانية على العراق بإصرار بريطاني أميركي، ثم تأكد مع تشكيل حلف العدوان على العراق خارج سقف الأمم المتحدة وغزوها بالفعل عام 2003.

تتابع ذلك مع سيطرة المحافظين الجدد على مواقع القرار في البنك الدولي ووفد الولايات المتحدة إلى مجلس الأمن.

الحرب على الإرهاب كانت الضربة القاضية على الشرعية الدولية بقراءتها الشمالية. فقد صنفت حركات المقاومة في معسكر الشر والإرهاب، ووضعت التعبيرات الأهم للحركة المدنية في البلدان الإسلامية (الجمعيات الخيرية والإنسانية) في خانة الاتهام.

وبعد فشلها في الحديث عن المليشيات في المستنقع العراقي، نجدها تتدخل في تفاصيل السياسة اللبنانية والفلسطينية، بل وتحاول فرض حل أحادي في لبنان وفلسطين يعطي للمحتل الإسرائيلي دورا مركزيا في إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط.

لقد صارت ازدواجية المعايير تثير الاشمئزاز، ولم يعد عند جماهير واسعة من بلدان الجنوب، في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، أي دافع لاحترام ما لا يحترم وتقديس المدنس وطاعة الطغيان الدولي باسم قرارات مجلس الأمن.

وتفاقم ذلك خاصة عندما استثنت هذه القرارات مرتين (في القرارين 1487 و1422) الأميركيين من الملاحقة بجرائم حرب، ونظمت جريمة العدوان الأميركي البريطاني على العراق في سابقة تضرب القانون الدولي الإنساني وميثاق الأمم المتحدة في الصميم.

وأصبحت معركتنا اليوم في تعزيز دور مؤسسات الأمم المتحدة التي لم ترتهن بعد لقرار الإدارة الأميركية، والمنظمات شبه الحكومية التي تحترم الشرعة الدولية لحقوق الإنسان باعتبار أن الوضع البشري لا يسمح بعد بتجاوز هيئة الأمم المتحدة هذه، ولغياب المبادرات لتجمعات كبيرة عند الضحايا.

بهذا المعنى نبصر احتضار الشرعية الدولية بمفهومها الراهن، باعتبارها لم تعد التمثيل الصادق للإرادة الجماعية على الصعيد العالمي.

وبهذا المعنى أيضا نستنفر كل الطاقات لتشبيك واسع النطاق للفضاءات غير الحكومية، تشبيك يسمح بولادة شرعية حقوقية جديدة، أساسها العدالة الدولية، أي أفضل ما أنتجته المجتمعات المدنية والأمم المتحدة في وجه مجلس الأمن، أسير الإدارة الأميركية.

———————-

المصدر الجزيرة نت  22/8/2006