قليلة هي الكلمات التي تحمل من الشحنات الإشكالية والخطيرة مثل كلمة الأمن. فكأي مصطلح أساسي، تتضمن هذه الكلمة في صلبها المرونة والغموض. وهي في معناها الأكثر شيوعا، أن يكون المرء آمنا، أي أن يشعر بالتحرر من التهديد والقلق والمخاطر. الأمن بهذا المعنى حالة عقلية، يشعر فيها الفرد، قائدا أو مديرا أو مجرد مواطن، بالطمأنينة من أذى الغير. وبهذا المعنى أيضا، تشعر الدولة بالأمن (بمعنى حكامها أو مواطنيها) عندما تطمئن لعدم وجود خطر بالعدوان عليها. بهذا المعنى، الأمن حالة ذهنية ذاتية وليس حالة موضوعية للوجود الإنساني. وهي تبرر أو تفسر حالة الاستيعاب الذاتي عند الأفراد أو الجماعات لفكرة غياب الأمن أو توفره. من هنا يجمع الأمن بين دفتيه أشياء كثيرة.. فما يعطي الشعور بالأمن لزيد يمكن أن لا يكون كافيا لعُبيد. والشعور بغياب الأمن إحساس يتعلق بفهم العالم والمحيط وحالة التوتر والقلق والاحتقان الداخلي والقدرة على التحمل.. الأمن ليس مادة أو سلما محددا للشعور أو مجموعة اعتبارات متساوية بين الأشخاص أو الدول. الأمن حالة رمادية يصعب وضعها في معادلة رياضية، وهي تختلف عند المستعمل والمتلقي في الزمان والمكان، فهذه الكلمة كانت تعني في الثقافة العربية عشية ميلاد الإسلام نقيض الخوف . ولم تكن تحمل أية شحنات سلبية. وقد أكد الإسلام هذا البعد الإيجابي للكلمة، حيث رب البيت أطعم الناس من جوع وآمنهم من خوف. ونجد في قصة الخليفة عمر بن الخطاب ربطا لمفهوم الأمن بإقامة العدل: عدلت فأمنت فنمت . وعلينا انتظار الدولة الحديثة لكي يدخل مفهوم الأمن في صلب الحرية السياسية. حيث تأثرت الكتابات السياسية منذ القرنين السابع عشر والثامن عشر بفكرة مفادها أن غاية الحكم ضمان الأمن الذي يجعل الحرية السياسية ممكنة. فإن كانت الحرية الفلسفية عند مونتسكيو هي ابنة ممارسة الإرادة، فالحرية السياسية تكمن في الأمن. هوبس لا يبتعد عن هذه الفكرة عندما يعتبر التحرر من الخوف شرطا لأية حرية سياسية.
هذا التداخل بين الأمن والحرية أدخل الأمن مبكرا في صلب مفهوم الدولة وجعله يعود مع كل انتكاسة سياسية أو أزمة مجتمعية كطرف غير هامشي في معادلة بناء أوضاع استثنائية. أوضاع هي في صلب اعتبار المدارس الفكرية النقدية الأوروبية للديمقراطية في الغرب شكلية، ليس فقط بسبب نسبية تمثيلها لمجتمعاتها وسيطرة جماعات الضغط على أجهزتها، وإنما أيضا، لأن الأمن بالمعنى السلبي للكلمة مازال في مكونات ولادتها واستمرارها.
إن طبيعة أي وضع سياسي عالمي يؤثر على مفهوم الأمن للدولة. فسيادة وضع عالمي تغيب عنه الأطماع أو الاعتداءات يخلق شعورا عاما بضعف العامل الدولي في اضطراب الأمن والعكس صحيح. ويسود في حقبتنا شعور عام بأن قدرة أي دولة على صد العدوان الخارجي عنها عنصر أساسي في أمنها. إلا أن أي اختزال لمفهوم أمن الدول بالعنصر العسكري يغيب جملة عوامل غير عسكرية أساسية حاسمة في أمن الدول.
في عصرنا الراهن دخل عاملان جديدان في مفهوم الأمن، الأول فكرة الأمن الجماعي في منظومة الأمم المتحدة والثاني العدوان البيئي وأثره على الأمن. ورغم أهمية التحطيم المنهجي للبيئة بلا حدود وفوق الحدود، تمر فكرة الأمن الجماعي في منظومة الأمم المتحدة اليوم في أكبر أزمة عاشتها منذ نشأة الأمم المتحدة. ففي الوقت نفسه، التي يحاول فيه مجموعة من الخبراء الذين عرفوا الأمم المتحدة بما لها وما عليها، محاولة زرع فكرة الأمن الإنساني. يتعرض مجلس الأمن لأزمة ثقة على كل الأصعدة، وظيفية أم بنيوية أم سياسية كانت. فمنذ قرابة العقدين عندما بدأت فكرة إصلاح مجلس الأمن تدخل في أدبيات المنظمات غير الحكومية بشكل منهجي وقوي، تشهد هذه المؤسسة المطلقة الصلاحيات تعارضا صارخا في صعود دورها على الصعيد العالمي من جهة، وسلبية هذا الدور التي تنعكس مباشرة على مصداقية المجلس والأمم المتحدة بشكل عام من جهة ثانية. ففي السنوات الخمس التي تلت سقوط جدار برلين تضاعف عدد الاجتماعات الرسمية السنوية للمجلس، ترافق ذلك بارتفاع عدد المشاورات غير العلنية من 20 إلى 195 وتمخض كل ذلك عن ارتفاع القرارات من 25 إلى 72 ومداخلات الإعلان الرئاسي من 20 إلى 85. الفقرة السابعة من المادة الثانية للميثاق (ليس في هذا الميثاق ما يسوغ للأمم المتحدة أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي؟ لدولة ما، وليس فيه ما يقتضي الأعضاء أن يعرضوا مثل هذه المسائل لأن تحل بحكم هذا الميثاق، على أن هذا المبدأ لا يخلّ بتطبيق تدابير القمع الواردة في الفصل السابع). هذه الفقرة بدأت تدخل عالم النسيان مع تعزز فكرة حق الدول الكبرى في التدخل الانتقائي والمتحيز على حساب ميثاق الأمم المتحدة.
في هذا الوضع بالذات، بدأت أكثر من شبكة ومؤسسة غير حكومية منذ 1992 بطرح ضرورة إصلاح مجلس الأمن باعتبار هذا المجلس يتمتع بسلطات تسمح بكل أشكال تعسف السلطان. فرغم اعتبار العديد من الدول والاتجاهات الديمقراطية لنظام الحكم في العراق مصيبة داخلية وإقليمية، إلا أن طريقة تعامل مجلس الأمن مع العقوبات المفروضة عليه بضغط أمريكي بريطاني كانت تثير الاشمئزاز، وطالما ربطها الباحثون الحقوقيون بالنقاط السوداء لمجلس الأمن التي تذكر بشّل فرنسا وبريطانيا مجلس الأمن عن إصدار قرار بشأن العدوان الثلاثي على مصر أو مقاومة بريطانيا والولايات المتحدة في الثمانينات لفرض عقوبات اقتصادية على النظام العنصري في جنوب إفريقيا في الثمانينات وتوظيف الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي لصلاحياتهما في المجلس لشل قرارات تتعلق بفيتنام وأفغانستان..
مجلس الأمن غير المصلح والمطلق الصلاحية يتمتع بمواصفات الدكتاتور على صعيد الدول. نظام الرئيس مدى الحياة كما يقول مندوب كولومبيا السابق في الأمم المتحدة لويس فرناندو خاراميلو مقبول به كأمر عادي والفيتو (حق النقض) يتم التعامل معه كمسلمة. أليست هذه الدول المستودع الفعلي لأهم الأسلحة النووية والبيولوجية والجرثومية وبإمكان واحدة منها تحطيم الكرة الأرضية عدة مرات، كيف يمكن أن يشكل مجلس الأمن أنموذجا لنشر السلم والعدالة والديمقراطية وهـــو فـــي بنيتـــه أمثولة لغياب المساواة والقرار الديمقراطي والشفافية؟ كيـــف يمكن الحديث عن مؤسسة رائدة تقوم أهم قراراتها كما يقول الصديق المختص في إصلاح الأمم المتحدة جيمس بـــول .Doing busine in secretعلى
منذ أحداث 11 سبتمبر، وضعت الإدارة الأمريكية مجلس الأمن أمام أحد خيارين: إقرار الخطوط العامة لسياستها، أو تجاوز وجوده. وبذلك، نصبت نفسها بكل المعاني فوق هذا المجلس، في هدم منهجي للأسس التي قامت عليها الأمم المتحدة.
كيف يمكن أن ينتظر المرء قرارا أمميا ديمقراطيا وعادلا ؟ : هكذا مجلس ينجب هكذا قرارات، ولا حاجة للوقوف طويلا عند فارق النتيجة قبل وبعد الوفد العربي، فهذه النتيجة لم يصنعها التدخل العربي الرسمي بقدر ما فرضها الوضع الميداني، كـــما أن هناك نقاطا غائبة عن القرار الدولي لأن الإدارة الأمريكيـــة ترفض إعطاء أي وسام لحزب الله، الــذي سمــــاه العصابـــــي بولتون بالعصابة الإرهابية معتبرا القضاء عليه شرطا لوقف القتال.
القرار 1701 أمريكي فرنسي معدل بضرورات تسمح بقبوله خارج حدود إسرائيل. ولكنه قرار جد رديء ويمكن القول أن نقاط القوة فيه عندما يكون غامضا لأنه في النقاط الواضحة قرار يعطي إسرائيل في نيويورك ما عجزت عن تحقيقه في مارون الراس. إسرائيل خاضت الحرب ببرنامج واضح أسماه أولمرت إعادة لبنان عشرين سنة إلى الوراء. لذا حطمت البنية التحتية للبنان وليس البنية التحتية لحزب الله، قتلت المدنيين أولا، عادت بأخلاق الحروب إلى ما قبل حلف الفضول.. لا عهد ولا قانون كل مدني لبناني هدف لأنه لم يعلن الثورة على حزب الله، كل من يركب سيارة محملة بالخضار هدف عسكري، كل من يسعف بناية مدنية محطمة هدف، كل من يشارك في جنازة يمكن أن يدخل في النعش القادم.. نحن أمام حالة همجية فوق المحاسبة تحتقر القانون الإنساني الدولي وهيئة الأمم المتحدة وتنال حماية مطلقة من الإدارة الأسوأ في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية. لا شك بأن الإدارة الأمريكية الغارقة في المستنقع العراقي تبحث عن أية نقاط ارتكاز تعيد لها الإعتبار. المشكلة أن ما يسمى الحرب على الإرهاب والعدوان الأمريكي الإسرائيلي قد أعلنا احتضار الشرعية الدولية في المفهوم الذي ولدت معه بعد الحرب العالمية الثانية. الآن من يحترم قرارات الأمم المتحدة؟ لا بد من تعبئة الفراغ الناجم عن هذا الاحتضار بتعزيز مقومات العدالة الدولية. ولا يجب أن يغيب عن البال أن هناك قبل وبعد الحرب السادسة، لن تكون الأمور كما كانت، لقد زجت الحرب بمئات آلاف الشبيبة إلى الفعل السياسي والتفكير بضرورة الدور السياسي، وهذا إنجاز هائل سيعطي الحياة السياسية دما جديدا إن لم نقل سيكون في صميم عملية غسيل دم أصبحت أكثر من ضرورية.
اليوم، تسعى الإدارة الأمريكية لفرض أمنها القومي على العالم باعتباره أمنا ضروريا لهذا العالم، وفرض تصورها للأمن الإقليمي باعتباره الأنسب لمصلحة الشعوب. إلى أي حد يمكن لهذا التوجه أن يودي بنا إلى الأمن الإنساني الذي يتحدث عنه خبراء الأمم المتحدة.. القنابل الانشطارية التي قدمتها الإدارة الأمريكية للجيش الإسرائيلي عشية صدور إدانة مجلس حقوق الإنسان وقرار مجلس الأمن، تعطي الإجابة على هذا السؤال.
القدس العربي 15/8/2006