الكلمة التي ألقاها هيثم مناع في مؤتمر دارفور العالمي لحقوق الإنسان، الفاشر في 19/12/2009
الإخوة والأخوات السلام عليكم،
أقرأ ورائي كلمة “دارفور تتعافى”، وهي كلمة كبيرة وطموحة وكنت أفضل لو قلنا: كيف تتعافى دافور، أو من أجل أن تتعافى دافور. لنكون أقرب للموضوعية والأمانة. فدارفور ما زالت بحاجة لعوامل ضرورية للشفاء، وهذه العوامل مسؤولية جماعية تقع على كل الأطراف المعنية حكومية وغير حكومية، فصائل مسلحة ومنظمات مدنية.
تعلمنا في الطب البديل، أن من أفضل وسائل مواجهة العلة، الوقاية أولا، وثانيا العلاج السببي، وثالثا العلاج الدوائي. للأسف، في كل مناطق الصراع في العالم، ما يغلب هو ما يمكن تسميته بالعلاج الدوائي. أي العلاج المؤقت الذي يفسح المجال لعودة الصراع. ويمكن القول أن السودان هو البلد القادر على إعطائنا أفضل مثل لذلك، عبر حرب الجنوب أطول الحروب الأهلية في إفريقيا والتي بحمد الله تم وضع حد لها بعد سنين من الأوجاع والكوارث.
منذ أربع سنوات، وأنا أحاول مع أكثر من منظمة غير حكومية القدوم إلى دارفور، بل لقد خسرنا ربع ثمن بطاقات الطائرة لبعثة تحقيق كان من المفترض أن تأتي إلى السودان قبل ثلاث سنوات من اليوم لاعتذار السفارة عن تقديم تأشيرات الدخول بعد كل التطمينات والتأكيدات بأن تأشيرة جماعية ستصل بحكم المؤكد يوم ذاك. كذلك أضعنا من الوقت والجهد الكثير حتى بدأنا نشعر بوجود آذان صاغية لضرورة التعامل مع المنظمات غير الحكومية ذات المصداقية بشكل مختلف. وأنتم تعلمون أننا في اللجنة العربية لحقوق الإنسان والمكتب الدولي للجمعيات الإنسانية والخيرية أصدقاء الشعب السوداني. لذلك نحن نعاتب الذين حالوا دون وصولنا إلى دارفور. وإن كنت قد زرت السودان من أجل سامي الحاج وإخوته في غوانتانامو في 2008، فهاهو سامي نفسه يفتح لنا الباب لنلتقي في الفاشر اليوم. فشكرا له ولقسم حقوق الإنسان والحريات العامة في قناة الجزيرة، شكرا لكل الإخوة والأخوات في السودان الذين بذلوا جهدا كبيرا لإنجاح هذا الملتقى.
لم نطلب ونرغب في الحضور إلى دارفور لتسجيل المواقف أو ادعاء الحضور في الميدان لمنطقة منكوبة أو ساحة صراع، فما من نداءء توجه لنا إلا واستجبنا، والمناطق الوحيدة التي لم نكن فيها صدتنا أجهزة أمنها على الحدود، هي منعتنا أما نحن فحاولنا دائما أن نكون مع الضحايا. لكن بالنسبة لدارفور لدينا قناعتين أساسيتين الأولى: كنا وما زلنا نعتقد أن الرهان الجيوسياسي والاستراتيجي والاقتصادي حول هذه البقعة من السودان لا تقل في أهميتها عن كل عوامل الصراع الدامي الذي أوقع ضحايا أبرياء وخلق شرخا عميقا بين مواطني البلد الواحد، وهو الذي يعطي مقومات الحياة لبعض عناصر السلاح. ونعتقد ثانيا بنفس الوقت، أن حقوق الإنسان والحريات الأساسية هي المحرك الأساسي لأي حل في دارفور، حقوق الإنسان بالمعنى الشامل، أي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية. لا يقتصر دور هذه الحقوق على بعثات التحقيق والتقارير ودراسة الأوضاع بل إعطاء الإجابة على التساؤلات الوجودية وبكل قوة من أجل الخروج من المأساة الدارفورية. كلنا يعلم بوجود أمثلة توقف فيها الصراع المسلح مثل سيريلانكا بالهزيمة العسكرية للفصائل المسلحة غير الحكومية، ولكن الجرح ما زال باقيا والتنمية غائبة والجوع مازال والنازحين مشاكلهم تتفاقم. لماذا؟ لأن هناك نظرة أمنية استئصالية تقوم على فكرة خطيرة تقول إذا تخلصنا من الآخر تحل المشاكل.
في عام 2000، صدر الجزء الأول من موسوعة الإمعان في حقوق الإنسان، وكانت مادة حق تقرير المصير مترجمة عن الشاعر المصري جورج حنين عن مداخلته في الموسوعة السياسية المختصرة لعام 1968. وقد سألني أحد الأصدقاء يومذاك: “لماذا اخترت مقالة تعود لأكثر من ثلاثين عاما، أليس لديك من جديد تقوله في موضوع كتبت فيه مرارا”، فأجبته: لأن في هذه المقالة نبوءة مخيفة، يقول جورج حنين: “في كل مرة لا تقع معالم الأمة القادمة في ظرف عالمي مقبول من قبل “إخوتها الكبار”، فإن حق تقرير المصير يبدو وكأنه يلعب دور محرك القلاقل الإنفصالية، وهو دور مدان سلفا لأن المخاطر الذي يحملها في إطار محدود يمكن أن تجول العالم بأسره إذا ما ضمن الإنفصاليون غياب العقوبة. والولايات المتحدة لا تجهل معنى ذلك وهي الدولة التي عاشت كربة الحرب الأهلية التي عوقب فيها الجنوب بقسوة من قبل الشمال لرغبته “في تقرير مصيره”. الأمر الذي يجعل هويس قناة حق تقرير المصير لا يفتح إلا بعد اتخاذ احتياطات معينة، هل نفتح الباب على مصراعيه لنرى دولا تتفكك( العراق والسودان هما أكبر البلدان تعرضا للخطر..)”..ا.هـ .
السودان قارة في ذاته، يملك الثروات الأساسية للغنى (النفط والماء والأرض والإنسان) والأرضية التحتية للتنمية المستدامة السريعة والناجحة. أي القدرة على وجود دولة ذات سيادة وشعب يتمتع بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية الضرورية للإنتماء إلى القرن الواحد والعشرين. لكن لعل هذه الإيجابيات المؤكدة في البحث العلمي وعلى الورق هي التي تخيف القوى الكبرى التي تسعى لاستمرار النظام الدولي السائد بتطوره غير المتكافئ وتقسيمه غير العادل لكوكبنا وحرصه على استمرار الهيمنة.
طالب السيد فريديريكو مايور، الأمين العام السابق لليونسكو في فترة ولايته بمفهوم جديد للأمن ينتزع منه الثوب العسكري الذي لبسه طوال فترة الحرب الباردة، لاستبداله بمفهوم ديمقراطي وتنموي شامل وجديد، لكن مراكز القرار الدولية الجديدة كانت تعتبر سقوط جدار برلين وحلف وارسو فرصة لإعادة رسم خريطة الهيمنة الدولية. وهكذا بدأنا نشهد الحروب بين أطراف مسلولة وأطراف متخمة بالتسليح الحديث (القوات الأمريكية- إمارة طالبان، القوات الأمريكية والبريطانية- الجيش العراقي، القوات الإسرائيلية في لبنان وغزة..). لم يعد الحديث عن نزع السلاح مهمة دولية شاملة، فهناك أطراف لا يجوز طرح تسليحها على طاولة البحث وأخرى مصدر الشر لمجرد تفكيرها بالتسلح. هناك من هو ثقة وناضج ومن هو شرير وقاصر.. في وضع كهذا لا فرق بين تسمية أي طرف مسلح مقاوما أو إرهابيا، فقد فقدت المفاهيم دلالاتها وصار أي فصيل مسلح يكتسب تعريفه من قوة وجوده ومن الموقع الذي يختاره على رقعة الشطرنج الدولية.. لا شك بأننا في حقبة غياب القيم والمعايير المشتركة، سواء تعلق الأمر بعقد دولي يعطي حقوق الإنسان قراءة واحدة أو صيرورة القضاء الدولي عدالة واحدة للجميع.
في هذا العالم يجتاز السودان أزمات وجودية. ولأنها كذلك، فهي تتطلب مواقف كبيرة ورؤيا عميقة وبعد نظر في إبصار معالم للطريق. وتتطلب قبل كل شئ القدرة الذاتية على التفكير المشترك والجماعي، أي رفض فكرة الإبعاد لأي طرف. لقد حاول بينوشيه بناء اقتصاد ليبرالي ناجح بدون ديمقراطية فتخلص الشعب من إنموذجه البائس، وحاول كاسترو بناء اقتصادي اشتراكي بدون حريات فحاصر شعبه من الداخل والخارج.. وللأسف الشديد فإن مشكلات السودان أخطر بكثير مما واجه الرجلان، وهي تحتاج لكل القوى المخلصة لإخراج البلد من حقول الألغام الموجودة فيه. تحتاج لعلاقات ديمقراطية بين الحاكم والمحكوم ولقدرة على الحوار تتجاوز الذات الحزبية. ليست الديمقراطية وصفة سحرية ولكنها تضع حدا للاستعصاءات الراهنة أمام تفاعل مثلث العدالة والتنمية المستدامة والسلام الأهلي، هذه الثلاثية الضرورية لتجاوز الحرب والظلم والتخلف.
سيأتيكم في كل يوم من يمدحكم ويخبركم بأن كل شئ على ما يرام، وسيتعيش من رجمكم بكل النعوت من اختار القراءة الأمريكية الإسرائيلية لمستقبل السودان، لكن وحده النقد الحريص على تجاوز الوضع، النقد البناء الذي يضع نصب عينيه مستقبل الشعب السوداني، كفيل بأن لا تتحول البثرة إلى خراج والخراج إلى تسمم عام لكامل الجسد.. لذا نريد أن نكون صادقين معكم ومع ضمائرنا، حتى لا يقال يوما بأننا كنا مجرد شهود زور مع هذا المعسكر أو ذاك.