مارس 28, 2024

جريمة الرجم بين الفقه والتاريخ وحقوق الإنسان

في القرن الثامن عشر، وفي انطلاقة الدفاع عن سلامة النفس والجسد في أوربة، نشأ تحالف بين داعية حنبلي من آل شيخ ومحمد بن سعود على قاعدة الدم بالدم والهدم بالدم باستعارة جملة محمد بن عبد الوهاب نفسه. وكما يقول مؤرخو الوهابية، فقد أنكر ابن عبد الوهاب الشرك والبدع، و”أمر الناس بالمعروف، وألزمهم به بالقوة فمن أبى المعروف الذي أوجبه الله عليه، ألزم به وعزر عليه إذا تركه ونهى الناس عن المنكرات، وزجرهم عنها، وأقام حدودها. مثل قتل الساحر وجلد المخمور وقطع يد السارق ورجم الزاني المحصن”. كان يمكن لهذه المدرسة أن تخمد في جزيرة العرب، إلا أن الحرب المقدسة التي خاضتها قامت بدور تاريخي يذكر لها هو توحيد الجزيرة العربية. ثم جاءت الثروة النفطية لتجعل منها إيديولوجية محافظة ضرورية للتصدير لمواجهة المد التقدمي في العالمين العربي والإسلامي وبأموال الجراد الأسود.

حملت الوهابية كل العفش الحنبلي الذي كثّفه ابن تيمية في فتاوى التكفير المأثورة عنه وإغلاق أبواب التجديد والاجتهاد في الإسلام. وكون الحرب الإيديولوجية بين الوهابية والجعفرية وفقهاء الدولة العثمانية كانت على أشدها، فقد تحول المسلم إلى رهينة بينهم، وأصبح القانون الجنائي الإسلامي مادة مزاودة بين الفقهاء. فحتى اليوم تطبق العقوبات الجسدية في إيران والسعودية بوتيرة لم تعرفها الحقبة الراشدية أو العباسية أو الأيوبية. وكما أدارت أوربة ظهرها لعصر التنوير العربي-الإسلامي وآثرت ظلمات الكنيسة في القرون الوسطى، وقفت السلفية، بكل تعبيراتها، بحزم، في وجه عصر التنوير الأوربي. فأصرت على العقوبات الجسدية والرجم والإكراه في العبادات والشعائر في مخالفة ليس فقط لروح العصر، وإنما أيضا وقبل كل شيء، لروح الإسلام والقرآن الكريم. ولم تنج حركة الإخوان المسلمين من هذه المقاربة التقليدية. فحتى اليوم، وبعد 56 عاما على إعدام عبد القادر عوده، ما زال كتابه “التشريع الجنائي في الإسلام” غير قابل للمس عند أتباعها، رغم أن أكثر من دراسة بينت استشهاد الكاتب بالإئمة الأربعة أكثر من استشهاده بالقرآن والحديث، وأن مقاربته لا تعني وحسب تجميد وتثبيت فكرة القانون الجنائي وجعله غير قابل للتطوير والتأقلم مع إشكاليات الزمان والمكان، بل تعني الدفاع عن منظومة “إهدار الشخص” في مجتمع بشري يناضل لحمايته، فلا نستغرب من سعيد حوى أن يعتبر أن الفرادة الإسلامية تقوم على  نظام “إهدار الأشخاص” ويقدم سبعة نماذج للمهدورين منها الزاني المحصن (الإسلام، ص591).

حملت المدارس القانونية العربية قراءات جديدة للعقوبات الجنائية مستفيدة من التشريعات الغربية والتراث القانوني العربي الإسلامي، وقد تبعت الأقطار المستقلة عن الدولة العثمانية قرار الدولة العثمانية بإلغاء العقوبات الجسدية من قانون العقوبات عام 1858، وبعدها نص دستور 1878 على إلغاء التعذيب في المادة 26.  وقد أكد عدد من المثقفين العرب والمسلمين على تبني مبدأ سلامة النفس والجسد كحق إنساني أساسي، منهم للمثل لا للحصر عبد الرحمن الكواكبي وجميل صدقي الزهاوي وعبد الرزاق السنهوري ومحمد مندور ومحمود عزمي وطه حسين وعلي عبد الرازق وعلي الوردي والطاهر حداد ومحمود محمد طه والشيخ عبد الله العلايلي، وقد أصدر الأخير في 1978 كتابه (أين الخطأ !) يؤكد فيه بأن لا رجم في الإسلام أصلا.

ما من عقوبة جنائية حوت من التناقض والفوضى والاضطراب ما نجد في عقوبة الرجم في الإسلام. هذه العقوبة التي تستعاد حسب الطلب في الرياض أو طهران أو الأراضي التي يسيطر عليها الطالبان ومنظمة الشباب المجاهدين وغيرهم ممن يختزل الإسلام في البتر والجلد والرجم. ولعل قصة الشيخ محمد أبو زهرة والرجم من أبلغ ما يعبر عن التناقض الداخلي في المنطق الفقهي السائد.

يقول الشيخ يوسف القرضاوي في مذكراته عند حديثه عن مؤتمر ندوة التشريع الإسلامي المنعقدة في مدينة البيضاء في ليبيا عام (1972):

“في هذه الندوة فجر الشيخ أبو زهرة قنبلة فقهية، هيجت عليه أعضاء المؤتمر، حينما فاجأهم برأيه الجديد.

وقصة ذلك: أن الشيخ رحمه الله وقف في المؤتمر، وقال: إني كتمت رأيًا فقهيًّا في نفسي من عشرين سنة، وكنت قد بحت به للدكتور عبد العزيز عامر، واستشهد به قائلا: أليس كذلك يا دكتور عبد العزيز? قال: بلى. وآن لي أن أبوح بما كتمته، قبل أن ألقى الله تعالى، ويسألني: لماذا كتمت ما لديك من علم، ولم تبينه للناس؟ هذا الرأي يتعلق بقضية “الرجم” للمحصن في حد الزنى، فرأى أن الرجم كان شريعة يهودية، أقرها الرسول في أول الأمر، ثم نسخت بحد الجلد في سورة النور.  قال الشيخ: ولي على ذلك أدلة ثلاثة:

الأول : أن الله تعالى قال: “فإذا أُحصِنَّ فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب” [النساء: 25، والرجم عقوبة لا تتنصف، فثبت أن العذاب في الآية هو المذكور في سورة النور: ” وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين” [النور: 2.

والثاني: ما رواه البخاري في جامعه الصحيح عن عبد الله بن أوفى أنه سئل عن الرجم.. هل كان بعد سورة النور أم قبلها? فقال: لا أدري. فمن المحتمل جدًّا أن تكون عقوبة الرجم قبل نزول آية النور التي نسختها

الثالث:
أن الحديث الذي اعتمدوا عليه، وقالوا: إنه كان قرآنًا ثم نسخت تلاوته وبقي حكمه أمر لا يقره العقل، لماذا تنسخ التلاوة والحكم باق؟  وما قيل: إنه كان في صحيفته فجاءت الداجن وأكلتها لا يقبله منطق. وما إن انتهى الشيخ من كلامه حتى ثار عليه أغلب الحضور، وقام من قام منهم، ورد عليه بما هو مذكور في كتب الفقه حول هذه الأدلة. ولكن الشيخ ثبت على رأيه. ثم قال القرضاوي أنه لقيه بعد انفضاض الجلسة، وقال له : يا مولانا، عندي رأي قريب من رأيك، ولكنه أدنى إلى القبول منه. قال: وما هو؟ قلت: جاء في الحديث الصحيح : “البكر بالبكر: جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب: جلد مائة، ورجم بالحجارة”.

قال: وماذا تأخذ من هذا الحديث؟ قلت: تعلم فضيلتك أن الحنفية قالوا في الشطر الأول من الحديث: الحد هو الجلد، أما التغريب أو النفي، فهو سياسة وتعزير، موكول إلى رأي الإمام، ولكنه ليس لازمًا في كل حال. (معنى ذلك أن للحنفية وهم أحد مذاهب أهل السنة الأربعة رأي في رجم الزناة يخالف رأي بقية المذاهب- الكاتب)

ولكن الشيخ لم يوافق على رأيي هذا، وقال لي: يا يوسف، هل معقول أن محمد بن عبد الله الرحمة المهداة يرمي الناس بالحجارة حتى الموت؟ توقفت طويلا عند قول الشيخ أبي زهرة عن رأيه: أنه كتمه في نفسه عشرين عاما، لماذا كتمه، ولم يعلنه في درس أو محاضرة أو كتاب أو مقالة؟ لقد فعل ذلك خشية هياج العامة عليه، وتوجيه سهام التشهير والتجريح إليه، كما حدث له في هذه الندوة. وقلت في نفسي: كم من آراء واجتهادات جديدة وجريئة تبقى حبيسة في صدور أصحابها، حتى تموت معهم، ولم يسمع بها أحد، ولم ينقلها أحد عنهم”!!  (انتهى الاستشهاد بالقرضاوي).

هل أدل من هذه القصة على الإرهاب الفكري الذي يعيشه المجتمع والمثقف بل وعلماء الدين؟

لمحة من التاريخ

تعود أقدم الأحاديث عن الرجم إلى موطأ الإمام مالك، فقد جاء في رواية محمد بن الحسن الشيباني بتعليق وتحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف تحت عنوان باب الرجم ورقم 693 الحديث التالي  : اخبرنا مالك، حدثنا يحيى بن سعيد انه سمع سعيد بن المسيب يقول : لما صدر عمر بن الخطاب من منى اناخ بالابطح، ثم كوم كومة من بطحاء، ثم طرح عليها ثوبه، ثم استلقي ومد يده الي السماء، فقال: اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فأقبضني اليك غير مضيع ولا مفرط، ثم قدم المدينة، فخطب الناس، فقال: يا أيها الناس: قد سننت لكم السنن وفرضت لكم الفرائض وتركتم علي الواضحة، وصفق بأحدى يديه على الأخرى، إلا ان لا تضلوا بالناس يمينا وشمالا، ثم إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم، أن يقول قائل: لا نجد حدين في كتاب الله، فقد رجم الرسول(ص) ورجمنا، وإني والذي نفسي بيده: لولا أن يقول الناس زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله لكتبتها: “الشيخ والشيخة اذا زنيا فارجموهما البتة ، فانا قد قرأناها، قال سعيد: فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل عمر انتهى الاستشهاد،  ص 241 من موطأ مالك. ط2. المكتبة العلمية.

الراوي الأصل لهذا الحديث هو سعيد بن المسيب الذي يقول أن عمر بن الخطاب خطب فيهم يؤكد وجود عقوبة الرجم فى القرآن الكريم في آية تم حذفها. ولكن سعيد بن المسيب كان عمره عامين فقط حين قتل عمر بن الخطاب، فكيف يروي طفل يحبو عن عمر بن الخطاب .

لم تنجح أحاديث الموطأ بعد موت الإمام مالك سنة 197 هـ في اقناع المنكرين لحد الرجم مما حمل الإمام البخاري المتوفي سنة 256 هـ على أن يأتي برواية أخرى تقول أن الشيباني سأل عبد الله بن أبي أوفى وهو من الصحابة المتأخرين  هل رجم رسول الله ؟ قال: نعم، قلت: قبل سورة النور أم بعد ؟ قال : لا أدري (الجزء الثامن ص 204) وجاء الإمام مسلم بنفس الرواية في اسنادين مختلفين. وما يرويه الشيعة الإثني عشرية من أحاديث نبوية أو أقوال للإمام علي ليس أكثر توثيقا ودقة. والذي حدث هو إضافة جمع من القصص والأحاديث في نصف قرن مما لم يكن معروفا، لجعل الرواية الأرثذوكسية عند أهل السنة والشيعة أكثر تماسكا.

أوقفوا الرجم

الرجم في رأينا هو الجريمة الخطأ في القضاء المتأزم الخطأ، في المكان والزمان الخطأ باسم دين عادل وبحق إنسان مكرّم. والمشكلة أننا في تناولنا لهذا الموضوع ننحدر دائما إلى دون مستوى التاريخ ودون مستوى النقد، لأن الخوارج والمعتزلة بل والحنفية لم يجدوا سندا دينيا لعقوبة الرجم ورفضوها، وما زلنا أسرى اليمين المتطرف الإسلامي الذي يقول بها اعتمادا على حكم توراتي تسلل للفقه الإسلامي. المؤرخ الحنبلي ابن الجوزي  في كتابه “المنتظم في تاريخ الملوك والأمم” وفي 18 جزءا ليس لديه أثر واحد لعقوبة الرجم في روايات التاريخ العباسي. والقصة الوحيدة هي حادثة زنى يهودي بمسلمة محصنة في عام 336 هجري قام صاحب الشرطة بضرب اليهودي عقابا له؟ (ج13).

وقد اعترف الوفد السعودي للمنتدى الإسلامي العالمي للحوار بأنه “لا يوجد إلا قرابة أربعة عشر حالة رجم في أربعة عشر قرنا من الإسلام”، فكيف تحولت الآية وأصبحت هذه الحالات بالعشرات بل بالمئات في الدول الإسلامية المعاصرة ؟ وفي حين اعتبر الدكتور حسن الترابي منذ 2007 عقوبة الرجم غير شرعية في الإسلام. طالب الجامعي الإسلامي طارق رمضان بتعليق العقوبات الجسدية في الدول الإسلامية. ويطالب اليوم عدد كبير من الباحثين الإسلاميين بفقه مقاصد معاصر، أي أن تكون الأحكام على ضوء المقاصد والعواقب وليس على الأشكال والصور، منسجمة مع مفهوم الكرامة الإنسانية في القرآن والشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وباستعارة تعبير العلايلي، بغاياتها لا بحرفيتها.

لم تبدأ معركة التصدي لجريمة الرجم بالأمس، أو مع الموقف الأوربي والغربي من سكينة اشتياني. بالتأكيد، فتحت قضية سكينة الإيرانية هذا الملف دوليا لأغراض متعددة وغير بريئة بالضرورة، ولكن في وقت نلاحظ فيه تشنجا وجمودا في نقاش العقوبات الجسدية والتعذيب في العالمين العربي والإسلامي لا غضاضة في أن يصر المصلحون والديمقراطيون على عدم إغلاق الملف لمجرد وجود طفيليات إعلامية وسياسية تحولت لمواقع الدفاع عن حقوق المرأة. فمن المثير للسخط، أن الحركة الإسلامية الشكلية التي تعتمد التفسير الحرفي والضيق للآيات والطابع المقدس لسلوك الصحابة أو الأئمة أو آل البيت، هذه الحركة تتصاعد على حساب خطاب إصلاحي وتنويري ومدني بدأ يتعزز ويقوى في المجتمعات الإسلامية بل ويؤثر بالحركات الإسلامية نفسها. ففي عام 2002 أصدر رئيس السلطة القضائية في الجمهورية الإسلامية في إيران قرارا بحظر عقوبة الرجم. وبعد نجاح أحمدي نجاد في الإنتخابات لاحظت منظمات حقوق الإنسان مطالبات من المحافظين بتطبيق العقوبة من جديد وتأكدت من ذلك مرة في 2006، الأمر الذي دعا الحقوقيات والحقوقيون الإيرانيون لإطلاق حملة “أوقفوا الرجم إلى الأبد”. وقد ساهمت الحملة في إنقاذ أربع نساء ورجل واحد من الرجم. ويمكن القول أن قضية الرجم في إيران تشكل إحدى موضوعات الصراع بين الإتجاه المتزمت والإتجاه الإصلاحي. إلا أن جغرافية مناهضة العقوبات الجسدية وجريمتي الإعدام والرجم مازالت ضعيفة جدا في العالمين العربي والإسلامي. ولا شك بأن توظيف المقدس لاستمرار عقوبات تنال من حق الحياة والسلامة البدنية والنفسية للإشخاص، يؤخر ظهور رأي عام قوي يطالب بإلغاء العقوبات الجسدية، وليس لدينا أدنى شك، بأن معركة كهذه، لا يمكن تجنبها أو تركها على غاربها، لأن التطرف الإسلامي يجعل منها التعبير الرمزي الأساس لتطبيق الشريعة الإسلامية، وما علينا إلا أن نتذكر الجنرال ضياء الحق والجنرال النميري والجنرال البشير وغيرهم، ممن تحولوا بقدرة قادر من رموز دكتاتورية إلى أمراء للمسلمين بمجرد تطبيقهم التعسفي والاعتباطي، للعقوبات الجسدية.

09-09-2010