الدولة المدنية أم الدولة الأمنية ؟ مشاريع التغيير بين امتيازات الحاكم وطموحات المحكوم
اسمحوا لي أولا أن أشكر “ملتقى عمان لمنظمات المجتمع المدني المناهضة للهيمنة” مرتين:
الأولى على هذه المبادرة الهامة والدعوة الكريمة التي حال دون وجودي معكم التزام تعهدت به قبلا لمراقبة الانتخابات الرئاسية في فنزويلا ويحضر عني مشكورا صديقي ناصر الغزالي.
الثانية: لاختياركم لمداخلتي موضوعا يدور حول كلمتين غير مستوردتين بالمعنى الذي نتحدث بهما فيه. فالدولة الأمنية برأيي هي إحدى المقومات الأساسية لمنظومة السلطة التسلطية العربية بتعبيراتها المختلفة. جمهورية أو جماهيرية، ملكية أو جملكية. أما الدولة المدنية، بالمعنى الذي ندافع عنه كحقوقيين وديمقراطيين، فهي دولة السلم الأهلي والاستقطاب المجتمعي، الدولة القادرة على إعادة المجتمع للفعل السياسي والشأن العام، الدولة التي ترفض بطبيعتها احتكار السلطة أو استئصال الآخر. أي التي تقرأ في مدنية الدولة علمانية أحزاب سياسية والطابع الديني لأحزاب أخرى بآن، البصمات المنيرة في الماضي وإبداعات الحاضر، بكلمة الرد الأكثر تماسكا بالمعنى التاريخي والعقلاني ليس فقط على الدولة الأمنية وإنما على تحديات الحقبة التي نعيش. وفي الحالتين، نحن أمام عملية استنباط ضرورية لتعاريف محلية غير مستوردة أحدها تعبير عن واقع بائس قائم والثاني طموح غير مستحيل، ممكن التحقيق للخروج من المستنقع الراكد الراهن.
في الدولة الأمنية
انتقلت فكرة الدولة الحديثة بالحكم من المطلق إلى النسبي ومن حقوق الكنيسة والملوك إلى حقوق الأشخاص وبناء المؤسسات. إلا أن هذه النسبية نفسها هي التي جعلتها تحمل في سويدائها فكرة الأمن إلى جانب فكرة السيادة ومبدأ الضرورة إلى جانب العقد الاجتماعي والاستثناء الضروري لحماية الدولة في الأزمات. لذا لا يستغرب في هذا المزيج المتناقض أن لا تكون دولة القانون وحدها وليدة الأنموذج الأوربي بل الدولة الشمولية أيضا. ولا شك بأن إعادة نسخ حتى لا نقول مسخ هذه الدولة عربيا، في ظروف غير تاريخية، وأوضاع تبعية سياسية واقتصادية، وتكوينات مفصلة حسب اقتراحات موظفين في الإدارة الاستعمارية، قد وفر مجتمعا الأرضية الصالحة للجنوح الشمولي والتسلطي باسم التحرر الوطني حينا، الوحدة القومية أو الاشتراكية أحيانا أخرى. في حين لم تحتج النظم الملكية التقليدية لأي غطاء ثوري تبرر به بناء ترسانة قمعها الداخلية اللهم إلا الحديث عن حماية المجتمع والدين والتقاليد من غزو الآخر الشرير بالضرورة.
وسواء كان مثلنا في المملكتين الأكبر (السعودية والمغرب) أو الجمهوريات الإيديولوجية (مصر وسورية والعراق) فقد شهدت الستينيات بلورة متدرجة لما يمكن تسميته الدولة التسلطية الأمنية عبر إجراءات مشتركة رغم اختلاف البرنامج السياسي والقوى الاجتماعية الحاملة له
– تعززت فكرة التجمع المصلحي الحاكم باستعارة تعبير ماكس فيبر الذي يركز القرارات في يد “مجموعة ثقة” بالمعنى العصبي الخلدوني للكلمة (سواء كان الانتماء للعائلة أو المصاهرة أو الطائفة أو المنطقة الجغرافية أو الشلة العسكرية الأمنية بحيث تحل العلاقة العضوية للولاء مكان الكفاءة والعلاقة المدنية. مع مركزة القرار في يد شخص واحد ملكا كان أم رئيسا.
– إضعاف مؤسسات الدولة وضرب فكرة فصل السلطات. حيث من الضروري أن يرضخ المواطن لمبدأ السلطان والرعية لا أن يخوض في منطق الدولة الراعية للمواطنة، أن يتعزز لديه فكرة الواجب والطاعة لا فكرة الحق والمبادرة والمشاركة. بحيث تصبح ثقافة الخوف جزءا من فكرة جهنمية محصلتها إبعاد الناس عن قضايا المجتمع والحياة باعتبار هذا الابتعاد الترهيبي والقسري يشكل عنصر أمان للحاكم واطمئنان عند المحكوم.
– إلغاء واقعة السلطة الرابعة باعتبار الإعلام، كالعنف، موضوع يحتكره الحاكم
– محاصرة فرص تشكل منظمات أهلية في المجتمع عبر قيود قانونية وأمنية ومضايقات منهجية وعند نشوء هذه الظاهرة تحويل المنظمات الشعبية لأقمار تدور في فلك الحزب القائد أو المجموعة الحاكمة
– تشكيل وحدات خاصة في الجيش والأمن مهمتها ضمان استمرار الأوضاع وأخيرا،
– تنظيم عملية صناعة النخب المسموح لها بممارسة السلطة.
بناء الأسس المادية للدولة الأمنية يعني دخول ما يمكن تسميته “الأمن السياسي” كعنصر أساسي في صناعة السياسة الداخلية وتحديد الخيارات الاقتصادية والاجتماعية وبناء شبكة التحالفات والعداوات الإقليمية والدولية والإمساك بكل مفاصل الكلمتين الأكثر محورية في الفضاء الأمني: الفساد والاستبداد.
الأمن السياسي
الدولة الأمنية تحكمها أجهزة الأمن، الشرطة، والأمن المركزي، ومباحث أمن الدولة، والمخابرات العامة، باسم الأمن القومى أو الأمن الاجتماعي أو النظام العام. هي عملية اختزال للدولة في سلطة التسلط وصيرورة التجمع المصلحي الحاكم مصدر السلطات ومنظم حياة البشر من مؤسسات إدارة الدولة، والمجالس النيابية، والقضاء، والجامعات، والنقابات، والاتحادات، والجمعيات الأهلية، والصحافة الحكومية بل والمعارضة، والمسيرات السلمية، وكل تعبير حر عن الرأى أو تحرك شعبى لمطالبة بحق. في “كنت وحيدا في القرية” كتب الشاعر المصري حسن طلب في هذه الدولة يقول:
والدولة ـ تلك القاصر ـ
تفتك بالحشرات نهاراً
وتعود إذا جُنَّ الليل فتحتضن اليرقة
لتداهمنا في الصبح عقولٌ نافقةٌ
وجلود دبقة
في الصحف السيارة أقلام بلحي وجلابيب
وفي التلفزيون غرابيبُ ومرتزقة…..”
هناك تكثيف هام للباحث حسن حنفي لما نسميه انبثاق الأمن السياسي في الدولة الأمنية حين يقول: “يعنى الأمن فى الدولة الأمنية أمن النظام وليس الأمن القومى، الأمن السياسى وليس الأمن الاقتصادى، أمن الحكم وليس أمن البلاد. الأمن هو الذى أجّل عودة العلاقات بين مصر وإيران، بالرغم مما يفرضه الأمن القومى فى مصر بعودة العلاقات فى مواجهة الكيان الصهيونى والهجمة الجديدة من الاستعمار على الوطن العربى من القطب الأوحد فى العالم. وهو الذى فرض السلام المنفرد مع إسرائيل، والتبعية للولايات المتحدة الأمريكية، والتخفف من المسئوليات القومية تجاه فلسطين والعراق، والتحلل من التضامن الإسلامى مع أفغانستان والشيشان وكشمير. وغياب الأمن فى الداخل يذهب الأمن فى الخارج كما صور فيلم الكرنك تعذيب فى السجون بالسياط داخل المعتقلات، وقصف لمطارات مصر بطائرات العدو الإسرائيلى يوم 5 يونيو حزيران 1967. هو الأمن عن طريق عصا الأمن المركزى، والقنابل المسيلة للدموع فى أيدى الشرطة. وعربات الأمن المركزى التى تحصد بآلاف المصلين فى المساجد الكبرى قبل الصلاة وبعدها، والأخذ بالشبهات عن طريق الضربات الوقائية. وهى حجة إسرائيل فى العدوان على العرب فى حروبها الأخيرة.
وكان الشعار من قبل الشرطة فى خدمة الشعب وفى الواقع أصبح الشعب فى خدمة الشرطة. ثم تحول إلى الشرطة والشعب فى خدمة القانون، وفى الواقع أصبح الشعب والشرطة فى خدمة السلطة”.
الدولة الأمنية لها زعرانها وبلطجيتها ومنظماتها وأحزابها وصحافتها وإشاعاتها ووسائل تشويهها لصورة المواطن. وقد تعايشت الدولة الأمنية مع كل تقاليد المافيا ودفع الخوة والتطفل على النشاط الاقتصادي. إضافة إلى إدخالها تقليد الخطف السياسي لمعارضيها كما فعلت ليبيا والسعودية مثلا، أو إحياء أمجاد الاغتيال السياسي كما أبدعت به سورية والعراق، وأخيرا انتاج المنظمات المسلحة الصغيرة التي تقوم بكل الأعمال الخسيسة التي يمكن أن يحاسب عليها رموز الدولة الأمنية خارج حدودها.. منظمات للابتزاز والتحذير والترهيب والترغيب والتشويش وخلط الأوراق والصفقات غير المباشرة والمباشرة وتحويل الفساد من ظاهرة إلى منظومة (system).
التدخل الأمني في شؤون الناس يتجاوز مخيلة الشعراء. فرغم كل جهود بحاثة المعارضة السورية، بما فيهم كاتب الأسطر هذه، لرصد ما يراقب ويصادر من حقوق البشر، نشرت جريدة الثورة السورية، يوم الثلاثاء 10/5/2005، على صدر صفحتها الأولى خبراً عنوانه: إلغاء 67 حالة من الموافقة الأمنية المسبقة ، نورده كاملا لتلخيصه العقلية التفصيلية للسلطة الأمنية فيمل يتجاوز مخيلة الأديب والباحث:
علمت “الثورة” أنه تم إلغاء الموافقة الأمنية المسبقة بشأن 67 حالة وفيما يلي قائمة تفصيلية بهذه الحالات.
1- منح تراخيص منشآت ومعامل، مطاعم، محال عامة للرعايا العرب والأجانب.
2- مواضيع مزاولة مهنة الطب البشري والصيدلة والتدريس للرعايا العرب والأجانب ضمن أراضي القطر.
3- البت في نقل أثاث منازل السوريين والعرب والأجانب المقيمين في القطر إلى خارجه.
4- تسجيل الطلبة العرب الفلسطينيين غير المسجلين في عداد اللاجئين بالقطر في الجامعات والمعاهد السورية, وعند تخرجهم الموافقة على سحب وثائق التخرج.
5- فقدان وثائق السفر للعرب والأجانب ضمن القطر, حيث تتم الموافقة على السفر بموجب وثائق سفر مؤقتة صادرة عن سفارة بلدهم في القطر.
6- منح سمات مرور عبر أراضي القطر إلى البلدان المجاورة للرعايا العرب والأجانب إضافة إلى نقل جثمان متوفى لدفنه في مقابر القطر أو مرورا بأراضيه إلى البلدان المجاورة.
7- مواضيع السماح لمندوبي السفارات العربية والأجنبية المعتمدة بالقطر لزيارة رعاياهم الموقوفين في سجن عدرا المركزي, وكذلك الاستفسار عن بعض الأشخاص المفقودين من رعاياهم.
8- إجابة انتربول دمشق بالموافقة أو عدمها على تزويد مكاتب الانتربول العالمية فيما تطلبه حول بعض الأشخاص المطلوبين بقضايا مختلفة.
9- إجابة إدارة المخدرات بالموافقة أو عدمها على تزويد مكاتب الانتربول العالمية بالمعلومات عن بعض المتورطين بجرائم مخدرات.
10- التثبيت أو النقل أو الندب أو التعاقد لدى جميع جهات القطاع العام.
11- الإعادة للعمل بعد انتهاء إجازة الاستيداع واعتبار الشخص بحكم المستقيل والغياب, ما لم يكن الشخص موقوفا أو مكفوف اليد قبل الإعادة إلى العمل.
12- قبول الطلاب بالجامعات والمعاهد المتوسطة ومدارس التمريض.
13- التكليف بتدريس ساعات من خارج الملاك في محافظتي دمشق وريف دمشق.
14- وضع الطلاب تحت الإشراف للدراسة خارج القطر.
15- الإيفاد الداخلي والخارجي والاستفادة من المقاعد الدراسية في بعض البلدان العربية والأجنبية.
16- منح إذن بالإقامة خارج القطر بقصد الإقامة أو الزيارة لأسر العسكريين أو الموظفين المتوفين.
17- الإعفاء من رسم الخروج إلى تركيا للمواطنين السوريين من أصل لوائي لزيارة أقاربهم هناك.
18- معاملات منح إجازات سوق عامة بدلا من خاصة للرعايا العرب والأجانب ومن في حكمهم.
19- إعادة ارتباط بعض المفصولين من صفوف الحزب لدى فرع جامعة دمشق.
20- الموافقة على إقامة الندوات الطبية والدعائية للتعريف بمنتجات الشركات.
21- تأسيس الجمعيات السكنية. 22- تثبيت أعضاء مجالس إدارة الجمعيات. 23- حضور مؤتمرات اقليمية بالخارج. 24- اقامة معارض فنية او اسواق تجارية وأعراس جماعية سنوية للجمعيات. 25- تعيين مخاتير. 26- تشكيل الهيئات الاختيارية. 27- تعيين مراقب خط سير. 28- تجميع جزارين وعمال وسائقين للحج والعمرة.
29- تشكيل أمناء الأفواج للحجاج بالمحافظات. 30- طباعة النايلون للمنشآت الصناعية والبروشورات واللواصق التجارية للشركات. 31- ترخيص مكتب سياحي للحج والعمرة. 32- الترخيص لمكتب سياحة وسفر. 33- الترخيص لمكتب قطع تذاكر سفر. 34- الترخيص لمكتب عقاري. 35- الترخيص لمكتب بيع وشراء وتأجير سيارات. 36- الترخيص لمكتب تعقيب معاملات. 37- الترخيص لمكتب حوالات مالية. 38- الترخيص لمكتب شحن بضائع. 39- الترخيص لمدرسة تعليم وقيادة وإصلاح المركبات والآليات. 40- الترخيص لمعهد تدريب على الحرف والمهن. 41- الترخيص لجليسات الأطفال. 42- الترخيص لمحل بيع أجهزة بيع أجهزة الخلوي وصيانتها. 43- الترخيص لصالة بلياردو.44- الترخيص لصالة بينغ بونغ. 45- الترخيص لصالة أفراح. 46- الموافقة على منح الترخيص لفندق. 47- الترخيص لألعاب كمبيوتر. 48- الترخيص لمقهى.49- الترخيص لسيرك. 50- الترخيص لاستديو تصوير. 51- الترخيص لمصور جوال. 52- الترخيص لمنشأة صناعية للطباعة على الورق والكرتون. 53- الترخيص لكشك. 54- الترخيص لصالون حلاقة. 55- الترخيص لفيديو سي دي. 56- الترخيص لمطعم. 57- الترخيص لمحل لغاز البوتان. 58- الترخيص لمحل نوفوتيه. 59- الترخيص لمحل عصرونية. 60- الترخيص لمحل بقالة. 61- الترخيص لفرن خبز. 62- الترخيص لفرن صفيحة ومعجنات. 63- الترخيص لمحل مشروبات روحية. 64- الترخيص لاستيراد قطع السيارات الحديثة والمستعملة. 65- الترخيص لمسبح. 66- الترخيص لبيع وشراء وتأجير الدراجات النارية. 67- الترخيص لمحطة محروقات).
هذه الدولة هي التي أقامت كل جدران الفصل بينها وبين المجتمع، التي تعتبر الحوار مع المعارضة ترفا ليست مضطرة له، لم تكتشف من الحداثة إلا أسوأ صورها، أي أدوات القمع الحديثة والرقابة الفائقة وأخيرا القوانين الاستثنائية. لذا لم تطرح التيارات الديمقراطية العربية التغيير من خارجها إلا بعد أن أدخلت جسدها في قوقعة السلحفاة رافضة التفاعل مع الخارج. من هنا صعوبة مهمة الوطني المواطني، أي صاحب هم التغيير خارج الوصاية والهيمنة الخارجية، حيث يجد نفسه في صحراء حقبة قاحلة. من هنا ضرورة ابتكار كل وسائل التعبئة ليكون المجتمع الواسع حاضرا في مشروع التغيير وليس النخب وحسب.
في الدولة المدنية
طموح الدولة المدنية ومشروعها ليس قديما في القاموس العربي. فقد غاب هذا التعبير مثله مثل تعبير المجتمع المدني لأكثر من ستين عاما عن الخطاب السياسي العربي. وقلة من السياسيين من قرأ ترجمة كتاب جون لوك للعربية “في الحكم المدني” الذي صدر عام 1959. ومن السهل أن نجد دراسات وأبحاث عن الدولة الديمقراطية أو الديمقراطية الشعبية أو الليبرالية أو الاشتراكية بل والعلمانية فيما تقل المراجع عند هذا المصطلح. ويمكن القول أن فكرة الدولة المدنية التي دافعت شخصيا عنها لأول مرة في 1996 لمواجهة فكرتين وصلتا إلى حد التنافر والتصادم (الدولة الإسلامية والدولة العلمانية) لم اكتب عنها قبل ذلك. كنت يومئذ عائدا من بعثة تحقيق للجزائر رأيت فيها الدم الأهلي يسيل بين علمانية عسكرية استئصالية تعتبر نفسها أنقذت المجتمع الجزائري من “قيام دولة إسلامية أفغانية” فكانت النتيجة قرابة 200 ألف فقيد. كانت سورية قد عاشت المأساة نفسها بتهميش التيارات المدنية والديمقراطية في الصراع بين الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين وأمن السلطة وقواتها الخاصة. واحتاجت الحركة السياسية المعارضة لأكثر من 15 عاما لتستعيد حقها بالمبادرة. كان الحديث السياسي يخوض في سلام مدريد وأوسلو، في حين نعيش خطر الحرب الأهلية في ثلاث دول عربية على الأقل. الدولة المدنية كما اتفقنا يوم ذاك، وكنا مجموعة من المثقفين الإسلاميين والديمقراطيين، هي وضع الفضاء السياسي خارج القداسة. أي اعتبار أي برنامج سياسي أو مطلب للمجتمع قضية بشرية مختلفة المراجع. الإسلامي يعتبرها من جوهر التزامه الديني والناصري يعتبرها ابنة حركة التحرر في مرحلتها الجديدة الديمقراطية والاجتماعية، والشيوعي يسميها مشاركة للشعب في ممارسة السلطة وصناعة حاضره ومستقبله الخ. المفكرون الإسلاميون يجاهدون فكريا منذ سبعين عاما ضد العصبيات العشائرية والنزعات الطائفية وروح الثأر والعنف المجاني وهي قيم مدنية أساسية. والعلمانيون الديمقراطيون يطالبون بدولة قانون وضمان حرية التجمع والتنظيم والتعبير وضمان حقوق الأشخاص بغض النظر عن جنسهم أو لونهم أو انتمائهم. كرم الإسلام الإنسان دون تحديد وأسس القرآن الكريم لدولة العقد الاجتماعي عندما جعل من أهم صفات المؤمن احترام العهد والأمانة (البقرة 177،المؤمنون 8، والمعارج 32). الديانات السماوية والشرعة الدولية لحقوق الإنسان أسست للمحاسبة في الفساد وفي الجرائم الجسيمة. وكما يذكرنا الياس مرقص، فحين تسقط الذمة (العهد، الدين، القانون، الضمير) يسقط كل شيء, لذا يتابع بالقول: ليكن شعارنا الذمة العامة، الجميع للجميع، الكل للكل، الجميع لكل فرد, حق الناس.. دولة حقوق أساس، شرط الدولة الديمقراطية.
الدولة المدنية هي الانتقال من النموذج الفئوي الطارد لأغلبية مكونات النسيج المجتمعي إلى جعل أية أغلبية عددية أو سياسية قوة جاذبة لباقي مكونات المجتمع. وليست هذه الصفة حالة مثالية بل حالة طبيعية متحققة الوجود في الدول التي تضمن أوليات الحقوق السياسية والمدنية كما هي مقرة في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
الحق في المشاركة والحق في المراقبة والحق في الاحتجاج، هذه الثلاثية تجعل التصورات المختلفة لممارسة السياسة قادرة على التعايش والفعل والدخول كقوة في التاريخ والجغرافيا والخروج من دور البطن الرخو الذي صار سمة الدول العربية بامتياز.
لقد أفقدتنا الدولة الأمنية مفهوم سيادة الأشخاص فغاب عنها مفهوم سيادة الدولة. ولا شك بأن العودة إلى حالة سيادة نسبية متفاعلة وإيجابية مع عالم متداخل تحتاج لسيادة كل شخص وحق كل تجمع بالتعبير عن نفسه في رفض مبدئي للخيانة والتكفير والحظر كوسائل يومية لممارسة عملية تصفية الخصوم. فعودة الأفراد إلى المشاركة في الشأن العام، أي صيرورتهم هوية عاقلة وكيان فاعل وروح إيجابية تحتاج لكسر دول الخوف وقبول فكرة مركزية أصبحت مع التجربة العراقية لا تحتاج لبرهان: المركب الوطني يحتاج لكل النسيج المواطني والجسم الغريب عامل هدم إلا إذا تحجم دوره وانحسر في كماليات لوجود سياسي واقتصادي محلي متماسك في ذاته ومن أجل ذاته.
هل يمكن أن يكون لمقومات الدولة الأمنية البشرية دورا في صناعة الدولة المدنية أم أن هناك قطيعة كاملة بين هذه وتلك؟
لا بد من تحديد التخوم بين المعلم في مدرسة حكومية وضابط الأمن في مؤسسة قمعية، بين من يحرص على الدفاع عن المجتمع وبين من يعتبر واجبه حماية السلطة من المجتمع. الأنموذج الموريتاني أعطى إمكانية حدوث تحولات وتمزقات مؤلمة للدولة الأمنية من داخلها. ألم يكن هذا حال الأنموذج السوفييتي أيضا؟ من هنا ضرورة القطيعة مع المدرسة والنهج والممارسة الأمنية لا مع مكونات الدولة، مع الفاسد لا مع من اعتبر الدولة للجميع وأخلص في مؤسساتها، مع القامع، وليس مع الضابط الذي رهن نفسه لتحسين معارفه العلمية والعسكرية خدمة للوطن..
لقد مات الكيان السياسي الأمني في العقول وفي القلوب، ومن الضروري توظيف كل الطاقات الوطنية لاستبداله بدولة مدنية من المجتمع وإليه.
مداخلة أنجزت لملتقى عمان لمنظمات المجتمع المدني ديسمبر 2006