أبريل 14, 2024

كتب المحن

Dr. Manna 10كنت بصدد تقديم مداخلة شفهية عن أوضاع حقوق الإنسان في عدة بلدان عربية أمام لجنة حقوق الإنسان في جنيف عام 1994 عندما تقدم مسؤول في إحدى البعثات العربية ممن جمع الثقافة بالعمل الدبلوماسي وطلب مني بأدب عدم تحديد أسماء الدول ما استطعت وعدم وصف الحالات ما أمكن باعتبار الخطاب العام لا يجرح ويلمح وقد يؤدي الغرض. بالطبع لم استمع لنصيحة المسؤول إلا أننا أمضينا في النقاش أضعاف الوقت الذي استغرقته المداخلة أمام اللجنة. وكان الموضوع المركزي: هل يمكن لمن تخضب بالثقافة العربية الإسلامية أن يقرأ في كتب المحن قبل عشرة قرون وصفا لانتهاك حقوق الإنسان يسمي الضحية باسمها والوالي والحقبة وصاحب قرار الاعتقال ومكانه وظروفه، وأن يمتنع عن ذلك اليوم بعد أن تحول هذا المعطى إلى سمة عالمية مشتركة للعاملين في مجال حقوق الإنسان؟ هل يمكن الاكتفاء باستعمال كلمات مثل النظام العربي والوضع في البلدان العربية ووصف انتهاكات دون تحديد فاعل أو مكان؟ وكيف يمكن في عصر التدقيق في الوصف المجهري أن لا يسمح لنا بعرض المشاهد العينية التي يعرفها الحاكم والمحكوم؟

اتسم القرن الهجري الأول للإسلام بإعادة رسم الخريطة البشرية والسياسية والاعتقادية فيما يعرف اليوم بالشرق الأوسط، ولم تجر عملية غسل الدم هذه دون حروب أهلية وخارجية وفتوحات شملت حضارات سبقت الإسلام فأعطته، بشكل مباشر أو غير مباشر، من تجربتها وثقافتها ومعارفها ونظم الحياة والإدارة فيها. ولم تأت إشراقة القرن الثاني إلا والمثقف المسلم قد أصبح طرفا أساسيا ليس فقط في المعرفة الدينية وإنما في إعادة إنتاج المعارف الإنسانية وتقسيم العمل الذهني في ثوب جديد. فبدأ التأريخ والتفقه في علوم الفلسفة والطب والهندسة والسياسة والعلوم الإنسانية بالمعنى الواسع للكلمة، ويمكن القول أن الحسن البصري (642-728م)، كشخصية اعتبارية وثقافية مركزية مستقلة عن السلطة والصراع عليها قد وضع لبنات الهامش الضروري للمجتمع- الأمة بمعزل عن حتمية الأمة-الدولة، ما نسميه اليوم الفضاء غير الحكومي. وكان للملل والنحل المعارضة الفضل الكبير في تأصيل ثقافة جديدة تصف مآسي العسف وامتد ذلك من غيلان الدمشقي إلى الشيعة الأوائل بانقساماتهم المختلفة ثم عرف اتساعا وتنوعا في القرنين الثالث والرابع للهجرة.

كانت كتب المحن والمقاتل، الترجمة الأولى للمعاناة التي رافقت الانتساب للدين أو لمذهب فيه أو لحزب سياسي معارض، ولم تكن منهجتها وفق تقسيماتنا المعاصرة بل ابنة الحقبة التي أنجبتها. وكانت عامة الموضوع حينا، بحيث  يشمل الكتاب الاغتيال السياسي والملاحقة والاعتقال والخطف والقتل والاعتداء على النفس والجسد. أو يختص الكاتب بمن امتحن بالقتل دون السجن ودون التعرض للإصابة بجروح.

هناك كتب اختصت بأسرة متميزة مثل كتاب مقاتل الطالبيين لأبي فرج الأصفهاني خصصه لمن امتحن بالقتل من آل أبي طالب. في حين اختصت كتب أخرى في الشخصيات المشهورة والأشراف، ومن الباحثين من خصص للشعراء أو الأوصياء أو الأنبياء أو الأطباء. ومنهم من أعد كتابا بحالة واحدة وهذا حال شخصيات هامة مثل الإمام علي بن أبي طالب وابنه الحسين وأحمد بن حنبل (أحصينا ستة كتب لمحنة ابن حنبل مثلا).

لعل كتاب المحن لأبي العرب محمد بن أحمد بن تميم التميمي الذي حققه الدكتور يحيي وهيب الجبوري في 1983 من أفضل ما يعطي صورة عن هذه الظاهرة الهامة التي أحصي فيها 48 كتابا في المحن والمقاتل. وقد قام المحقق بجهد كبير في التعريف بالكتاب والأسلوب والغرض. والمهم في هذا الكتاب الجامع من قرابة 500 صفحة أن أبي العرب قد ابتلي بالحبس والخوف والتهديد. وهو يحدد غايته من هذا الكتاب بالقول: “أنا أذكر بعد هذا من ابتلي من خيار هذه الأمة، وأهل العلم وأشراف الناس، بأن حبس أو ضرب أو تهدد أو امتحن، ليكون ذلك عزاء لمن ابتلى بمثل ما ابتلي به الصالحون من صدر هذه الأمة”. هذه الغاية نجدها في معظم كتب المحن، التي تذكر بأكثر من حديث يشير لأن أشد الناس بلاء الأمثل فالأمثل، فلهذه الكتب عند مؤلفيها، تتعدى مجرد التأريخ والتعريف، إلى وظيفة زرع ثقافة المقاومة ومواجهة الظلم والتعسف. إلا أن موضوع تعويض الضحية وتطبيق القصاص لزجر المعتدي وسدا للذرائع قلما تم التعرض له في هذه الكتب، ويمكن متابعته في أماكن أخرى.

يذكر أبو العرب الروايات مسندة ومدققة وموثقة على وجه التفصيل، وقد يذكر الخبر من مصدرين موضحا التباين ويصف منهجه بعد بعض الروايات بالقول: “فكل قد حدثني بهذا الحديث مطابقة وبعضهم أوعى له من بعض، وغير هؤلاء الذين سميت كل قد حدثني أيضا وزاد بعضهم على بعض فكتبت كل ما حدثوني.”. وكما يقول الجبوري: “يتضح أن منهج المؤلف يقوم على تحري الرواية وصحة الإسناد والأمانة في ذكر الأخبار والرجوع إلى الكتب وإسناد كل خبر إلى قائله”.

من الطريف أن نقرأ كعنوان لفصل ما يمكن أن يكون عنوانا لبيان حول انتهاك لحقوق الإنسان اليوم: “حبس فقهاء مكة لمّا حبسهم خالد القسري”. خالد القسري هو والي مكة عام 89 للهجرة ويذكر أبو العرب أسماء العلماء الذين تم اعتقالهم: عطاء، عمرو بن دينار، طلق بن حبيب، صهيب مولى ابن عامر، ثم يتعرض لموضوع الإفراج عنهم وكيف تم بتدخلات. نلاحظ أنه قلما كان ثمة تدخل لقاض في القضايا السياسية وغالبا ما يتعلق الإفراج بقرار من صاحب التوقيف أو سلطة أعلى أو هجوم على السجن لإطلاق سراح المعتقلين من قبل أصحاب لهم في قضيتهم.

كان من وسائل الإهانة والتعذيب والإضرار غير القتل الضرب بالسياط وغيرها وحلق اللحية والرأس والإدخال في ثياب من شعر والعرض على الناس في الأماكن العامة والسجن في عراء الشمس في الصيف والصحراء. وكان هناك القتل ثم الصلب والتعذيب بتقطيع الأعضاء حتى الموت كما فعل ابن زياد بالبلجاء التي قطع يديها ورجليها وحرق عينيها وألقاها في السوق. ويبقى الدرس الأهم من هذه الظاهرة، هو أن تسجيل وقائع الاعتداء على الإنسان وكرامته يتطلب الإشارة إلى الحقبة وروحها والمسؤول المباشر والمسؤول العام والتحقيق في حجم الانتهاك وتحديد المكان والزمان ما أمكن والتأكد من المعلومة ومقارنة الأخبار المختلفة ومدى مصداقية المصادر.

حررت في أوراق، 10 ديسمبر 2003                أعيد نشرها بتاريخ31/7/2005