ديسمبر 07, 2024

قبل الحرب العالمية الثالثة.. السلام شرط لاستمرار الحياة

منذ زمن بعيد لم يعد الكذب يقتل بل يبدو غالبا، مثل نبع شباب دائم، لم تعد النزاهة الفكرية معيارا لعرض الأمور.. تتلاشى الكلمات ومعها الكتابات.. عمليات التوظيف والاحتواء والتلاعب بالمشاعر تصنع الرأي العام ولو كان مدنِسا للوعي ومدمرا لإنسانية الإنسان.
 
أتاحت لي مهماتي النضالية الحقوقية أن أعرف عن قرب حيثيات الإبادة الجماعية في رواندا، أن أتواجد في عين المكان بعد قصف قوات الناتو لصربيا، أن أجتمع بعشرات ضحايا سجون باغرام وغوانتانامو، أن أزور بغداد محققا بعد دخول القوات الأمريكية ـ البريطانية، وأن أشارك في التحقيق في الجرائم الإسرائيلية في غزة إلخ. كنت أيضا في كييف مرات عدة.. ومهما كانت الجعبة الثقافية للمناضل مفيدة لتصوره واستنتاجاته، كانت العين، الشاهد الأقوى والدليل الأكثر نصاعة على استمرار الدور المركزي للعنف في ضبط وتنظيم أمور “المنظومة العالمية” السائدة، ولكن أيضا في دمار وخراب العمران عند من أسماهم يوما طه حسين وفرانز فانون: المعذبون في الأرض.
 
كانت نهاية الحرب العالمية الثانية، منعطفَ طرقٍ تاريخي على صعيد كوكب الأرض، وليس فقط على صعيد الأطراف المنتصرة أو المهزومة في الحرب. وكما تشكلت أثناء الحرب تحالفات ووقعت مواجهات تعدّت الطبيعة السياسية للنظم والتشكيلات الاقتصادية ـ الاجتماعية لمكوناتها. كانت الأمم المتحدة الابن النغل لمعسكر المنتصرين. الذين تمكنوا عبر ميثاق متقدم على حقبته، من فتح أبواب لم تشيع فقط، نهاية حقبة، بل أيضا تعبيد الطريق أمام حركات التحرر الوطني ونزع الاستعمار، بناء منظومة أخلاقية ـ قانونية دولية لحماية حقوق الإنسان والشعوب. ووضع ضوابط، ولو محدودة، لحماية السلام العالمي.
 
إلا أن نهاية الحرب لم تتوج بتحريمها، وتحالفات الحرب لم تحل دون مواجهات جديدة. وكان قرار الدول الغربية الكبيرة (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا…) بعد عام على صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بتشكيل حلف عسكري للدفاع المشترك، ضد أي اعتداء خارجي (المقصود عدوان من الاتحاد السوفييتي على أحدها)، أول عودة إلى منطق التحالفات العسكرية وفق مخرجات الحرب الكونية.

 

 

مع بداية عصر النيوليبرالية، تبدّى الخلل البنيوي في المشروع الأوروبي عبر ابتعاد بريطانيا، التي لم تعد عظمى إلا في “غوغل”، وشكوك وتردد اليسار الأوروبي الخائف على المكتسبات الاجتماعية لنضالات أكثر من قرن..

شهدت ستينيات القرن العشرين، وأزمة خليج الخنازير، أول محاولة للخروج من العالم الثنائي القطب إلى عالم متعدد الأقطاب، وكما أرخ إيمانويل ويرلستين، “جاءت الاضطرابات من حدثين. الأول: وصول ديغول إلى السلطة في فرنسا، الذي كان يطمح إلى بناء أوروبا مستقلة إلى حد ما عن الولايات المتحدة. ثم تطور القوة الاقتصادية لأوروبا التي يمكن أن تدعي، لأول مرة منذ الحرب، أنها تنافس الولايات المتحدة. ولكن منذ ذلك الحين، قامت الولايات المتحدة بانقلاب كامل: فقد عارضت أوروبا بشكل مفاجئ وسري. لم يتمكنوا من افتراض ذلك علنًا، لكنهم فعلوا كل شيء لمنع بناء أوروبا”.

مع بداية عصر النيوليبرالية، تبدّى الخلل البنيوي في المشروع الأوروبي عبر ابتعاد بريطانيا، التي لم تعد عظمى إلا في “غوغل”، وشكوك وتردد اليسار الأوروبي الخائف على المكتسبات الاجتماعية لنضالات أكثر من قرن.. إلا أن استراتيجيات بناء السياسات لا تعرف الفراغ أو التردد، وكان لعدم قيام الدول الأوروبية، بعد سقوط جدران برلين، ببناء قوة اقتصادية وعسكرية وسياسية مستقلة، تسليم قياد العالم للولايات المتحدة الأمريكية، القادرة على التعويل على القوى المحافظة شرقي أوربة، في ترسيخ أقدامها، على الأقل بالمعنى العسكري، في بلدان الاتحاد الأوربي، قديمها وجديدها.
  
بالتوازي مع قيادتها الفعلية لأكبر تحالف عسكري بعد الحرب العالمية الثانية، بنت الولايات المتحدة نظامًا رأسماليا أمريكي القرار عولمي الفضاء. فجملة المؤسسات المالية تخضع ليس فقط للرقابة الصارمة الأمريكية، وإنما أيضا علوية القرار الأمريكي، وفي أكثر هذه المؤسسات أهمية، كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي على سبيل المثال، حظيت الولايات المتحدة باليد الطولى من خلال معاهدة إنشاء هذه المؤسسات (معاهدة بريتون وودز)، بحيث يصعب مخالفة كلمتها الأخيرة، فهي البلد الوحيد الذي يتمتع بحق النقض، سواء في القرارات أو السياسات العامة أو حتى التعديلات والإصلاحات المقترحة.
 
من المضحك الحديث عن ديمقراطية القرارات في المؤسسات المالية الكبرى، في فترات الحرب الباردة لجأت الإدارات الأمريكية للاستمالة والاستدراج على الناعم، أما في فترات الحرب والمواجهة، فيكفي مثلا، تذكير الحكومة التونسية، بأن “عدم حضورها اجتماع 25 أبريل 2022 لحلف شمالي الأطلسي “لدعم أوكرانيا في حربها ضد العدوان الإمبريالي لروسيا” في قاعدة رامشتاين، مقر القوة الجوية في ألمانيا، يعني أن عليها البحث عن بديل للبنك الدولي لمساعدتها”.؟

كم تابعنا مثل هذه المشاهد في مجلس حقوق الإنسان والجمعية العامة للأمم المتحدة.
 
أعطى سقوط معسكر وارسو وتفكك الاتحاد السوفييتي أحادية القطب الأمريكية فرصةً لفرض النفوذ الإمبراطوري على نحو غير مسبوق؛ حيث انتقلت الولايات المتحدة، بسلاسة تقريبًا، من عالم الحرب الباردة، حيث واجهت بعض القيود، إلى عالم وجدت نفسها فيه، على نحو شبه كامل، القوة المسيطرة الأولى في العالم، وبوصفها كذلك، فهي من يحدد ويعرّف الصديق والعدو، معسكر الخير ومعسكر الشر، الحرب “العادلة” والحروب الجائرة… والأخطر من كل هذا، ليس فقط منح أو سحب نيشان الديمقراطية عن صدور البشر، “وإنما عدم السماح لأية تجربة ديمقراطية في العالم بالنجاح، إلا إذا كانت موالية للغرب ومحققة لمصالحه الاستغلالية والإلحاقية”. كما ينوه ، المغربي عبد العلي حامي الدين.

 

 

أعطى سقوط معسكر وارسو وتفكك الاتحاد السوفييتي أحادية القطب الأمريكية فرصةً لفرض النفوذ الإمبراطوري على نحو غير مسبوق؛ حيث انتقلت الولايات المتحدة، بسلاسة تقريبًا، من عالم الحرب الباردة، حيث واجهت بعض القيود، إلى عالم وجدت نفسها فيه، على نحو شبه كامل، القوة المسيطرة الأولى في العالم،

  

عقلية الزعامة “الكلية القدرة” للعالم، هي التي قررت حدود صربيا بصواريخ الناتو، غزت أفغانستان بقرار أممي عندما استطاعت ذلك، ولم تنتظر قرارا أمميا لاحتلال العراق عندما تعذر ذلك. عولمت حالة الطوارئ، أعادت السجون السرية والقوائم السوداء للقارة الأوروبية والعالم، صنّف استراتيجيوها المحكمة الجنائية الدولية “محاكم تفتيش حديثة” ووقّعت إداراتها أكثر من ستين اتفاقا مع دول أعضاء في المحكمة تمنعها من التعرض لأي مواطن أمريكي مهما كانت جسامة جرائمه. حمت التوسع الاستيطاني الإسرائيلي لأكثر من نصف قرن، وبنت لآخر نظام أبارتايد على سطح البسيطة، الترسانة العسكرية الأقوى في الشرق الأوسط.
 
في مقالة بأحد الصحف العربية الدولية حول النظام العالمي الجديد (1993)، أشرت إلى أن “تفكك الاتحاد السوفييتي ليس انتصارا للولايات المتحدة، بل تنصيب مؤقت لها في قيادة العالم، لأن الدول القادمة التأثير في العالم مثل روسيا والصين والهند، ستعمل على بناء عالم متعدد الأقطاب، حتى لا تصبح الحديقة الخلفية الجديدة للولايات المتحدة، بالمعنى الاقتصادي والجيو سياسي للكلمة”. وللأمانة، لم أتوقع أن تكون مغامرات المحافظين الجدد وسيادة “عنجهية القوة”، في مقدمة أسباب هذا التحول، وأن يكون الفشل العسكري الأمريكي في “الحرب على الإرهاب”، أحد أهم عناصر عودة الدولة الأكثر تسليحا، الاتحاد الروسي، إلى الساحة الدولية، ليس بوصفه قوة تحرر أو حماية للشعوب، وإنما بكل بساطة، قوة كبرى ترفض استفراد بلد واحد بالسيطرة على العالم.
 
من حروبها الباردة إلى تلك الساخنة، عملت القوى الكبرى مجتمعة على تنمية قدراتها التدميرية بوصفها الوجه الآخر، و”الضروري”، لنمو قدراتها الانتاجية واقتصادها ورأسمالياتها. وفي موازاة سباق الانتاج والتصنيع والسيطرة على أسواق المال والبضائع، كان هناك سباق السلاح النووي والكيميائي والبيولوجي إلخ، ولكن أيضا، الزيادة الهائلة في انتاج واستهلاك النفط والغاز والحديد والصلب والكهرباء والأخشاب وأعلاف الحيوانات.. أي اهتلاك الطبيعة والموارد. في موازاة الإنفجار الديموغرافي المرافق لانسحاق مشاريع التنمية في البلدان الفقيرة.. الأمر الذي أوصلنا إلى تدهور البيئة والتغيرات المناخية والتصحر ونقص المياه وانقراض نباتات وحيوانات، وهجرات بشرية واسعة.
 
لقد نجحت المنظومة العالمية world-system السائدة، في فرض قواعد اللعبة الاقتصادية على أكثر خصومها، فحتى البلدان الأبعد عنها، تبحث إن كانت كبيرة، عن مقعد في مجلس إدارة العالم معها، أو قرضا حسنا تعدّل عبره ما يتعارض في بنياتها معه. إلا أن “نجاحاتها” نفسها”، شكلت معاول حفر قبرها، فالولوج الصيني الهادئ في المنظومة الاقتصادية العولمية، مهد عمليا لنهاية احتكار الغرب للقرار الاقتصادي، والسياسة الروسية القائمة على التقدم الصناعي العسكري كطريق لاستعادة مكان مركزي في بناء عالم متعدد الأقطاب، خلقت حالة رهاب عامة في القارة الأوربية، جعلتها تضع على الرف، كل مشاريع “النجاة البيئية” التي حملتها حركات البيئة طيلة أكثر من ثلاثة عقود.
 
ليست طبيعة النظام السياسي ليبراليا كان أو تسلطيا، الدافع لتوسع حلف الناتو أو للحراك العسكري الروسي، وكون منطق العسكرة، هو القاسم المشترك الأعلى لقطبي الصراع، يمكن القول اليوم، أن جملة التحولات في النظام العالمي، لن تحمل على المدى القريب للبشر أي خبر سار، على صعيد حقوق الإنسان والشعوب أو الحماية البيئية الجماعية.
 
تسعى الصين الشعبية والهند وجنوب أفريقيا والبرازيل وتركيا وإيران ودول مجلس التعاون الخليجي…، لدفع أقل فاتورة ممكنة، أما الدول الفقيرة فستتحول إلى صهريج بشري للهجرات الكبيرة ودويلات لأمراء الحروب الصغار… كان من الحكمة أن تقف بلدان عديدة بعيدا عن الاصطفاف الطوعي أو القسري في الحرب الأوكرانية، ومن الحكمة أيضا، أن يبقى ثمة من يعتقد بأن هناك فرصة للسلام في وجه العنجهية الأمريكية-الروسية، التي لم يعد قصر نظرها يسمح برؤية ما وراء ساحة الحروب. خاصة بعد قيام دول الناتو، على طرفي الأطلسي، وعن سابق إصرار وتصميم، بزعزعة الجبهة العالمية المدنية وخردقة المدافعين عن السلام وحقوق الإنسان والبيئة، وخنق الأصوات المناهضة للحرب على مختلف الجبهات.

 

 

ليست طبيعة النظام السياسي ليبراليا كان أو تسلطيا، الدافع لتوسع حلف الناتو أو للحراك العسكري الروسي، وكون منطق العسكرة، هو القاسم المشترك الأعلى لقطبي الصراع، يمكن القول اليوم، أن جملة التحولات في النظام العالمي، لن تحمل على المدى القريب للبشر أي خبر سار، على صعيد حقوق الإنسان والشعوب أو الحماية البيئية الجماعية.

المشكلة الأوكرانية، التي بدأت في 2014، جمعت ما عاشته أوربة منذ سقوط جدار برلين في مشهد مكثف: انتفاضة الميدان على رئيس منتخب، ضم الأراضي بالقوة، وحرب الدونباس الأهلية، بامتياز. دفع حلف شمالي الأطلسي بكل قواه، للاستثمار في هذا المشهد، ودفع الرئيس بوتين بكل ترسانته العسكرية للمواجهة المفتوحة. ومنذ 24 فبراير 2022، ليس بإمكان أحد القول، أن ما نشهده مواجهة سياسية اقتصادية سبرانية وعسكرية بين أوكرانيا وروسيا، بل بكل المعاني، مواجهة بين مشروع إمبراطوري روسي مع الولايات المتحدة الأمريكية ومجلس الإدارة الذي اختارته للإمساك بالمنظومة العالمية، والذي وضعته هذه الحرب أمام خيارات جديدة.
  
ثلاث قضايا من الضروري التوقف عندها حتى لا نفقد حقنا في الأمل في هذا العالم الذي ارتقى اليوم إلى ما يسميه جيجيك: إلى ما فوق الجنون:

القضية الأولى، صحيح، عبر التاريخ المكتوب، أنه لا يوجد إمبراطورية قامت وسادت بلا حرب وحروب، أي بدون عملية هدر وهدم وإذلال للكرامة الإنسانية. ولكن صحيح أيضا، أن تكلفة الحروب اليوم، تفوق القدرة البشرية على تحملها. وعليه، أصبح رفض الاستثمار المشترك في الدم والهدم، تجارة خاسرة لمختلف أطراف أي نزاع مسلح.
  
لا يمكن بناء مقاومة شعبية أو سيادة لشعب، بالاستقواء بقوة عظمى على أخرى، فكل نماذج الاستقواء لم تعط دولة سيدة، أو حكما رشيدا أو أنموذجا للديمقراطية. ولعل الكوميدي الناجح زيلينسكي، خير من يعلم ذلك، فهو بعظمة لسانه، لا يرى في أوكرانيا القادمة، دولة ديمقراطية على النمط الأوروبي، بل يبشرنا بقيام “إسرائيل كبرى” Big Israel.  

أخيرا وليس آخرا، لقد انتهى عصر “الانتصارات” العسكرية. ولن تتكرر احتفاليات “النصر” بعد اليوم، لأي مغامر يظن أن صواريخه العابرة للقارات، تكفي لتغيير خارطة العالم أو “موازين القوى” فيه، لأن السلاح الأمضى والأكثر نوعية، هو ذاك القادر على تحويل الكرة الأرضية إلى كوكب ميت، خالٍ من المؤرخين والصحفيين والمحتفلين بهكذا “نصر”.
 
لم يعد السلام أغنية شاعرية، بل الشرط الواجب الوجوب، لاستمرار الحياة على كوكبنا. 

 

*مفكر وحقوقي

نشر في موقع العربي 21