في عام 1973، كتبت أول دراسة لي باسم اخترته للفكر والنضال هو هيثم مناع، وأعطيت النص لزميل دراسة يمني في كلية الطب في جامعة دمشق ليوصله للدكتور بشير الداعوق من أجل نشره في مجلة “دراسات عربية”، عنوان الدراسة “الأسرة الأبوية في الإسلام”، وقد أوصيت صديقي أن لا يخبر الداعوق عن أي شئ عني لأنه قد يتردد في النشر إذا علم بأنني ما زلت طالبا في الجامعة وأنني لم أبلغ الثانية والعشرين من العمر بعد وأن هذا النص هو أول ما أكتب بهذا الاسم. سّلم زميلي اليمني النص للدكتور الداعوق قائلا: الأستاذ هيثم مناع كلفني بأن أوصل لك هذه الدراسة، وهو يهديك تحياته الصادقة. فقال له، أشكر الأستاذ هيثم سأقرأ الدراسة وأرجو أن تجد مكانا لها في دراسات عربية.
في سبتمبر من نفس العام نشرت الدراسة ووضع عنوانها على الغلاف, وقد منع العدد في كل البلدان العربية، ثم وقعت حرب أكتوبر/تشرين الأول فسمحت سلطات عدة دول بدخول الصحف لها، فدخل العدد بعض الدول. بعد أشهر التقيت الدكتور بشير، فنظر لعمري باستغراب، ثم علق قبل أي حديث: “مقالتك عملت مشكلة، تكدست الأعداد كلها ببيروت، لكن الحقيقة العدد مطلوب، والحرب فكّت الرقابة عن بلدين ثلاثة. قلت له: أنت إنسان حر يدافع عن الأحرار أتمنى لك طول العمر وطول الشقاء النضالي. فضحك.
فرقتنا الأيام لنلتقي في باريس هارب من العسف وآخر من العنف، ولينشر لي هذه المرة كتاب “جدل التنوير” واستفيد من وجوده في العاصمة الفرنسية لشرب القهوة كلما سمحت لنا قساوة خياراتنا الشقية، كان ممن يتمتع بالتدخين مع القهوة، ويحرص على ارستقراطية مستوى النقاش. ولعلها “الميراث” الوحيد له من اسرته الارستقراطية التي ناضل عمره لإلغاء لقبها وألقاب غيرها.
كانت الأديبة الكبيرة غادة السمان تراقب هذه العلاقة من بعد وبالهاتف وكانت كلماتها التي تصلنا من وقت لآخر تشبع في النفس الرغبة في العطاء غير المحدود.
بشير الداعوق، مع كل الاحترام لخياره الحزبي، كان الصهريج الثقافي الذي تمكن من استيعاب أبناء جيلنا، وكم من مثقف في العالم العربي يقف اليوم ليقول: لقد تبنانا جميعنا على اختلافنا وصراعاتنا ومشاكلنا وما سببناه له من مشاكل. رغم أهوال حقبة ضربت أحلامه الكبرى في الصميم، والظروف الصعبة اللبنانية والعربية التي رافقت وجوده العام، احتفظ بقسط وافر من الاتزان والهدوء والقدرة على الاستماع، والقدرة على الدفاع عمن يختلف معهم.
ولعله بهذا المعنى، كان رائدا متميزا من رواد حرية التعبير في شطر من العالم قرر اغتيالها عن سابق إصرار وتصميم.
16-10-2007