عند ركوب الطائرة إلى دمشق، شرد ذهني ليستعرض شريط ربع قرن في المنفى، حاولت فيها أن أكون سفيرا يعتبر حرية الإنسان وكرامته في مركز اهتمامات غربته. ورغم أنني تقدمت بصورة عما حدث لكل من طلب مني ذلك وناقشت الموضوع بكل شفافية مع كل من همه مناقشته، الأمر الذي لا تعرفه تقاليد سورية والمنطقة في السلطة والمعارضة، فقد حدثت عدة مسائل تعطي صورة عن التحطم الذاتي لقطاع من المعارضة لم يعد عنده ما يخسره (بما في ذلك كرامته ومصداقيته). هذا القطاع الصغير جدا كان يمكن أن يتم تحجيمه من قبل أشخاص أكثر وعيا حتى لا يترك آثارا سلبية على الجميع، ولكن غياب النظرة المتكاملة والمتماسكة للنضال الديمقراطي خلط الحابل بالنابل. والحقيقة المؤلمة تبقى في سؤال صعب وكبير: هل يمكن للسياسي الذي يفشل في العثور على رد منطقي لفكرة العودة الكريمة لمواطن إلى بلده رسم معالم الطريق لإعادة المجتمع إلى السياسة والديمقراطية إلى الخطاب العام والوحدة الوطنية إلى النفوس؟ لقد طرحت هذا السؤال على نفسي كثيرا وجاءني الجواب من المواطنين الذين لم يتشوهوا بالحقد والنرجسية ورفضوا ترجيح الثأر على العدل وتمردوا على مبدأ استبدال نخاس بنخاس. هؤلاء الذين نجحوا بالاحتفاظ بحصتهم من الحلم ورغبة التغيير هم الذين احتضنوني أثناء فترة إقامتي القصيرة في سورية وأشعروني بدفء المقاومة الداخلية للفساد والاستبداد والاستعباد.
عندما حدثت النكبة الثانية في العراق، كان لا بد من زلزال مواز في المجتمعات والحكومات. وكون هكذا زلازل لا تأتي بكبسة زر أو مسحة ولي، بل ترضخ لجملة عوامل بنيوية ووظيفية عند الأفراد والجماعات، كان من الطبيعي أن نشهد مرحلة تخبط ومراوحة في المكان وتردد في القرارات والتوجهات أعلى المجتمع وأسفله. لكن بعد أسابيع ومع زوال السكرة وعودة الفكرة، لم يعد مسموحا لأحد، أو مفهوما من أي طرف، أن يبقى في مرحلة ما قبل احتلال بغداد. هذا الاحتلال الذي زعزع كل المفاهيم السياسية للسيادة والاستقلال وبناء الكيانات العربية المعاصرة وبناء السلطات فيها.
لقد تجنبت الكتابة بانتظار هدوء البال وردود الأفعال. وسأتجنب التعرض لأشخاص أوصلتهم محاكاة القامع لتقليده في الخَلق والخُلق، فاختيارهم لأن يكونوا زبدا هو الذي يحكم عليهم بمصير الزبد. كذلك سأتجنب ما يمكن أن يضعف المقاومة الديمقراطية للعسف داخل سورية. كون هذه المقاومة قد حرمت من ظروف الحد الأدنى للنضال في الأزمنة الحديثة، وبالتالي لا يمكن التعامل مع نواقصها بشكل عقلاني إلا عند محاولة تقوية وسائل نضالها.
السؤال الملح هو: هل قمنا، كمثقفين ومناضلين، من كل الاتجاهات والحركات السياسية والحقوقية، بعملية تقييم لتجربتنا؟ هل سألنا أنفسنا كيف شارك كل منا في عملية بناء الثقافة الديمقراطية أو على العكس من ذلك في تدنيس الوعي الديمقراطي؟ أما آن الأوان للانتقال من العموميات والشعارات التي أصبحت تكرر نفسها وتذكرنا بما يسميه الكواكبي مدرسة المستبد الذي يفرغ الكلمات من محتواها والنضالات من أسلحتها؟
المشكلة برأيي تعود إلى جذور أكثر عمقا في السلطة والمجتمع، جذور ذات علاقة مباشرة بتحول السياسي إلى علاقة غير مدنية بين الحاكم والمحكوم. علاقة صنعها القامع وأصابت عدواها المقموع. سأعطي أمثلة توضح ما أقول حتى لا أبقى في العموميات: وأنا في هيئة تحرير مجلة “سؤال” في الثمانينات، تسلمنا مقالة من مثقف سوري معارض عن تحطيم المجتمع في سورية. وقد استوقفني في المقال إعجاب حتى الثمالة بالطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين (وليس بحركة الإخوان المسلمين). مقال يسئ ليس فقط للوحدة الوطنية ويبرر ما لا يبرر ولكنه يدعم القراءة الأكثر تشنجا وانغلاقا وطائفية في الحركة الإسلامية السياسية. هذا المقال، الذي تمت ترجمته للعربية وتبناه كثر، هل يجرؤ كاتبه اليوم على القول قولة ماركس: “لقد كنا ومن قال قولتنا على خطأ” ؟
هناك اتجاه من المعارضة السورية تحالف مع السلطة العراقية، وطرح موضوعة فليأت الشيطان ليخلصنا من كابوس السلطان. وخلال أكثر من عشر سنوات حارب، ولم يكتف بالحياد، كل من انتقد انتهاكات حقوق الإنسان وغياب الحريات في العراق. ثم أدار ظهره لهذه الحقبة والتحق بخطاب آخر. فهل قدم هؤلاء تقييما لتجربتهم هذه؟ هل لديهم الجرأة اليوم على القول بأن خياراتهم وأطروحاتهم السابقة جزء من الأزمة القائمة ؟
يطالب بعض العلمانيين حركة الإخوان بتقييم ونقد تجربتها مع العنف والتحالفات الإقليمية، وهذا ضروري. لكن هل يملكون الجرأة على التساؤل: هل القمع وحده وراء تفكك الحركة الشيوعية في المعارضة؟ هل تمكن الحزب الشيوعي-المكتب السياسي مثلا من الاستفادة من موجة التعاطف العامة التي رافقت نشأته؟ وإن جعلنا السلطات الأمنية مسؤولة رئيسية عن ذلك داخل سورية فماذا نقول عن منظمة الخارج؟ هل حقق التجمع الوطني الديمقراطي النقلات النوعية الضرورية التي رافقت التغيير الداخلي والإقليمي منذ ولادته؟ هل استطاعت لجنة الميثاق الوطني أن تقنع الجمهور بأن مشروعها يشكل حالة تجاوز للطائفية والعشائرية وأن شعارها “سورية لجميع أبنائها” ليس مجرد شعار سياسي وإنما هو توجه فعلي للمجتمع السياسي والمجتمع المهمش؟ وهل تجسد ذلك في ممارسات أعضائها وتصريحاتهم؟ هل تمكنت الحركة الكردية السورية من الانتقال من النحيب على القطيعة مع المجتمع السياسي السوري إلى بناء الجسور الفكرية والسياسية الضرورية للتعامل معه؟
لقد قضت السلطة الدكتاتورية في سورية على عنصر هام من عناصر المدنية: هو العلاقة بين الواقع والخطاب السياسي. حيث تشوهت الكلمة وتشوه الشعار وتشوهت الحقائق وتجردت الأشياء إلى درجة فقدان حس التمييز. لقد أصبحت تنتج الخلايا الخبيثة في عملية دورانها حول نفسها، وبذلك لم تعد قادرة على حماية نفسها من سرطانها. لذا تشوهت علاقتها بغريزة البقاء الموجودة في أعماق كل من يمارس الحكم. من هنا أعتقد بصدق بأن خيارات الحاكم أصعب من خيارات المحكوم. الأمر الذي لا يعفيه من دوره في الخراب ودوره في الخروج منه. وهنا نقطة الخلاف الجوهرية مع بعض أطراف المعارضة التي تقول بأن “النظام الحاكم غير قابل للإصلاح أو الترميم أو الترقيع”. فهذا القول غير جدلي وغير سياسي، وهو يضيق النظر والأفق أمام الديمقراطيين: من جهة، لأنه يعفي كل أطراف السلطة، الراغب منها وغير الراغب بالتغيير، من مهمة طرح مشروع إصلاح سياسي جدي في البلاد. ومن جهة أخرى، يحصر المعارضة في خيارات محدودة وضيقة تخرجها بالضرورة من المنطق الداخلي للتغيير. الأمر الذي يفسر تلقف الدوائر الأمريكية لهذه المقولة باعتبارها تصديقا لموضوعة محور الشر الميتافيزيقية والتي تكررها ببغاواتها حرفيا. صحيح أن الممسك بقبضة السلطان صادر الأساسي من مجالات المواطنة وحقوق الإنسان ولم يتعلم، أو حتى يتقبل، فكرة مشاركة الآخر في الرأي والثقة به والقدرة على التعامل معه والتوجه إليه في الأزمات. وكل نقاط العجز هذه تنعكس في التخبط الذي يعيشه. لكنه في وضعه هذا يشبه المصابة بالهستيريا، التي لا يمكن أن تقتنع بقدرة معالجها، إن لم يكن يتمتع بخصائص غير موجودة عندها. من هنا ضرورة إبراز المعارضة الديمقراطية لكل نقاط قوتها لتنتزع مكانتها بأيديها وتعزز القناعة في المجتمع بأن الإصلاح في أي مكان وزمان ممكن، لكنه يحتاج لكي يتجسد واقعا لكل قوى الإصلاح وليس فقط أصحاب النوايا الحسنة في التركيبة السياسية الحاكمة.
نحن اليوم في جدلية جديدة كل الجدة: ليس أمامنا (نظام) كما يقول بعض العتيقين في السياسة المبتدئين في العلوم السياسية، وليس أمامنا دكتاتور. نحن أمام سلطة فصّلت على قّد دكتاتور، وهي منذ ثلاث سنوات مقطوعة الرأس. لهذا فهي مخيفة، ولكن ليس إلى الحد الذي يسمح لها بارتكاب مجازر كما فعل الجنرال الأسد في فترة مواجهته المسلحة مع الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين، أو القيام باعتقالات جماعية تشبه تلك التي عرفتها سورية عام 1980 أو 1987.
سواء كان منطلقنا المستنقع الإقليمي أم الأزمة الداخلية، فالاستنتاج واحد: التغيير الديمقراطي لم يعد مجرد برنامج سياسي بل قضية وجود. الاستعصاء في المشروع السياسي والوطني، والفساد في الإدارة والاقتصاد، وهيمنة الاخطبوط الأمني على المواطنة أضعفت الكيان السياسي والبعد الإقليمي لسورية والمجتمع المحكوم. وبالتالي أنهكت المناعة الداخلية لأشكال العدوان الجرثومية المختلفة. وكون أعداء هذا البلد لن ينتظروا المواطن السوري ليقرر مصيره بنفسه، فهم سيبذلون المستطاع للاستفادة من نقاط الضعف دون السماح للمجتمع أو السلطة بإعادة بناء الغد دون تدخل خارجي. لهذا قلنا ونقول: إن القوى التي تقف عائقا في وجه التغيير اليوم هي بالضرورة مناهضة للمصالح الوطنية وليس فقط للتغيير الديمقراطي. وهي التي تزرع الإسفين الأقوى في نعش السيادة في عالمنا المعاصر. لأن هذه السيادة أصبحت مرتبطة عضويا بالكيانات الديمقراطية ولم تعد الكيانات التسلطية تسمح بالتمتع بها.
مهما كان حجم وفعالية التيار الديمقراطي، هذا التيار هو الذي يمتلك اليوم الرد الأقرب إلى أفئدة الناس وضمائرهم ومصالحهم. لا أقول ذلك على طريقة من يعتبر الوصفة الديمقراطية أو اعتبر بالأمس الوصفة الاشتراكية دواء لكل العلل، ولكن باعتبار الديمقراطية قادرة على فك أسر الدينامية الضرورية للسياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع.
لكن هل الديمقراطية مجرد كلمات يرددها ببغاوات واشنطن؟ أم خطاب يستعمله أقل الرؤساء الأمريكيين ديمقراطية وبعد نظر؟ أم برنامج يتكرر بشكل أتوماتيكي في السراء والضراء؟
هل هناك حمّالة اجتماعية سياسية فعلية للانتقال السلمي إلى الديمقراطية من الداخل ومن تحت؟ وفي حال الإجابة بنعم، هل كان الطرف غير الحكومي في هذه الحمالة قادرا على تجاوز البيان والعريضة للتعبير عن نفسه وإسماع صوته؟ أم أن الوضع يتلخص بعدم وجود إجابات على المدى القصير ووجود حل “نظري” على المدى المتوسط اسمه بناء القوة الثالثة كما يقترح الرمز الوطني رياض الترك؟ في العراق كان موقف الحزب الشيوعي العراقي ضد صدام وضد الحرب. واليوم لم يعد يفكر ببناء قوة ثالثة، بل انضم لمجلس الحكم المحلي. وإن كان من تسريع لوتيرة الأحداث في المنطقة من قبل التطرف البروتستانتي الصهيوني في الإدارة الأمريكية الحالية، فلغاية دفع الطبقة السياسية في العالم العربي لأحد المعسكرين وإلغاء الحق في الوطن بلا تسلط والديمقراطية بدون تبعية واستعباد. فهل يمكننا مباشرة المواجهة المزدوجة مع العقلية التسلطية وعقلية التبعية بآن؟ أليس من الطبيعي أن نجد في أزمة كهذه مدافعين عن الوطن والمواطن في جبهة أوسع من لجنة الميثاق وأوسع من التجمع الوطني الديمقراطي وأوسع من الجبهة الوطنية التقدمية والتحالفات الكردية-الكردية؟ جبهة تنشأ من المبادرات الداخلية للقطيعة مع الاستقصاء والإبعاد والسلبية والخوف أو أن مهمتنا تقتصر على انتظار ترتيب البيت التنظيمي بغياب القدرة على رؤية الوطن خارج القوقعة الذاتية؟
قال لي محام فلسطيني يوما بأن السلطات السورية لا تعير لصيحاتكم من أجل مؤتمر وطني للتغيير أي اعتبار. وأطرح السؤال بشكل مختلف: لو ترافق طرح هذه الفكرة بتجمع سلمي لألف مواطن ومواطنة أمام مجلس الشعب، هل كانت الحكومة ستتعامل مع اقتراح المعارضة بنفس الطريقة؟ أليس لدينا مهمة مركزية اسمها ابتكار الوسائل الجديدة للنضال؟ أليس من واجبنا التحرك وفق الأجندة الوطنية قبل الأجندة الحزبية ؟ هل ستقدم لنا السلطة -التي لم تسمح لها أجهزة العسف حتى اليوم بتجاوز أزمتها- الديمقراطية على طبق من فضة؟
لا تتوقف مهمتنا برأيي على استقراء وسائل النضال الخاصة بالمعارضة والمجتمع فقط وإنما علينا طرح أسئلة جديدة : ما هي قدرة الممسكين بزمام الأمور على اكتشاف الآخر خارج نطاق التقارير الأمنية؟ ما هي احتمالات اعترافهم بالآخر؟ وهل هناك مجال أو قناعة عند قطاع منهم بالتعاون لهدم الهيكل التسلطي وبناء الوطن المشترك؟ ما هو حجم هذا القطاع وما هو دور منظمات حقوق الإنسان وأنصار التغيير الديمقراطي في مواجهة العناصر الشرسة في السلطة؟ هذه العناصر التي تحول دون أي تغيير عبر الملاحقة بكل الوسائل القانونية التي تحولها إلى خارجة عن القانون دوليا وليس فقط داخليا بمجرد بقائها في موقع جريمة الدفاع عن التسلط في حقبة حرجة كالتي نعيش؟ كيف يمكن الانتقال إلى الهجوم للدفاع عن الحريات الأساسية في وقت لا يمكن للسلطة فيه أن تواجه الجمهور السلمي المطالب بالحدود الدنيا للكرامة؟
من الضروري أن نتذكر أن المجتمع اليوم غير مجتمع الأمس ومراكز اهتمامه ومطالبه وطموحاته لم تعد تلك التي كانت في 1980، إنه يرى العالم عبر ثورات لم يقم بها ووسائل تثقيف وتعريف لم يشارك في إنتاجها، ويرى في هذه الثورات أسلحة جديدة تنصبه فوق الأساليب الغبية للمراقبة والممنوعات والدعاية السياسية. لكنه في معظمه لا يبصر في الطبقة السياسية التقليدية في البلاد القدرة على فهم لغته الخاصة وخطابه المختلف وتجربته اليانعة. المشكلة أولا هنا: كيف يمكن لجيل قدم التضحيات بخطاب سياسي تجاوزته الأوضاع أن ينتقل إلى عصره وأن يتمكن من الإبداع فيه؟ كيف يمكنه أن يتقاسم تضحياته وخبراته مع جيل يحرص على أن لا تكون فاتورة الماضي أقوى من طموح المستقبل؟
من جهة ثانية، وفي زمن الخطر الداهم على دمشق، كيف يمكن أن لا يتكرر انتظار مناسك المناسبات القديمة للمبادرة من فوق أو من تحت، بل خلق مناسبات تصبح مرجعا لتأسيس علاقة جديدة بين الحاكم والمحكوم؟ هل يمكن للخلايا غير السرطانية في السلطة أن تقرر التعاون مع المجتمع للتخلص من سرطان الفساد والاستبداد؟ هل يمكن خلق الحد الضروري من الشعور العام بالمسؤولية القادر على تجنيب البلاد طاعون الطائفية والتمزق والعنف والتبعية؟ هذه الأسئلة الكبيرة مطروحة علينا جميعا، وهي التي تجعلنا نبصر الصراع بين معسكرين: الأول، أتباع التسلط الداخلي والاستعباد الخارجي كلاهما، أما المعسكر الثاني، فيضم عشاق الحرية والمواطنة والكرامة الإنسانية.
بدعوة من بعض الأكراد المقيمين في مدينة هانوفر الألمانية ألقى الناشط السوري في الدفاع عن حقوق الإنسان د. هيثم مناع في 29.11.2003 محاضرة بعنوان “التسلط: قدر أم اختيار؟”.