أبريل 25, 2024

حقوق الإنسان في العالم العربي في ظل 11 أيلول

حقوق الإنسان في العالم العربي في ظل 11 أيلول: الواقع .. الصعوبات والطموحات

جاء في قصص قدماء العرب أن الوباء قدم يوما إلى قرية، فوقف له على بابها شيخ حكيم وقال له: أما لك أن تترك أهل هذه القرية وحالهم، فهم لم يرتكبوا ذنبا ولم يعصوا الله في مشيئته ولم يعتدوا على أحد، فقال الوباء للشيخ المسن: لا تقلق، فأنا لن أقيم طويلا في هذه القرية ولن ينال الداء أكثر من أربعين شخصا.

وبعد شهر، التقى الوباء بالشيخ وهو خارج من القرية فبادره الشيخ: “ألا يكفي أنك جئت بالأذى بل وتزيد على أذاك بالكذب، لقد قتلت 400 شخص من أبناء القرية”. فأجاب الوباء: “لا تظلمني أيها الحكيم، أنا لم أتعرض لأكثر من 40 شخصا، أما الآخرين فقد قتلهم الخوف والفزع”.

تلخص هذه القصة جانبا أساسيا من جوانب الوضع العربي والعالمي بعد الحادي عشر من أيلول 2001. فالاعتداء على أكبر قوة عظمى خلق الظروف المناسبة لهذه القوة كي تخرِجَ من أعماقها الخطاب الأشد تطرفا والأكثر عدوانية دون أن يكون بوسع أحد أن يعترض على سياستها (1). وأذكر أنه عندما أصدرت اللجنة العربية لحقوق الإنسان بياناً قبيل الحرب على أفغانستان وقفت فيه ضد الحرب ومع محاكمة عادلة لمنظمي اعتداء الحادي عشر من أيلول، تصدت الأبواق الصهيونية لنا واتهمتنا بالتواطؤ مع الإرهاب. بل لم يتورع الدكتور برنار كوشنر، عن الحديث عن الدفاع الذاتي لتأييد القصف الأعمى لأفغانستان معتبرا الحرب عادلة بكل المقاييس. لقد أصبحت المزايدة في دعم السياسة الأمريكية جزءاً من المعايير الجديدة “للشرعية الدولية” وأصبحت الهرولة وراء رضا المارد الأمريكي تتجاوز المعقول.

بعد أقل من شهر من أحداث أيلول، تقدم مندوبو الإدارة الأمريكية بلائحة المطالب الأمريكية التي تضمنت:

1 – تقديم كشوف عن المعلومات الأمنية المتعلقة بالمنظمات الإرهابية.

2 – تسليم قادة المنظمات “الإرهابية”.

3 – إغلاق المكاتب والقواعد.

4 – المساهمة المالية.

5 – تقديم مساعدات سياسية وإعلامية ومشاركة عسكرية حين الطلب.

6 – التوقف عن التحريض الإعلامي على الإرهاب (2).

لقد تم التقاط هذه الرسالة دوليا وليس فقط عربيا. فقبل الاحتفال برأس السنة الميلادية قامت في 14/12/2001 قوات مدرعة فرنسية وإيطالية مكونة من قرابة 50 شخصا من KFOR باقتحام مكتب الإغاثة العالمية GR في مدينة جاكوفا وحطمت الأبواب رغم تسليمها المفاتيح ثم صادرت ما في المكتب من أجهزة كومبيوتر وملفات وقوائم حسابات ومفكرات شخصية وجوازات سفر الموظفين وزوجاتهم والوثائق الخاصة بهم الصادرة عن UNMIK واعتقال من فيه. وقد تم تعذيب العاملين قبل بدء التحقيق معهم بحضور مراقب من FBI. يضاف إلى ذلك محاولات الإهانة أثناء النقل للمعتقل ومنها الأمر بخلع الملابس والتعرية والضرب العشوائي على أعضاء الجسم والتقييد بالسلاسل. بعد ذلك يتم النقل إلى القاعدة الأمريكية في بوندستيل حيث يستمر التحقيق في ظروف لا إنسانية تجمع بين العزل الانفرادي وفريق التحقيق الثلاثي الذي شملت أسئلته مهمات المنظمة الخيرية وأسباب حج المسلمين لمكة (3). هذا المشهد الذي حدث في كوسوفو، سيتكرر في باكستان والمغرب واليمن والأردن والكويت والمملكة العربية السعودية.

قدمت الحكومات العربية خلال هذه الحقبة أكثر مما هو مطلوب أحياناً، وأحياناً أخرى اختارت ما لم تكن أجهزة أمنها مورطة به، حيث أصبح من الضروري لكل سلطة قمعية أن تثبت بالدليل القاطع أنها تحارب “الإرهاب” ببادرة حسن نية. وباعتبار أن الولايات المتحدة الأمريكية جمهورية وديمقراطية، لها قراءة خاصة لحقوق الإنسان ابتعدت عن القراءة العالمية. قراءة تركز على الحقوق الفردية السياسية والمدنية بشكل أساسي ولا تعترف على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي أقرها العهد الخاص بها، كذلك لم تعترف بحق التنمية والبيئة وفق المعايير الدولية، وترفض الانضمام إلى الدول المصدقة على المحكمة الجنائية الدولية. لكل هذا، سنحاول في هذا النص التركيز على التدهور الذي طرأ على الحريات الفردية التي يعتبرها هذا البلد المرتكز الأساسي لمفهومه لحقوق الإنسان لإبراز تهافت هذا التصور على الصعيدين العربي والعالمي.

إثر تصريح لمساعد وزير الدفاع الأمريكي يقول فيه إن الحالة خطيرة بشكل يتطلب إجراء العديد من التحقيقات خارج الأراضي الأمريكية، وذلك بما لا يتناسب مع التزامات الأجهزة الأمنية الأمريكية في القانون الأمريكي واتفاقية مناهضة التعذيب؛ تبرعت عدة دول للقيام بالتحقيق على أراضيها بوجود ضباط أمريكيين. من المملكة المغربية إلى اليمن، ثمة تأكيدات على حضور مسئولي الأمن الأمريكي جلسات التحقيق وكل ما يرافقها من تعذيب ومعاملة لا إنسانية أو مهينة.

في شهادة قدمها المواطن الكويتي خالد الدوسري، المعتقل السابق في السجون المغربية، إلى اللجنة العربية لحقوق الإنسان، يعدد الدوسري وسائل التعذيب التي تعرض لها من تاريخ 11/6/2002 إلى 19/8/2002 (الضرب والجلد والحرق بأعقاب السجائر والحرمان من الطعام والنوم والإضاءة العالية وتكرار الضرب على الرأس ووضع صافرة في الزنزانة وشرب سائل يؤثر على الدماغ والسب والشتم والإهانة والإجبار على تقبيل أرجل المحققين والابتزاز والمساومة والإجبار على الإدلاء بمعلومات كاذبة مثل الانتماء لأمن القاعدة واللقاء بمسئول مخابرات عراقية ومسئول في حماس). وهو يؤكد في شهادته على وجود ضباط من المخابرات الأمريكية والسعودية في التحقيق والطلب إليه أن يصرح بوجود علاقة بين القاعدة والنظام العراقي مقابل الإفراج عنه (4).

بمجرد أن أعطى خالد الدوسري شهادته إلى اللجنة العربية وقناة “الجزيرة” وصحيفة “القدس العربي” جرت ملاحقته واعتقل الصحفي الذي أجرى معه المقابلة في الكويت ثم اعتقل شقيقه ووالده كي يسلم نفسه وأخيرا جرى اعتقاله. لم تتوقف حملة اللجنة للإفراج عن المتضرر الجديد إلى أن تم تحجيم الخسائر قبيل عيد الفطر بالإفراج عن خالد. والسبب في كل ذلك، رغبة الحكومات الأطراف في القضية بإخراس هذا الشاهد المزعج.

لم تكتف المملكة المغربية بترسيخ التعذيب جزءاً من التحقيقات، كما لم تكتف بالتوقيع على الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب، بل قررت الالتحاق بركب من يخصص له قانوناً. فكان إعداد مشروع “قانون الإرهاب”، الذي لاحظ زميلنا عبد الرحيم صابر، أوجه تشابه أساسية بينه وبين القانون الوطني الذي أقره الكونغرس الأمريكي (Patriot Act). ففي المادة 218 فقرة 1، هناك أحد أكثر تعاريف الإرهاب ميوعة واتساعا، في حين تتكفل الفقرة الخامسة من نفس المادة بتشديد العقوبات في كل ما يتعلق بالإرهاب، وبالطبع عقوبة الإعدام، العزيزة على قلب دبليو بوش، تتصدر القائمة. ليس من الغريب أن تشجع الفقرة السادسة من المادة نفسها على الوشاية بكل من يشك المواطن بأمره، وأن تخصص المادة 108/3 للسماح بالمراقبة التليفونية إلخ.

منذ اليوم الأول الذي بدأت فيه الولايات المتحدة توزيع قوائم الإرهابيين من تنظيم القاعدة، تطوعت أجهزة الأمن السورية بتقديم قوائم بكل من قال “لا إله إلا الله” في الحركة السياسية السورية إن داخل سورية أو في المنفى. وبالطبع جرى زج أسماء هؤلاء بعلاقة مع تنظيم القاعدة الذي أصبح بقدرة قادر أكبر تنظيم سياسي سوري معارض. تورط في هذه الملاحقات النائب العام الإسباني الذي لاحق بينوشيه (غارثون) وتورطت معه أسماء هامة في القضاء الأوروبي. كذلك وقعت في الفخ صحيفة “الحياة اللندنية” التي نشرت لمراسلها من دمشق أكثر من تحقيق يستند على معلومات الأمن السوري. لكن لم يلبث السحر أن ارتد على الساحر وصار إبراهيم الحميدي الذي أعد هذه المقالات نفسه معتقل رأي في دمشق.

هذا لا يعني أن الجبهات القمعية الأخرى قد هدأت. فقد حاكمت السلطات الأمنية في سورية العشرة الأفاضل وأوقفت الإفراجات عن المعتقلين بما في ذلك 36 شخصا في حالة خطيرة تم تجميعهم في سجن صيدنايا. وعادت إلى سياسة الاعتقال التعسفي بشكل شمل عددا من العاملين والعاملات في المجال الصحفي لإرهاب القلم. ورغم وعد الحكومة السورية لاتحاد البرلمانيين الدوليين بالإفراج عن النائبين رياض سيف ومحمد مأمون الحمصي ووعدها الاتحاد الأوروبي بالإفراج عن معتقلي خريف دمشق؛ ما زالت تتبع سياسة الترهيب والقمع بحق السياسيين والحقوقيين، مثل المضايقات التي يتعرض لها المحامي هيثم المالح واعتقال نشطاء أكراد وعاملين في الصحافة. علماً بأن ملفات أساسية على صعيد حقوق الإنسان ما زالت مجمدة مثل حرمان الآلاف من الكوادر السياسية من حقوقهم المدنية وآلاف السياسيين وأقاربهم من السفر ومعاقبة من يعود من المنفيين وإصدار قانون للمطبوعات يؤبد القوانين الاستثنائية باعتبارها قوانين عادية.

من الذين احتفلوا أيضاً بأحداث 11 أيلول، الرئيس التونسي بن علي. فقد ذكّر بإصداره المبكر لقانون لمكافحة الإرهاب (منذ 1993) ومجلة للصحافة قادرة على محاكمة كل مواطن يتحدث في الشأن العام. وقد عرض خدماته لأية مساعدة مفيدة أو ليست ذي فائدة، مشدداً على أوضاع المعتقلين من حركة النهضة في السجون، ومعتقلا لأكثر من رمز لحرية الصحافة والحركة الحقوقية. برز استهتار السلطات التونسية بالرأي العام العربي والدولي والمجتمع التونسي وتعبيراته المنظمة، في المعركة التي تخوضها ضد الأستاذ بشير الصيد، عميد المحامين في تونس، والقيادي المؤسس في اللجنة العربية لحقوق الإنسان، بالاعتداء على مكتبه وإحكام الرقابة على تحركاته وإجبار القضاء على ملاحقته واستنفار محامي السلطة ضده، في محاولة لضرب هذا المعقل المستقل للمجتمع المدني التونسي عبر رمزه المنتخب. أثناء إعداد هذا النص كان حمادي الجبالي وزهير يحياوي وعدد من المعتقلين في سجن الرومي يصارعون الموت في إضراب عن الطعام احتجاجا على الظروف اللا إنسانية التي يعيشونها. مكافأة على كل ذلك تلقت السلطات التونسية تصريحات أمريكية رسمية تقول “بأن الرئيس الحالي هو أفضل من يمثل الأمن والاستقرار في تونس، وتكفي تعديلات طفيفة في الوضع التونسي لاحترام حقوق الإنسان في هذا البلد”.

أما في الجزائر، فقد قتلت أحداث أيلول فكرة “الوئام الوطني” التي سعى الرئيس بوتفليقه لتسويقها عند وصوله للسلطة، ولم تعد الحكومة الجزائرية تشعر بأي حرج في كل ما تفعل. فهي تضرب العرب والبربر وتهزأ بالنضال المطلبي والنضال الديمقراطي وتستقبل الوفود الغربية الحكومية وغير الحكومية لتحدثها عن إنجازاتها في محاربة الإرهاب. تحتفظ الجزائر لنفسها بأكبر عدد للمفقودين والمعتقلين السياسيين في العالم العربي في التسعينات، ويعطي أنموذج المناضل الجزائري من أجل حقوق الإنسان الدكتور صلاح الدين سيدهم الملاحق منذ عام 1994 صورة عن وضع مأساوي لأوضاع الرموز المناهضة للخيار الأمني. فالجراح الجامعي لم ينج لا من تهم الجماعة الإسلامية المسلحة ولا من استشراس الأمن العسكري الجزائري. ورغم ظروف الملاحقة المضنية، أمضى سيدهم السنوات الأخيرة يمد منظمات حقوق الإنسان بكل ما يوثق عملهم من انتهاكات جسيمة وقعت منذ أصبح الحل الأمني الطريق الأوحد لخلاص الجنرالات في الجزائر. ومن الغريب أن لا تكون الحملة الدولية لحمايته من عسف السلطات الجزائرية كافية حتى اليوم ليخرج للعلن في وضع عادي.

في موريتانيا، اشترى (الرئيس معاوية) ولد الطايع بقاءه في السلطة بقرار التطبيع مع إسرائيل وشن الحرب على الإرهاب. ورغم معرفة السلطات الفرنسية بتورط الكولونيل في جرائم كبرى (وهو صاحب العفو المشهور عن مجرمي 1990 – 1991 وقرار اعتقال الشبيه ولد شيخ ماء العينين، زعيم الجبهة الشعبية)، أصبح يستقبل للنقاهة في أكثر من عاصمة أوروبية. كولونيل موريتانيا لا يتطاول فقط على الأحزاب السياسية ومنظمات حقوق الإنسان، بل سعى مؤخراً لضرب استقلال نقابة المحامين في موريتانيا عبر فرض مرشح للسلطة في وجه المحامي محفوظ ولد بتاح النقيب المنتخب.

المثل السوداني، يعطي صورة أخرى عن البعد السريالي للوضع الجديد: الجميع يعرف أن الدكتور حسن الترابي في المعتقل رسمياً لتوقيعه على وثيقة سياسية مع الجيش الشعبي في الجنوب. والجميع يعرف أن الحكومة قد تناولت في مباحثاتها ما هو أبعد بكثير من ورقة الترابي – غارنغ. مع هذا، أصبح الترابي السجين الذي يفضل الجميع بقاءه في السجن لأسباب مختلفة. الفقير الترابي لا أمريكا تطالب بالإفراج عنه، ولا شركاؤه في السلطة بالأمس يقبلون وساطة بشأنه، بل ولا حركة حقوق الإنسان التي شارك في ضربها في السودان تجد ضرورة للتحرك بأكثر مما يمليه الواجب الأخلاقي.

هذا المثل يتكرر في عدة دول عربية حيث تحّول ناقدو السياسة الأمريكية من الإسلاميين إلى سجناء مشبوهين بامتياز (par excellence)، إذ قلما نجد منظمة غربية تدافع عنهم أو تتصدى لحملة من أجلهم. حالة الدكتور سعيد بن مبارك الزاير في المملكة العربية السعودية تشكل مثلا صارخا لهذه السياسة. اعتقل الدكتور الزاير في الخامس من آذار 1995 إثر مطالبته بإصلاحات سياسية وإدارية في المملكة. لم يحاكم ولم توجه له أية تهمة حتى اليوم. طلب منه قبل فترة تقديم اعتذار للسلطات عن مواقفه، فرفض ذلك. وكان الثمن عزله عن العالم الخارجي، ما نجم عنه تدهور وضعه الصحي. ما زالت السلطات السعودية حتى اليوم ترفض الرد على مناشدات المنظمات غير الحكومية لحقوق الإنسان للإفراج عنه. غير الزاير هناك عشرات حالات الاعتقال التعسفي في المملكة التي يجري حولها صمت كبير، ولم نتعرف على وجودها إلا بعد أن قرر الملاحقون أو ذووهم مقاومة أجهزة الأمن عند محاولة اعتقالهم.

قبل أيلول 2001، كان وزير الخارجية القطري يتحدث عن انتخابات قادمة في 2002 ودولة مؤسسات في صدد التكوين، وتوسيع هامش الحريات ومراقبة دولية لمجريات الدمقرطة في البلاد. لم يجرِ فقط نسيان هذه الوعود، بل تم اتخاذ عدة إجراءات تحدد من الحريات وتقّيد حقوق المواطنين. فقد صدر في 2/7/2002 عن الديوان الأميري القانون رقم 17 “بشأن حماية المجتمع”، في ما يمهد للاعتقال التعسفي لكل مواطن ضمن المنطق الذي يذكرنا بقانون “حماية الجبهة الداخلية والسلام الاجتماعي” للرئيس أنور السادات في 1978 الذي يوسع سقف الاعتقال الإداري حسب رغبة الحاكم. وقد جاء في هذا القانون:

“المادة الأولى: استثناءً من أحكام قانون الإجراءات الجنائية، المشار إليه، يجوز لوزير الداخلية، في الجرائم المتعلقة بأمن الدولة أو لعرض أو خدش الحياء أو الآداب العامة، أن يقرر التحفظ على المتهم إذا ثبت أن هناك مبررات قوية تقتضي ذلك، بناءً على تقرير بالواقعة يرفعه مدير عام الأمن العام.

المادة الثانية: تكون مدة التحفظ أسبوعين قابلة للتمديد لمدة أو لمدد أخرى مماثلة وبحد أقصى ستة أشهر، ويجوز مدها لمدة لا تجاوز ستة أشهر أخرى بموافقة رئيس مجلس الوزراء. وتضاعف مدة التحفظ المشار إليها إذا كانت الجريمة تتعلق بأمن الدولة”.

إذاً تصل مدة التحفظ إلى سنتين ويحق لوزير الداخلية إغلاق المكان المرتبط بالجرم.

للحقيقة والتاريخ، يمكن القول إن المملكة الأردنية الهاشمية هي صاحبة الرقم القياسي في القوانين المؤقتة والاستثنائية منذ أعلنت حالة الطوارئ على الصعيد العالمي. فقد باشرت المملكة عملية إصدار القرارات المؤقتة لطمس ذاك الهامش الصغير الذي تنفست به البلاد إثر انتفاضة الخبز في نهاية الثمانينات واتفاقية وادي عربة. بلغ عدد القوانين المؤقتة هذه قرابة المائة (أي ثلث ما صدر في البلدان الإسلامية في الفترة نفسها من قوانين ومراسيم استثنائية). فضمن الهجمة الشارونية المسعورة والحرص الأمريكي على تبعية كاملة من المملكة الهاشمية، لا يُستَغرب أن يضحي الملك الشاب بكل ما يتعلق بالحريات الأساسية.

أما مصر، فتعتبر من أوائل الدول التي سنّت قانوناً خاصاً بمكافحة الإرهاب (القانون 97 لعام 1992). هذا القانون، الذي يخول للشرطة أهم وأخطر اختصاصات القضاء والنيابة العامة، يخالف كل الأصول الإنسانية والدستور والتزامات مصر الدولية. لم تكن مصر بحاجة إلى موجات اعتقال دورية للإخوان المسلمين والاتجاهات الإسلامية الأخرى توجه بها رسائل حسن نية منتظمة للحكومة الأمريكية عبر اعتقال ومحاكمة الإسلاميين المعتدلين بسبب وبغير سبب (5)، خاصة وقد شكلت إحالة الجامعيين المعارضين سلميا إلى محاكم عسكرية منعطفا خطيرا في احترام شكليات الاختصاص في مصر.

يبدو الأنموذج اليمني الرسمي أكثر الأمثلة خنوعاً، وكأنه بصدد التكفير عن مواقف اليمن في حرب الخليج الثانية. يعزو المسئولون اليمنيون موقف حكومتهم إلى كون اليمن طرفا في أكثر من حادثة وقعت ضد المصالح الغربية. ما يجعل اليمن بلدا مستهدفا في حال عدم تعاونه بشكل كامل مع الإدارة الأمريكية. لكن ماذا يعني التعاون الكامل: هل يعني أن تطلب الحكومة اليمنية من الإدارة الأمريكية تصفية مواطنين يمنيين على الأراضي اليمنية؟ إن هذه السياسة التابعة ستؤدي برأينا، إلى ردود فعل لا حصر لها، خاصة على صعيد العداء للغرب بخيره وشره. ولعل في مأساة اغتيال الأطباء الأمريكيين ما يعطي فكرة عن ردود الأفعال المتطرفة على هذه السياسة المتطرفة في تبعيتها.

رغم الأزمة العراقية والضغوط الدولية والحصار المطبّق على شعب هذا البلد، لم تتخذ الحكومة إجراءات جذرية لإعادة الاعتبار للمجتمع بعد أن صادرت السلطات منه حقوقه السياسية والمدنية وشاركها العالم بحرمانه من أبسط حقوقه الاقتصادية. فالعفو الصادر عن الرئيس العراقي لم يكن بالمواصفات المعلنة، وما زال في السجون عدد كبير من معتقلي الرأي. أما الحديث عن التعددية السياسية فما زال للاستهلاك الخارجي. لم تحاول الحكومة أن تطرح مشكلة المفقودين والمبعدين، فالأولى تشمل الآلاف والثانية 3 إلى 4 مليون نسمة. وكون مجلس الأمن قد ركز خلال سنوات على التفتيش على الأسلحة ولم يهتم جديا يوما بقراره الخاص بانتهاكات حقوق الإنسان، فقد تهمش ملف حقوق الإنسان في تواطؤ غير مكتوب بين الإدارة الأمريكية والحكومة العراقية.

شكّل الشعب الفلسطيني قربان الحرب ضد الإرهاب. وبتضحياته فرمل الهجوم الأمريكي على المنطقة. فدول أوروبا التي وقفت لأول مرة في تاريخها 3 دقائق صمت على الضحية الأمريكية لم تستطع مسايرة التبسيطية الخبيثة للإدارة الأمريكية التي حولت النضال الفلسطيني إلى جزء من الإرهاب العالمي وألبست آرييل شارون ثوب رجل السلام. في هذا المعمعان، تم اغتيال القانون الدولي الإنساني في وضح النهار عبر جرائم حرب منهجية ترتكبها قوات الاحتلال منذ مطلع الانتفاضة. وتقوم قوات الاحتلال بتدمير المساكن والقتل المتعمد خارج القانون وتطبيق حصار صحي ومعاشي على الأفراد ومصادرة الأراضي وضرب المناطق الزراعية وقتل الأطفال والمدنيين بشكل عادي دون أية إدانة من مجلس الأمن في مستوى الجرائم بسبب التواطؤ الأمريكي. يبلغ عدد المعتقلين في السجون الإسرائيلية قرابة 10000 سجين وموقوف.

لقد استنفرت المؤسسة الصهيونية العالمية كل ما بوسعها لضرب القضية الفلسطينية. عبر محاربة حق المقاومة بكل الوسائل، وسعى مسئولون في الجالية اليهودية لربط مكافحة الصهيونية بالعداء للسامية والتغطية على التطرف الأمريكي الصهيوني حتى في أوساط المنظمات غير الحكومية. رغم توثيق جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بحق أهم قادة الدولة العبرية، ما زال هناك استشراس لحماية الابن المدلل للهيمنة الغربية على العالم العربي. ولا بد من ابتكار يومي لوسائل جديدة للمقاومة والمحاسبة من أجل التمكن من خلق تناسب الحد الأدنى بين الجريمة والعقاب. إن في ذلك ليس فقط مصداقية الحركة العالمية لحقوق الإنسان، وإنما أيضاً الأسس التي يقوم عليها المفهوم الغربي للقانون الدولي.

في هذا الوضع المتردي، تشكل البحرين حالة خاصة. فمن جهة، خلقت إجراءات العفو دينامية مجتمعية متقدمة وكسرت حاجز الخوف وانعدام الثقة وفتحت آفاقا إيجابية للمستقبل. من جهة ثانية، استفاد المعسكر المحافظ من أحداث أيلول للمطالبة بوقف الإصلاحات والحذر في إعادة تكوين الهيكل التشريعي وجعل العفو يشمل الجرائم الكبرى التي لا تزول بالتقادم كجريمة التعذيب والقتل خارج القضاء. فوفقاً للمرسوم 56 لسنة 2002 الذي يفسر بعض أحكام المرسوم بقانون رقم 10 لسنة 2001، يشمل العفو الجرائم المرتكبة من موظف عام مدني أو عسكري مهما كانت مساهمته في الجريمة أصلية أم شريكة ومهما كانت طبيعة الجرم. وجاء قانون تنظيم الصحافة والطباعة والنشر، الذي صدر ليوم واحد قبل الانتخابات التشريعية، والذي ورد في الفصل السادس منه والمادة 77 بما يتنا في مع مبدأ الشفافية والديمقراطية وينطوي على تقييد غير مبرر لصحفيين ويعرضهم لعقوبات قاسية.

بعد هذا العرض السريع للنتائج المباشرة على حقوق الإنسان في العالم العربي، سنحاول رسم معالم الصورة الجيو سياسية آخذاً بعين الاعتبار الحريات الأساسية وحقوق الإنسان:

– إن حاجة الإدارة الأمريكية لأجهزة الأمن العربية في حروبها الخارجية “أعادت الاعتبار” لهذه الأجهزة وجعلت من الخطاب الأمريكي حول الديمقراطية في العالم العربي أضحوكة لا تنطلي على أكثر الناس سذاجة.

– من الواضح أن النتيجة الأساسية على الصعيدين النفسي والسياسي لتهافت الأنموذج الغربي لحقوق الإنسان، هو إفلات الدكتاتوريات الصغيرة من عقالها. فمن يبني سجن “إكس ري” في غوانتانامو غير قادر على المطالبة بإغلاق السجون العربية والإسرائيلية السيئة الصيت، ومن يصّوت على القانون الوطني لن يعترض على القوانين الاستثنائية في العالم العربي. لم تعد حقوق الإنسان في الخطاب الأمريكي الرسمي سوى عبارات مفرغة من معانيها تستهلكها الإدارة الحالية مع خصومها السياسيين على الصعيد العالمي.

– بعد إفلاسه في معارك الديمقراطية والتنمية والوحدة القومية، لم يعد للنظام العربي، مع تصويت سورية باسم المجموعة العربية على القرار 1441، ما يقوله في السيادة والاستقلال والقرار القومي. فالقواعد الأمريكية توسعت في الجزيرة والخليج، والوجود المخابراتي الأمريكي أصبح في أهم مراكز التحقيق في العالم العربي، حيث الأجهزة الأمنية العربية تقدم للدولة العظمى ما تطلب وما لا تطلب، وهي تعرف جيداً حجم التنسيق الأمريكي الإسرائيلي.

– إن رفض معظم الأنظمة العربية المراهنة على شعوبها والتعاون مع الإدارة الأمريكية في مشروعاتها الإقليمية، قد جعل منها ليس فقط السلطة التي تنتهك حقوق مواطنيها وترفض أي انفراج وإصلاح سياسي، بل أحد أهم المنتجين للعنف المجتمعي، مع كل ما يترتب على ذلك من نتائج على السلمين الأهلي والعالمي.

في ظل حالة الخراب السائدة هذه، هل ما زال بإمكاننا الفعل عربيا وعالميا، أم أننا خرجنا نهائيا من حركة التاريخ حكاما ومحكومين؟

برأينا، إن الهاوية التي سقط فيها النظام العربي وإن كانت ستترك آثاراً على المجتمعات؛ فإنها لن ترسم بالضرورة مستقبل الشعوب. وإن كانت هذه الشعوب الخارجة من محنة الاستبداد ومنظومة الفساد وتأصل الجهاز التسلطي فوق رؤوسها قد خسرت جزءاً هاماً من كرامتها ووعيها وقدرتها على المبادرة؛ فإن الانتحار الجماعي ظاهرة غير عربية ولا تنتمي إلى الثقافة الشرقية التي حرمت الانتحار بكل أشكاله ومبرراته. من هنا، لدينا الثقة بأن عملية التعفن الحالية، وإن كانت مشوهة بالعنصرية حيناً، وبالانغلاق على الذات أحيانا أخرى، أو بالتطرف الأعمى كرد فعل، فهي كما تقول الكيمياء الحديثة: مصنع الحياة، وبإمكانها أن تحمل بذور مستقبل مختلف لأطفالنا. والسؤال، هل يمكننا لعب دور في ذلك، أم أن جيلنا قد استنفد دوره؟

كما سبق وذكرت في أكثر من مكان في الأيام الأخيرة: ليس بوسع الحوانيت الصغيرة للدفاع عن حقوق الإنسان أو أشباه الأحزاب والنقابات المفصلة من فوق الرد على تحديات المرحلة. لعل مهمات كهذه تتطلب إعادة النظر في البرامج النضالية للمنظمات غير الحكومية على الصعيد العالمي. فخضوع السلطة السياسية لقانون الأقوى، والقدرة على تحجيم مقاومة الحكومات، وغياب الشرعية عن معظم السلطات التنفيذية العربية ومحاولات التدخل المباشر في سياسة دول حلف شمالي الأطلسي من قبل الولايات المتحدة؛ كل هذا أعطى لتعبيرات المجتمع المدني دورا مركزيا في إعادة بناء المقاومة للدفاع عن الحريات والحقوق. فهذه التعبيرات لم تعد فقط الوسيط بين المجتمع والدولة، وصمام الأمان تجاه العنف الداخلي، والرابط بين الشعوب والثقافات وآخر قلعة للدفاع عن مفهوم التضامن الأممي؛ بل أصبحت اليوم، باستعارة تعبير محمود محمد صلاح ومورو دوفارغ، المتحدث الرسمي باسم أخلاقية عالمية ضربها النظام العالمي الحالي في مكوناته البنيوية: اقتصادية كانت أم سياسية أم عسكرية.

إن شكل العدوان الواسع على العراق بداية حقبة جديدة يسحق فيها قانون القوة قوة القانون، فالرد على عنجهية القوة يتطلب الانتقال إلى المبادرة لجمع السياسي والحقوقي. أصوات مناهضة الهيمنة الأمريكية والمدافعين عن حقهم في الاختلاف، النقابي التقدمي والعامل في المجال الإنساني والخيري، المثقف النقدي ورجل الدين المقاوم، الحزب السياسي والمنظمة غير الحكومية. كل هذه القوى يقع على عاتقها إعادة تكوين شبكات المقاومة والدفاع عن الكرامة الإنسانية في لحظة حاسمة من لحظات التحلل السياسي والتعفن المؤسساتي ومحاولات استثمار وضع عربي منهار، لتعزيز الاستغلال والاستبداد على الصعيد العالمي.

في معمعان بناء جبهة ديمقراطية واسعة على الصعيد العالمي، يمكن الرد على التحديات الفعلية لأحداث 11 أيلول، أي مأساة انتصار البربرية في العقول والممارسات والمؤسسات.

للأسف، لم تتمكن الإدارة الأمريكية بعد من طرح الأسئلة الضرورية حول هذا الانتصار، ولم يشغلها البحث عن الإجابات الأنسب لمواجهته.

__________

* مفكر عربي والمتحدث باسم اللجنة العربية لحقوق الإنسان – باريس، والمقالة في الأصل نص محاضرة أُلقيت في لاهاي بدعوة من مكتبة شايلدرفيك في 31/1/2003.

هوامش:

1 – انظر: هيثم مناع، مترتبات السياسة الأمريكية في حقوق الإنسان على الأوضاع العربية، محاضرة بدعوة من الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان، المنامة في 14/12/2002.

2 – طلال الخالدي، ساعة ونصف هزت العالم، خريف دمشق والمستجدات العالمية، مقاربات، العدد الرابع والخامس 2002.

3 – من شهادة السيد أحمد حميد سعيد، 31/1/2002، أرشيف اللجنة العربية لحقوق الإنسان.

4 – من شهادة السيد خالد الدوسري، 22/9/2002، أرشيف اللجنة العربية لحقوق الإنسان. لم يكن ملف الدوسري قد أُغلق بعد عندما اعتقلت السلطات الأردنية في 24 رمضان مهندس الكومبيوتر ياسر فتحي إبراهيم فريحات وتحدثت وزارة الإعلام الأردنية عن دوره في اغتيال الدبلوماسي الأمريكي فولي وإحالته إلى محكمة أمن الدولة. انتزعت من ياسر تحت التعذيب إفادة بتورطه للاستهلاك الإعلامي وحتى اليوم لم يُحَل إلى أية محكمة عادية أو استثنائية وهو في سجن البيرين قرب الزرقاء. فهل نحن أمام ملف دوسري جديد؟

5 – انظر حول الموضوع: مها يوسف، عماد مبارك، مصط في الحسن، القوانين الاستثنائية وحق التنظيم في مصر، اللجنة العربية لحقوق الإنسان ومنشورات أوراب، باريس 2002.

أخبار الشرق – 4 شباط 2003

الحوار المتمدن-العدد: 388 – 2003 / 2 / 5 – 03:24