أكتوبر 13, 2024

الصراع العربي الإسرائيلي و تطور الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي

israel1كتبت هذه المحاضرة في  16/9/1997 وقد تم إضافة ما يؤكد توجهها من أحداث تبعت ذلك

بالرغم، أو بسبب الحساسية المفرطة لهذا الموضوع،  هناك غياب للدراسات المعمقة في هذا الموضوع (1). و أظن أن السبب عائد إلى أن مسألة كهذه تحتاج أولا إلى مقاربة متعددة الميادين تأخذ بعين الاعتبار :

1- علم نفس الجماهير المعنية بالصراع؛

2- أوليات تكوين الوعي السياسي السائد؛

3-طبيعة تكوين هياكل السلطة في أطراف الصراع و تطور هذه الهياكل و علاقة التطور بالعوامل الداخلية و الخارجية من جهة و التاريخية و المعاصرة من جهة ثانية؛

4- آليات (ميكانيزم) تكوين الطبقة السياسية و تجمعات المصالح المختلفة و طبيعة السلطة.

5- العلاقة بين الديمقراطية كمفهوم جاء مع التوسع الكولونيالي الغربي والممارسات التي تعرف الناس من خلالها على هذا الغرب سواء كان ذلك بالأمثلة الاستيطانية أو الاستعمارية.

* فإذا ما تناولنا القضية من وجهة نظر جيو سياسية و استراتيجية أو من وجهة نظر الانعكاسات المباشرة على التركيب المجتمعي يصعب اعتبار العالم العربي وحدة متجانسة في تأثرها بالصراع العربي الإسرائيلي . فمن الضروري تقسيم الدول العربية إلى فضاءات ثلاثة

1 – المجتمع الفلسطيني الذي شكل هذا الصراع بالنسبة له خطرا وجوديا مباشرا.

2 – دول التماس التي زرعت خارج حدودها قوة استيطانية عسكرية معادية و داخل حدودها مخيمات تأوي ضحايا هذا المشروع الاستيطاني.

3 – باقي الدول العربية  التي تعاملت مع الصراع ضمن منطق سياسوي عام أو تضامني شعبي دون أن تتأثر بنيتها الدولانية ونظامها السياسي، ولو أنها على الصعيد العسكري بقيت جزءا من حسابات التفوق العسكري الإسرائيلي المتفق عليه غربيا.

* أما على صعيد التكوين النفسي و أوليات الوعي الجماعي، فالمسألة مختلفة تماما و لا بد لنا من تناول يقوم اكثر على عنصر الزمان منه على عنصر المكان. و هنا يمكن الحديث عن تواريخ أساسية طبعت  التوجهات العامة للشارع العربي سواء بشكل عام أو في مناطق محددة من العالم العربي : ما قبل 1948 ، ما بعد 1948، 1956-1958 ، 1967 ، 1979 ، 1990. وسنحاول استقراء ما نراه أساسيا مع قناعتنا المسبقة بأن مداخلة واحدة غير كافية للإلمام بكل جوانب الموضوع والإسهاب فيه.

الصراع العربي الإسرائيلي والنسيج الاجتماعي- السياسي

حطمت نشأة دولة إسرائيل الخارطة البشرية الطبيعية لشعب فلسطين، وسواء كان عمل المحلل ماركسي النزعة أو فيبيريا، فقد أعيد نمط الحياة نفسه وفق ما آلت إليه حرب 1948 وأصبحت كلمة المخيم جزء لا يتجزأ من الوعي الجماعي من جهة و التركيب الاجتماعي من جهة ثانية. ويشبه المخيم الحياة بعد زلزال ارضي أو بركان فلا أرض و لا سكن و لا زرع ولا مؤسسات. و بهذا المعنى  حطمت ولادة دولة إسرائيل و هزيمة شعب فلسطين ما يمكن تسميته دون حرج بالترف الديمقراطي لحاجة الناس الماسة إلى أوليات البقاء على قيد الحياة.

إن إعادة ترتيب الأوليات هذه قد شلت الطموحات الديمقراطية الضعيفة بالأساس. أما دول التماس  التي خسرت حرب 1948، فقد علت فيها صيحات جيل جديد يعتبر نقص الجاهزية الحربية والاستعداد من أسباب الهزيمة.  الأمر الذي أعطى العسكرة قوة اعتبارية و قيمية كان الضباط بحاجة لها ليثبتوا جدارتهم في قيادة الأمة في الحرب والسلم. ولقد توجهت سورية ومصر باتجاه العسكرة بنسب مختلفة، ثم جنح الأنموذج السوري إلى الإفراط في حجم المؤسسة العسكرية التي اكتشف فيها قاعدة الاستقرار الأقوى لسلطته الهشة. فمنذ 1967 وعملية العسكرة تجري على قدم وساق، بحيث أن قوات الجيش والشرطة العسكرية تتجاوز في سورية النصف مليون شخص. لقد أعادت عملية العسكرة هذه تنظيم العلاقة بين التجمع المصلحي العسكري الحاكم والمجتمع جاعلة من الأخير الرعية الطائعة للأول. واستطاعت السلطة التسلطية العسكرية من لجم أي تحرك باسم المخاطر الخارجية. لن نكشف سرا عسكريا إن أشرنا إلى أن جدارة الجيش لا علاقة لها بهذا التضحم الباثولوجي وأن الوحدات الأحدث تسليحا هي تلك المكلفة بحماية السلطة وليست تلك المسؤولة عن حماية البلاد.

ليس بالإمكان القول أن العسكرة كانت خيارا استراتيجيا ناجحا أو ضروريا من وجهة النظر العسكرية، فأقوى أشكال المواجهة العربية الإسرائيلية كانت على حدود البلد العربي الأقل عسكرة (لبنان). ومنذ 1973 وسورية تعيش في ظل اتفاق وقف إطلاق النار ولم يجر أي اختبار فعلي لقدراتها على الجبهة السورية، وقد كان حضورها في اجتياح 1982 لبيروت مهزليا. لقد كان بإمكان سورية دون أية إشكالية أمن قومي أن تخوض في هامش من الحريات مشابه لذلك المسموح به في لبنان مثلا، إلا أن العقلية والتركيب كلاهما لا ينسجمان مع أية مغامرة تأخذ بعين الاعتبار كرامة المواطن.  ومن المؤكد، أن هذه العسكرة المفروضة على المجتمع قد قضت على أية طموحات للدمقرطة مهما كانت متواضعة.

 من جهته، لم يحتج الملك حسين إلى الإيديولوجية البعثية لفرض استتباب النظام منذ أيلول الأسود وحتى فورة الخبز الأردنية في 1989. إن الصورة الليبرالية الاقتصادية التي تعطيها المملكة في هذه السنوات لا يمكن أن تخفي واقع دولنة أكثر من نصف الاقتصاد المحلي وإمساك الحكم بمفاتيح السلطان السياسي والمالي. و إن كان ولاء البداوة له قد حجم مخاطر التواجد الفلسطيني، فإن هذا التواجد عينه، والذي تضاعف في ستة أيام، هو الذي خلق حالة من “الفوضى” سمحت بين حرب 67 ومأساة أيلول بتجربة غنية للتعدد والحوار والصراعات السياسية والفكرية في المخيمات ومعسكرات العمل الفدائي. لقد فتحت المقاومة الفلسطينية بمجرد وجودها في معسكرات اليأس الجماعية ساقية النقاش الحر من حولها مفجرة  حركة القوميين العرب و الحركة الناصرية والحزب الشيوعي السوري ومنعشة اتجاهات جديدة متعددة. ومن المؤسف أن انحسارها إلى بيروت قد ترافق مع تعزيز أجهزة الأمن على حساب أجهزة الثقافة  بحيث لم يتمكن مجلس أركان الفاكهاني من إعطاء الديمقراطية الأسبقية على التصفيات الجسدية والمؤامرات التنظيمية والتحالفات المخالفة للطبيعة، وكانت علاقة المقاومة التعسفية مع سكان جنوب لبنان من أسباب ردود الفعل العنيفة التي تولدت في الجنوب وأعطت الراية لحركة  أمل وحزب الله، و كلاهما كان ضعيف الإيمان بأهمية الديمقراطية. وتبقى الهمجية الإسرائيلية من أسباب زعزعة ثقة الناس في هذه المنطقة بكل شئ من الأمم المتحدة وحقوق الإنسان إلى القوى العظمى وحتى المنظمات غير الحكومية. فقد جربت إسرائيل كل ما في جعبتها من تشكيل دولة لحزام أمني  لاحتلال كامل لقصف متتابع لعقوبات اقتصادية واجتماعية وصحية  لجدار عازل. و كما قالت فيوليت داغر بمرارة في مداخلة  لها: “منذ عشرين عاما و الطائرات الإسرائيلية تبعث بالقنابل لتعلم أبناء جنوب لبنان طبائع الديمقراطية”.

يصعب الحديث عن تحولات بنيوية في بنية السلطة و الجيش خارج دول الطوق. فالجيش العراقي لم يزد عدده عن 90 ألف مقاتل قبل حرب الخليج الأولى.  أما العسكرة القذافية فمن المثير للسخرية أن نطرحها كعنصر في التوازن الاستراتيجي الإسرائيلي العربي وهي مفيدة أكثر كفزاعة لجمع أموال أبناء الجاليات اليهودية لصالح إسرائيل المهددة منها  لاستعادة شبر من أراضي فلسطين. ولا يزيد حجم المساعدة السعودية برأينا أهمية عن ذلك، فقد دفعت المملكة خوة  لأنظمة ومنظمات لجمت عنها مخاطر الأعمال المسلحة طيلة فترة الهيجان الفلسطيني في المنفى.

علم نفس الجماهير و تتابع  إفراز النخب 

أوجدت ولادة إسرائيل في المنطقة العربية صدمة نفسية هائلة على صعيد الوعي الجماعي العربي.  لم يكن بمقدور الإنسان العربي أن يقبل بوجود دولة إسرائيل بأي مقاربة كان، فلا هو مؤمن بوعد التوراة لشعب الله المختار وهو لم يكن طرفا في مشروع الإبادة النازية لليهود وقد سمع من تعلم منه في مدارس المستعمر أن دوله الديمقراطية قد حلت مشكلة الأقليات الدينية في الغرب إضافة إلى علمه بوجود شعب فلسطيني على أرض الميعاد. لم يكن من واجب الخطاب الوطني أن يبصر براءة الأطفال في عيون المشروع الصهيوني، ولم يكن للعلمانيين الراديكاليين أن يقبلوا بدولة قائمة على الأسطورة الدينية وهم ، كما قال حينها الشاعر المصري جورج حنين، يحاربون كل مرجع ديني للدولة. لقد فرض على الشيوعيين الموالين للسوفييت قبول موافقة موسكو لمشروع التقسيم و كانت النتيجة أن هذا الموقف قد همّشهم أكثر مما همّشهم خوف المؤمنين من الشيوعية.

إن الرفض الجماهيري للمشروع الصهيوني رفض حسي يقوم على أساس عقلاني رغم عفويته و يعتمد على إحساس رافض للظلم و شعور بالخطر. كان جدي الفلاح الذي توجه مرارا إلى حيفا للعمل المؤقت  قبل 1948 يحدثنا عن تلك المرحلة بالقول: ” ياجدي كنا نشتم رائحة الموت، هالناس عمتشتغل لتحكمنا كلنا”. لم يكن من مصلحة  الحركة الصهيونية أن تلجم عقال متطرفيها كما أن حركة التحرر الوطني العربية كانت تحتوي على كل أنواع مرق التوابل. ومن المجحف بحق عناصر الصراع الإقليمية أن نبحث في مملكة سليمان عن نوازع كره غير اليهودي أو في الخلافة الإسلامية عن أصول غياب الطلائع الديمقراطية. فأهم مصادر الاستلهام والتأثر العالمية والإقليمية والتاريخية لم تكن ديمقراطية. وعندما كانت، لم تكن بالقوة الكافية لإقناع مهديي العوام بالضرورة التاريخية للالتئام الاجتماعي في إطار تقاسم السلطة. فهذا المفهوم يعني طبقات الأمس الاجتماعية والسياسية ومناقشة إمكانية التعايش المشترك بين التعبيرات السياسية والمشاريع السياسية المختلفة.  لقد تزامنت نهاية المشروع القرون وسطي المحلي (الخلافة العثمانية) مع تصاعد الاتجاه العالمي للاوتوريتارية الثورية أو العنصرية :  بداية عهد موسوليني (1922) وستالين (1924) وصعود الفاشية في ألمانيا والأزمة الاقتصادية والاتجاهات المتصلبة في الولايات المتحدة. إن التواتر بين صعود الفاشية في أوربة والتفهم العالي لهذه الظاهرة  في الولايات المتحدة مع تواجد اتجاهات قومية غير ديمقراطية قد طبع جيل حركة التحرر القومية الصاعدة الذي سبق و انكشفت هزالة الشعارات الديمقراطية في ممارسات المستعمرين الغربيين. و ليس من الغريب أن نقرأ في الآن نفسه في تقرير لوزارة الخارجية الأمريكية صدر في 1937 : “إن الفاشية تناسب روح إيطاليا ” فقد “جلبت النظام بعد الفوضى و الانضباط بعد التسيب و الوفرة بعد الإفلاس “. (2)

إلى أي حد يمكن الحديث عن هوامش ديمقراطية في الحياة اليومية في ظل سلطات الانتداب في سورية الطبيعية ؟ لا شك بأن من المستحيل للقوات الاستعمارية أن تقيم سريعا أجهزة القمع اللازمة  لإخراس البشر خاصة و أن الجهاز العثماني لم يورث جزاريه لأحد. وفي مراحل الانتقال في بناء الكيانات السياسية من قبل قوات أجنبية هناك هوامش متعددة للعمل السياسي، هذه الهوامش ازدادت أهميتها مع بناء طرق المواصلات وإدخال التقنيات الحديثة التي أدمجت العوام في العملية التاريخية عبر وسائل  لم يبذلوا عسير جهد للحصول عليها. و بذلك غزت القرى السهلية و الجبلية المدن حاملة معها كما يقول محمد حافظ يعقوب أحقادها الصغيرة ويقظتها التي لا تميز بين تصفية الحساب القروي أو الطائفي والمشروع الحضاري(3 ). أما في بوتقة الصراع المباشرة، فلسطين، فيمكن القول أن الصراع الوجودي قد فرض أولوياته بحيث لم يكن تعبير تطور الديمقراطية في فلسطين ذي دلالة أساسية، في حديثه عن تلك الحقبة كتب جول ميجدال: “في فترة الانتداب البريطاني على فلسطين، فان الصراع المتواصل بين اليهود و العرب، فضلا عن النظام الكولونيالي الذي شجع الانقسام المؤسسي، قد منع تنامي مجتمع مدني يشتمل على كلا الشعبين في كافة أنحاء البلد. وحتى في داخل الحدود الاجتماعية لكل مجموعة من مجموعات المجتمع، فان ضرورات الصراع، والحاجة إلى حشد وتعبئة الناس والموارد بأوسع قدر ممكن، ومجابهة تحدي عملية التنظيم في إطار ظروف الكولونيالية، قد ركزت الاهتمام حول المنظمات السياسية المركزية لكل جانب. كانت تلك الفترة حاسمة لكل من الجانبين في مجال تطور العلاقات بين السياسة والمجتمع. وبالنسبة لليهود والعرب على السواء، فقد تدافعت المجموعات الأساسية من أجل بناء منظمات سياسية مركزية لمواجهة البريطانيين وبعضهما البعض، حتى قبل ذوبان المجتمعات نفسها في إطار الحدود الجديدة التي فرضها البريطانيون. لم يكن هناك مجال كبير لنشأة المنظمات المدنية ذاتية الاستقلال في كلا المجتمعين اليهودي و العربي، إذ أن المنظمات السياسية تطلبت السيطرة الكاملة على تنظيم الحياة الاجتماعية. “(4).

لقد صنعت النكبة أساطيرها و أيديولوجيتها المتمركزة حول العودة، الثأر والنصر. فقد ألغت قرارات الأمم المتحدة مفهوم الشرعية الدولية في أذهان الناس وضرب قرار التقسيم البعد التاريخي لصدور إعلان عالمي لحقوق الإنسان، ووضعت الشرعية الركيكة لأبناء الليبرالية الكولونيالية على كف عفريت. وتعبر سرعة وتيرة الانقلابات العسكرية في سورية عن مدى هشاشة كل مرجع محلي للشرعية بعد حرب 1948 ( 3 انقلابات في عام 1949 ؟) ولقد بدأت تنشأ شرعية “ثورية” بدون ثورات، شرعية تربط المصير بالمخلص -بالمفرد – حزبا أو فردا أو جيشا. ” لم يكن الطلب على الديمقراطية من قبل المحكومين في عقدي الخمسينات والستينات واهنا فقط بل وملتبسا على الأرجح. فلئن انخرط المحكومون في العقيدة التي يروج لها الزعيم الملهم بخصوص مساوئ الحزبية و التعددية وفضائل تغيب الرأي المختلف وسيطرة الحزب الواحد الذي يقوده الزعيم نفسه، فان هذا الأخير زرق خطاب التحرر السياسي بجرعة قوية من الأساطير التي تخلط بين الخصوصية والاستبداد والعدل والعسف” (5)

لم يكن التسلط خيارا وحيدا لدول التماس العربية و الدول الأخرى بل لعله وبكل المعاني قد شكل الخيار الأسوأ ، فلا وطن و خطاب وطني في غياب أسس المواطنة، لقد حقق المماليك انتصارات عسكرية هامة تبعتها عقود انحطاط ولم تكن انتصارات الجيش الانكشاري العثماني أقل عارا. أما بالنسبة لدولة إسرائيل وحملة إيديولوجية الدولة اليهودية فقد كانت خياراتهما محدودة إلى حد كبير، ولا نستغرب شبه الإجماع على شكل طائفي للنظام السياسي مع هيكل برلماني للقادمين من بلدان ليست ذات خبرة ديمقراطية، ففي الوعي الجماعي والسياسي لحقبة نشأة الدولة، يشكل العمق اليهودي في الغرب المحور المركزي لالتزام دول الغرب بدعم إسرائيل والمنظم الأساسي لقنوات الثروتين الوافدتين  البشرية و المالية. ولا يمكن للإسرائيليين تعبئته أو منحه  السلاح اللازم على المدى الطويل دون انتساب الحد الأدنى في الأنموذج والمصالح مع الدول الغربية. لقد حول الإسرائيليون عدوانيتهم باتجاه الشعب الفلسطيني والعرب للتمكن من بناء شبه انسجام داخلي أساسه النحن والآخر، وشكلت فكرة القبيلة المحاطة والمحاصرة  التي تخوض معركة وجود أو لا وجود  أساس الضرورة الحيوية لمفهوم المشاركة في السلطة وتداولها. إلا أن البعد الطائفي للدولة لم يتوقف عند غير اليهود،  فقد دخل في شرايين التركيب الاجتماعي اليهودي نفسه خالقا هوة كبيرة بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين من جهة  وتحت انتماءات وفق بلدان المنشأ من جهة ثانية. على صعيد الانسجام الأيديولوجي ستبقى الصهيونية لسان حال الأغلبية الساحقة رغم قراءاتها السياسية المختلفة. أما العسكرة البنيوية للمجتمع والدولة فقد أظهرت منذ وقت مبكر أن الجيش وسيلة ارتقاء سياسية اكثر هيبة من الحزب والجامعة، وفي اجتماع هذا الثلاثي تكتمل الصورة.

بنت الإيديولوجيات القومية العربية خطابها المهدوي على حتمية واقتراب الانتصار الذي يزيل العار عن الأمة المغتصبة، وقد منحتها التجربة الناصرية الصاعدة زخما نفسيا هائلا  فعبد الناصر أمم القناة وحقق الاستقلال وأول وحدة عربية معاصرة بالإمكان الذهاب معه إلى آخر الشوط لتحقيق الرسالة الخالدة المنشودة. لذا ورغم الإنتاج السياسي الخصب لتجربة 1954-1958 لم تناقش بجدية من أي طرف جماهيري قضية الحفاظ على التعددية الحزبية والاستقلالية النقابية والأهلية. وعلى العكس فقد استخدمها خالد بكداش الأمين العام للحزب الشيوعي السوري كذريعة لرفضه للوحدة ورفض فكرة حل حزبه. أما بالنسبة لعبد الناصر فلم يكن هناك أية أوهام حول ضرورة العودة إلى ما اعتبره جيله النظام الملكي القديم:  في مقابلة للرئيس جمال عبد الناصر مع رئيس تحرير جريدة هندية في مارس 1957 قال الصحفي: هل يمكنني أن أوجه إليك السؤال التالي : ماهي الديمقراطية ؟ و يجيب ناصر : كان يفترض وجود نظام ديمقراطي في مصر في الفترة الواقعة بين عامي 1923 و 1953 . و لكن ما الذي قدمته هذه الديمقراطية لشعبنا ؟ أقول لك : في تلك الفترة كان ملاك الأرض والباشوات يحكمون شعبنا . لقد استخدموا هذا النمط الديمقراطي :أداة سهلة لتحقيق مصالح النظام الإقطاعي. لقد رأيتم الإقطاعيين يجمعون الفلاحين و يسوقونهم إلى غرف الاقتراع، حيث كان الفلاحون يدلون بأصواتهم طبقا لتعليمات سادتهم .. إنني ابغي تحرير الفلاحين و العمال سواء من الناحية الاجتماعية أو من الناحية الاقتصادية ، بحيث يمتلكون القدرة على قول “نعم” . إنني أود أن يصبح بمقدور الفلاحين والعمال أن يقولوا “نعم” و “لا” دون أن يؤثر ذلك على سبل رزقهم و قوتهم اليومي. وهذا من وجهة نظري هو أساس الحرية والديمقراطية”(6).

 لم تكن قناعة الضباط البعثيين السوريين تختلف قيد أنملة عن هذه الاطروحات، و قد كان في جمجمة معظم أعضاء اللجنة العسكرية التي تشكلت سرا في مصر هذه الشعبية الأسطورية للزعيم التي يمكن أن يعاد إنتاجها، عبر شخصه،  في ماركة بعثية مسجلة.

لم تشكل حرب حزيران 1967 بهذا المعنى المنعطف الذي أعاد للديمقراطية الاعتبار بعد هزيمة النظامين الناصري والبعثي في الحرب، فالأقلام الجديدة تتحدث عن حرب التحرير الشعبية و نجاح ستالين في عملية تصنيع الاقتصاد السوفييتي كما يؤكد صادق جلال العظم، وتجمع الستالينيات “الجديدة”  على أن الثورات الناجحة هي تلك وحسب التي قادها حزب شيوعي ثوري، وان من الترف إضاعة الوقت مع القوى الانتهازية على يمينه والطفولية على يساره. إلا أن كره الستالينية نفسه وسيف القمع، أكثر منه وعي ضرورة تاريخية، سيجعل للمدافعين عن الحريات الأساسية وحقوق الإنسان أنصارا في صفوف اليسار في مصر و سورية و لبنان.

لقد كنا جميعا نعيش تحت طائلة هزائم الجيل الذي سبقنا وهاجس هزيمة محتملة الأمر الذي عزز مواقع أصحاب المواقف الصارمة و اظهر الاتجاه الأكثر ديمقراطية كتعبير للميوعة و الهلامية وضياع الرؤية الواضحة. و للأسف فان أول حملة الكتابات الديمقراطية كشعار مركزي كانوا في الممارسة يغطون تجاوزات الأصوليين ويتسترون على الطبيعة التعسفية لمصادر لقمة خبزهم الفلسطينية أو الليبية أو العراقية أو السورية  وبشكل أقل من اليوم،  دول الخليج. أما الجمهور الأوسع فلم يعد يثق بعالم الإنسان فصعد إلى السماء بحثا عن نجدة الله لإنقاذه من ظلم حكامه والصهيونية والإمبريالية الذين اتفقوا على كون الديمقراطية علاج غير ناجع له. إن إسرائيل ، كما يقول عزمي بشارة، ” تميل إلى الاعتقاد بأن الديمقراطية في أي بلد عربي تعتبر مجازفة كبيرة، بمعنى أن إسرائيل لم تتغلب – و لا اعتقد أنها في المدى القريب سوف تتغلب – على شعورها بالغربة في المنطقة، وعلى شعورها بأن التقدم و التكنولوجيا و الديمقراطية العربية هم تهديد لها.” (7).

ولا شك بأن مفهوم السيادة بمختلف تعريفا ته السياسية والاقتصادية ذو صلة مباشرة وبآن معا بالديمقراطية في العالم العربي وبالصراع العربي-الإسرائيلي في ذاته وفي مجمل صلاته بالحقبة الكولونيالية الجديدة.(8) ومهما جعلت العولمة من هن السيادة قضية نسبية، فقد قامت بذلك في إطار الهوة اللا متكافئة بين نسبية عالمثالثية ومبالغة في سيادة الأقوى وتنصبه فوق القانون والجغرافيا وإمكانية محاسبته أو تقييم أفعاله. بالانطلاق من هذه الواقعة يصعب تصور سيناريوهات أمريكية تصب في صالح تشكل دولة-أمة ذات طابع ديمقراطي و تنموي في الأرض العربية. و بهذا المعنى التقت المصالح الأمريكية والإسرائيلية مع الكيانات التسلطية على أكثر من جبهة ومن أكثر من منظار.

فلقد فرّغت هذه الدول مفهوم السيادة من محتواه بتغييبها للمواطنة باسم الوطن وخلطها بين أمنها كسلطات وسيادة الأمة، فالحكومات المتتابعة للفريق حافظ الأسد، القائد العام للقوات المسلحة في دولة تماس لأطول فترة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي تعتبر هذا الأمن عينه سببا لغيابٍ مشروعٍ وإرادي لديمقراطية ليست مناسبة لهذه الدولة  التي ” لا تشكل نسخة مطابقة لأي دولة في العالم” ،   ناهيكم عن حرفها شعبنا الصامد عن متطلبات الصراع مع العدو :

في ردها على حملتنا للإفراج عن ناشطي حقوق الإنسان في سورية أجابت الحكومة السورية عبر بعثتها في جنيف السكرتير العام المساعد لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة في مراسلة سرية:

” إن نظام حالة الطوارئ في أي بلد من بلدان العالم نظام استثنائي لا يخرج عن روح الدستور ونصه. وهو نظام شائع في كثير من دول العالم التي لها ظروفها الاستثنائية، ونظام حالة الطوارئ في الجمهورية العربية السورية قائم على الخطر المحيط بالوطن في ظروف طارئة تسوغ للسلطة المدنية إصدار تشريعات استثنائية مستنبطة من روح القانون لحماية أراضي الدولة ومياهها وأجوائها ضد الأخطار المحدقة بها. وقد أنشأت حالة الطوارئ في وطننا في ظل الظروف الاستثنائية التي يعيشها وطننا نظرا لحالة الحرب القائمة مع إسرائيل واحتلالها لجزء من أراضينا حتى الآن، إضافة لتهديداتها المستمرة لأمن وسلامة وطننا، وهذه الحالة الاستثنائية تفرض إيجاد صيغة تشريعية استثنائية لاستيعابها والتي قد تكون متشددة بسبب حالة التهديد المستمرة الناجمة عن ظروف الحرب مع العدو الإسرائيلي.”(9).

 لقد أوجد تحطيم التعبيرات السياسية والاجتماعية والثقافية في المجتمع السوري فراغا هائلا يتجاوز بكثير أبعاد الصراع العربي الإسرائيلي الأمر الذي يجبر السلطة على التذرع بهذا العامل في الحرب والسلم كلاهما. ولا أوهام البتة حول ضغوط غربية لدمقرطة البلاد فأقصى ما تطالب به الحكومات الغربية هو  تخفيف حجم المؤسسة العسكرية ووقف الهجرة البشرية إليها وضمان سلامة من تبعده عن أراضيها و إسداء النصح غير المباشر لعقلنة أفضل للقمع. ويمتلك الأردن اليوم هامشا كبيرا لاستعادة الصرامة الضرورية لضرب “أعداء السلام”، فليس ثمة من يتحمل فتح جبهة أردنية بعد ما آلت إليه الأمور بفضل اليمين المتطرف الإسرائيلي.

أما على الجبهة الإسرائيلية وحيث هاجس الاستفادة القصوى من حقبة الهيمنة الأمريكية قد رافق مخاوف صعود الحمى الإسلامية فقد تغيرت نسب مكونات المجتمع الإسرائيلي من جديد بوصول موجات كبيرة من اليهود الروس الملوثين بالتعصب وآفات المافيا الروسية وأكثر اليهود تطرفا في أنحاء العالم في السنين العشر الأخيرة. ومن الصعب الحديث عن اندماج مدني بقدر ما يمكن الحديث عن تماسك عصبوي بالمعنى الخلدوني. تتحول التجربة البرلمانية بشكل اكثر وضوحا إلى تحالفات ما تحت دينية يشكل الدين بالنسبة لها الغطاء الشرعي الأقوى، ويعيش هذا المجتمع ثنائية الخوف من كلا استمرار الحرب و ضرورة استمرارها باعتبار هذا الفوبيا المزدوجة الإنتاج الأكثر تماسكا وقوة منذ بدء الصراع، لقد كشف اغتيال اسحق رابين ومن بعده انتخاب اليمين المتطرف عن البعبع المختبئ وراء التعبئة الحاقدة والعنصرية تجاه غير اليهود والتي لم يعد بالإمكان إيقافها دون زعزعة جملة الأسس الإيديولوجية التي تربت عليها الشبيبة الإسرائيلية. هذه الأسس  أضحت تهدد المنظمات غير الحكومية نفسها بل والهامش البرلماني الإسرائيلي. ويمكن القول أن فئة الخارجين عن القانون الدولي بالمساعدات الدولية من المستوطنين قد أصبحوا قوة انتخابية في بلد مازال بإمكان التشكيلات الصغيرة أن تعطي أغلبية برلمانية. لا يهم إذا كان الاستيطان وفق المحكمة الجنائية الدولية جريمة ضد الإنسانية فأن الدولة العبرية لن تصدق عليها ولن تحترم ما صدقت عليه؟

تفتت موضوعة الصراع المركزي و آثارها على العملية الديمقراطية

ليس بالإمكان حصر مفهوم النكبة وآثار النكبة السياسية والبشرية بشعب فلسطين، وإن كان من المبالغ فيه مقارنة من خسر كل شئ مع من تباكى تضامنا مع الشعب الشقيق الخاسر. إلا أن هذه النكبة قد أدخلت القضية الفلسطينية  في سلم أولويات الوعي العربي الناشئ. وفي معركة السويس كما في جبال الأوراس، لم يكن الجرح الفلسطيني غائبا، و بهذا المعنى لم تكن الحدود لتؤثر على مشاعر الجمهور. وقد شاركت الأنظمة العربية مجتمعة، بنسبة أو بأخرى في ضرب موضوعة الصراع المركزي ليس عبر التوجه نحو البناء الداخلي والاهتمام بالشعب و إنما عبر تحالفات وصراعات حددتها مسبقا تحول دون السماح من الاستفادة من الجانب التعبوي للقضية الفلسطينية. ولعل أكبر عملية ناجحة في زعزعة مركز الصدارة للصراع العربي الإسرائيلي كانت في التعبئة الخارقة للمعتاد من اجل تحرير أفغانستان من العدو الملحد الشيوعي. فقد جمعت أفغانستان الصورة المثالية للجهاد السلفي: دولة مسلمة محتلة من جيش احمر شيوعي والمجاهدين فيها يتعاونون مع الولايات المتحدة الصديقة.

لقد خففت حملات التضامن الهستيرية مع أفغانستان في المملكة العربية السعودية ودول الخليج من بريق المقاومة الفلسطينية التي تتحدث عن دولة علمانية ديمقراطية ويعادي أكثر من فصيل فيها  الولايات المتحدة، الحليف الرئيسي في المنطقة. إلا أن هذه الحملة لم تكن بقوة الحرب العراقية الإيرانية التي خرجت من حدود السعودية و العراق لتصبح موضوع نقاش الفضاءات السياسية في البلدان الإسلامية كافة. ولعل هذه الحرب التي كلفت اكثر من مليون و نصف مليون قتيل في ثماني سنوات كانت وراء نقل الصراع العربي الإسرائيلي إلى الدرجة الثانية أما احتلال الكويت فقد اصل تهميش أهمية هذا الصراع في البلدان الخليجية والبلدان البعيدة كتونس والمغرب وأظهر بنفس الوقت أولا هشاشة الاطروحات الديمقراطية العربية حيث اكتشفنا هاجس البحث عن الفحولة المنتصرة عند عدد كبير يتغلب على طبيعة النظام العراقي وثانيا مهزلة ما سمي بالنظام الدولي الجديد الذي استنفر العالم ضمن الاستراتيجية الأمريكية للسيطرة على مصادر الطاقة النفطية. وبرأينا، لم يكن هاجس الديمقراطية يدغدغ مشاعر أحد، وحتى حق الحياة، أول حقوق الإنسان إقرارا في تاريخ البشرية، اصبح محتقرا إلى درجة الاشمئزاز مما آل إليه الوضع البشري. وعلى مشارف مدريد  احتلت الهموم الداخلية في الجزائر والعراق وليبيا واليمن  الصدارة في التسعينات، واتبعت الأطراف  المفاوضة سياسة “كل من يده له” باستعارة تعبير الكوميدي السوري دريد لحام. أي أن فترة سقوط جدار برلين وإعدام شاوشسكو وما تبعها  توافقت مع أهمية اعتبارية اقل  للصراع العربي الإسرائيلي، ومن الصعب برأينا  الحديث عنه كعامل في الدمقرطة على الشاطئ العربي. وكما تغيب بصمات القضية الفلسطينية عن انقلابي 1989 في السودان و 1992 في الجزائر والحرب الأهلية في اليمن، يصعب إبصار الانفراجات المحدودة كنتائج مباشرة أو غير مباشرة لبداية عملية مدريد. لقد حاولت السلطات العربية في العقدين الاخيرين من صراع مستمر منذ نصف قرن  إقناع الناس بأن تحرير القدس يمر عبر كابول و الأهواز و الكويت و تشاد، وأوجدت حالة قرف من الاستعمال الكلامي البضاعي والتجاري لكلمة فلسطين، فيما همش في الواقع كلمتي الصراع العربي الإسرائيلي ومبدأ التعامل مع الناس كمواطنين بالغين عقلاء.

لقد بدا هذا الدور الهامشي للصراع أيضا في نهاية حقبة الفريق الأسد والتي يصعب المراهنة على الصراع العربي الإسرائيلي كطرف موجه لخيارات البلد السياسية الداخلية. كذلك الأمر في حيثيات السعي العربي الرسمي لتسوية الحد الأدنى وهشاشة السماح الديمقراطي في الأردن وأولوية الأمن الإسرائيلي والاستقرار الإقليمي في التصور الغربي لمستقبل المنطقة. إلا أن الطريق المسدود لاتفاقيات أوسلو وخنق ما تبقى منها من قبل اليمين المتطرف الإسرائيلي، ثم التوافق بين أحداث الحادي عشر من سبتمبر وانتفاضة الأقصى قد أعادت المسألة الفلسطينية للذهن الحي باعتبارها من جديد المرجعية الأولى لتحديد موقف من الهيمنة الأمريكية على العالم والتحالف الإسرائيلي الأمريكي العضوي. وجاء احتلال العراق ليكسر كل المفاهيم بما في ذلك الشرعية الدولية والشرعة العالمية لحقوق الإنسان والقانون الدولي والسيادة والحرية كشرط أساسي للأمن. وبذلك عدنا القهقرى، من شوارع نيويورك إلى شوارع القاهرة، في وضعنا البشري كأفراد وجماعات وعادت العلاقة مع حقوق الإنسان والحريات الأساسية علاقة ضرورية ولكن غير نافعة في زمن الاحتلال والإذلال. حق المقاومة أخذ حيز السبق مع السياسة الأمريكية الطامحة لبناء إمبراطورية عبر إعادة بناء البطن الرخو في القرن الواحد والعشرين: العالم العربي. الديمقراطية البوشية مشبوهة كسياسته الخرقاء وحقوق الإنسان تتلقى خنجرا جديدا في الظهر باسم هذه الحقوق في قراءتها الأمريكية.

من كفر قاسم إلى قانا ، قامت إسرائيل بفعل ما يجب لإذكاء شحنات حقد هامة في الوعي الجماعي العربي رجحت الهم الوطني على الهم الإنساني و الديمقراطي. إلا أن التوظيف السياسي المبتذل للأحاسيس الشعبية قد ارتد عليها سلبا فيما زعزع الثقة بالسياسة بالمعنى الواسع للكلمة أي بثقة الأفراد في فكرة المشاركة العامة في قضايا وهموم الأشخاص والجماعة. وبعد أن عززت الإيديولوجية الصهيونية الإيديولوجيات القومية العربية بشكل رد فعلي، لم يلبث النموذج الإسرائيلي أن أصبح مثلا يضربه الإسلاميون لنجاح دولة اعتمدت الدين أساسا لمفهوم الشعب والأمة. ليس بالإمكان اعتبار ولع المغلوب بتقليد الغالب وفق ابن خلدون تفسيرا كافيا لهذه الظاهرة، فالتمييز الطائفي بين   اليهودي و”الغوي”(غير اليهودي) يجعل من عاديات الأمور إقامة تمايز بين المسلم وغير المسلم.

ها نحن في حقبة تتميز بجسامة الضغوط لتهميش  مزدوج للصراع العربي الإسرائيلي وللديمقراطية معا، الأمر الذي يعقد إشكالية العلاقة بينهما أكثر فأكثر. فقد أوصلتنا التشكيلات التسلطية إلى ما يعبر عنه محمد السيد سعيد بالقول  ” التشكيلة السياسية السائدة لا تسمح بتولد الديمقراطية إلا بقدر يسير. إذ أن الاستقطاب شبه الثنائي بين الدولة شبه الليبرالية والقوى شبه الشمولية لا يستدعي كثيرا من الآمال الديمقراطية. فالدولة ذاتها لا تصور نفسها باهتمام كبطل للديمقراطية والقوى الإسلامية المنافسة لا تدين الدولة  لأنها ديمقراطية أو حتى لأنها غير ديمقراطية. فالصراع لا يدور أصلا حول الديمقراطية إلا كنتاج ثانوي” (10).

إن تتبع مسألة الصراع العربي الإسرائيلي وتطور الديمقراطية يوجه أنظار الباحث إلى عاملين أساسيين في الصراعات البشرية هما الذاكرة الجماعية لشعب وتأثير التصرفات العدوانية ذات الطابع التفوقي، أي القائمة على إذلال الآخر، على أواليات تشكل الوعي في المجتمع. فمهما كانت أهمية العوامل الجيو استراتيجية والطبقية والاستراتيجيات الإقليمية و العالمية، فإن نفسية الأفراد والجماعات ترتكز أيضا على شحنات انفعالية وعاطفية هامة تجعل الحديث عن تهميش موضوعي للصراع العربي الإسرائيلي  مسألة جد نسبية ومتعددة الاتجاهات. إن نظريتي الأمن الأحادي الجانب والحفاظ على التفوق العسكري اللتان يجمع عليهما اليسار واليمين في إسرائيل منذ أكثر من خمسين عاما تشكلان المصنع الأكبر لإنتاج الحقد والعنف في المنطقة على ضفتي الصراع. إن أكثر الأحاسيس إيلاما الشعور بالظلم ولم يشكل اغتصاب كرامة الآخر في يوم من الأيام عامل أمان واستقرار نفسي للغاصب. من هنا الإحساس العفوي الرد فعلي والغالب إلى أن استعادة الحق مسألة تسبق الحق في الحريات. هذا الحس التلقائي الخديج (غير المكتمل)لم يبلغ بعد حالة عقلنة الضروريات في حاجات شعب، أي إدراك دور الديمقراطية في القضاء على العدوان، كونه في غيابها،  بوعي أو بدون وعي، تنفذ الضحية برنامج الجلاد.

بالنسبة  لنعوم تشومسكي” ليست النظريات الاستراتيجية والعلوم السياسية إلا أدوات طيعة ومرنة مما يجعلها مستعدة باستمرار لتقديم الحجج والتحليلات اللازمة لتدعيم الاستنتاجات التي تم التوصل إليها في لحظة معينة” (11)، بالنسبة لنا، ثمة راهنية لوقف  استعمال قميص عثمان كذريعة أو كمبرر، في الحرب والسلم واللا حرب واللا سلم، كأداة  لا غنى عنها لحاجة السلطات التسلطية والمشاريع التسلطية إلى أمنها الخاص المبطن بخطاب تعبوي عند الضرورة وشحنة ضرورية من اللاعقلانية. فمن الواضح أن  المنظم الأساسي للعلاقة بين الديمقراطية والصراع العربي الإسرائيلي  يكمن أولا في العقد المجتمعي والسياسي  بين الحاكم والمحكوم.

——————————————————–

ملاحظات :

1 ) لم يجد نعيم شهرباني  ما يجعله يصنف كلمة ديمقراطية في كتابه ” النزاع العربي -الاسرائيلي : ببلوغرافيا مشروحة لكتب و نشرات عربية “، الجامعة العبرية في القدس ، 1988.  ولا يتجاوز ما قرأناه مقالات صحفية  سطحية التناول غالبا.

2 ) نعوم تشومسكي ’ ردع الديمقراطية  1992، مؤسسة عيبال ، نيقوسيا ، ص 46 . Noam Chomsky   DETERRING DEMOCRACY

3 ) من نقاش مع الكاتب الفلسطيني حول موضوع هذه الدراسة.

4 ) عن كتاب : الديمقراطية في الشرق الاوسط، الطبعة العربية. محرر الطبعة العربية : أحمد عبد الله.جامعة واشنطن، مركز الجيل: جول ميجدال : المجتمع المدني في إسرائيل، ص 275

5 ) محمد حافظ يعقوب ، العطب و الدلالة في الثقافة و الانسداد الديمقراطي، مواطن ، المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، 1997 ، ص 110-111.

6 ) مقطع مترجم في كتاب  الديمقراطية في الشرق الأوسط نفسه عن :

British Broadcasting Corporation Summary of World Broadcasts (reading) 12 march 1957  194

7 ) التسوية السياسية ، الديمقراطية وحقوق الانسان، نصوص جماعية قدم لها  عبد المنعم سعيد وحررها جمال عبد الجواد. كراسات ابن رشد، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان 1997 ص 4. يشاطر الصديق محمد السيد سعيد عزمي بشارة هذا الرأي ذاهبا إلى القول “ليس ثمة أدنى مصلحة لإسرائيل في تحول النظم السياسية العربية إلى تبني قيم الديمقراطية والحداثة  والتسيير العقلاني للمجتمع. بل  العكس هو الصحيح. أي أن من مصلحة إسرائيل إن تستمر لدى العالم وكأنها واحة الديمقراطية في محيط لا عقلاني ومتخلف. بل ينبغي أن نخطو مسافة أوسع للتأكيد على أن سياسات إسرائيل هي ذاتها أحد أهم أسباب تأخر التحول الديمقراطي في المجتمعات العربية، و إنها تكرس واقع الاستبداد والتعسف والعنف في السياسات العربية” ( محمد السيد سعيد، إنه الاحتلال وليس الأمن أو فقدان الجاذبية، الحياة، 3 سبتمبر(أيلول) 1997.

8) لا نشارك عزمي بشارة في نفس المصدر أعلاه قوله ” لا يمكن الحديث عن ديمقراطية بدون مفهوم الأمة، سواء كانت الأمة متجانسة أم غير متجانسة ثقافيا” (ص 44). من هنا محاولتنا إعادة الصياغة الحذرة للعلاقة بين السيادة و الديمقراطية والصراع .

9 ) رسالة البعثة السورية في جنيف إلى السكرتير العام المساعد للأمم المتحدة، تاريخ 14/7/1992، مسجلة في 4 سبتمبر 1992.

10 ) محمد السيد سعيد، إشكاليات تعثر الديمقراطية في العالم العربي، ورقة مقدمة إلى مؤتمر بهذا العنوان، القاهرة ، 29 فبراير-3 مارس 1996.نظمه مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان ومؤسسة مواطن ومجلة  السياسة الدولية.

11) تشومسكي ، نفس المصدر ، ص 8