أبريل 19, 2024

أميركا وحقوق الإنسان الآخر

news_image_file_23526ليست الغاية من هذه الدراسة رصد انتهاكات الإدارة الأميركية الحالية لحقوق الإنسان داخل أراضي الولايات المتحدة الأميركية وخارجها. فثمة منظمات غير حكومية أميركية ودولية لحقوق الإنسان قامت وتقوم بهذه المهمة باختصاص ومهنية. إنما الغاية هي تتبع ما نسميه بالاتجاهات القومية الجديدة New National Tendencies التي بدأت بالتنامي في الولايات المتحدة الأميركية بعد سقوط جدار برلين ودخول عصر العولمة الأحادية القطب وتأثيرها في السياسة الأميركية في قضايا حقوق الإنسان والحريات الأساسية.

كاتب السطور شاهد مباشر على الكثير من مواقف الحكومة الأميركية في محافل حقوق الإنسان الأممية، لكن مرتكزنا الأساسي هنا هو تتبع كتابات أهم صانعي القرار في الفريق الحالي المحيط بالرئيس جورج بوش الابن. وسيلاحظ القارئ أن هناك تغييبا متعمداً لموقف وزير الخارجية كولن باول في سياق التحليل، لاعتقادنا بأن من يعرفون بالصقور يحاولون منذ سنوات بلورة سياسة أميركية جديدة “تحقق اللقاء بين القرن التاسع عشر والقرن الحادي والعشرين” باستعارة تعبير دونالد رمسفيلد. أي تعود إلى ما كان يعرف بـ”النظام البريطاني” في ثوب أميركي. وعندما نتحدث عن القرن التاسع عشر، إنما يجري الحديث عن الاستعمار الغربي المباشر وغياب ثنائية القطب في النظام الاقتصادي والسياسي.

لم يكن في إمكان أطروحات كهذه أن تنال شعبية كبيرة في بلد لم تحرره حربا الخليج وكوسوفو تماماً من تأثيرات حرب فيتنام. ولم يكن من الممكن أن يتحول الخطاب العسكري، المطالب بأكثر من حرب في وقت واحد، إلى خطاب مسموع عند الأميركي المتوسط، من دون حال الاستنفار الناجمة عن مأساة الحادي عشر من أيلول سبتمبر. فإيديولوجيات الطوارئ تصبح، كما هو معلوم، ذات شعبية في الأوضاع الطارئة. كما أن هذه الأحداث قد تركت بصماتها أيضاً على التوازن بين ما يعرف بالصقور والحمائم في إدارة بوش. حيث يصبح رأي كولن باول الأقل إيديولوجية والأكثر ديبلوماسية ذا حظوة بالاستماع إليه في حال وجود ضغط فعلي على الصقور من الداخل أو الخارج أو كليهما. أو في حال فشل الصقور في إحدى مغامرات استعراض القوة التي تشكل أساس تعريفهم الجديد للمصلحة القومية National Interest.

> بعد تراجع فلسفة جان فوستر دالاس لمواجهة الشيوعية بالتبشير المسيحي، التي عبر عنها في كتابه “حرب أم سلام”، بدأت فكرة الدفاع عن الحقوق المدنية والسياسية في مواجهة الأنموذج السوفياتي تحظى باهتمام الأوساط الجمهورية والديموقراطية سواء بسواء. ولا شك في أن حركة الحقوق المدنية داخل الولايات المتحدة نفسها عززت هذا التوجه. فمنذ توقيع 35 دولة أوروبية وشمال أميركية اتفاقية هلسنكي عام 1975، ركزت الولايات المتحدة، على الأقل في البلدان الواقعة تحت النفوذ السوفياتي، على موضوعة احترام الحقوق المدنية والسياسية. ذلك، باعتبارها أحد رباعي أجندة كلاسيكية معلنة للخارجية الأميركية في السبعينات والثمانينات قوامها: وقف سباق التسلح، تشجيع اقتصاد السوق، ضبط الصراعات الإقليمية وحقوق الإنسان.

ولكن، بقيت السياسة الأميركية على موقفها السلبي من كل ما يتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية وكذلك الحق في التنمية. لم يغير الرئيس جيمي كارتر في المفهوم الأميركي الرسمي الضيق لحقوق الإنسان الذي يركّز على الحقوق المدنية والسياسية والحريات الفردية. وبقيت سياسة الولايات المتحدة، سواء في العقوبات أو الضغوط، مرتبطة مباشرة بالتحالفات والعداوات الجيوسياسية والاقتصادية.

يمكن القول من دون مبالغة، أن الانهيار السريع للاتحاد السوفياتي باغت الجميع بما في ذلك معاهد العلوم السياسية الأميركية المعروفة بطابعها البراغماتي والتصاقها بالأحداث. احتاج الأمر سنوات قبل أن تبدأ بالتشكل أطروحات جديدة تنطلق من التكوين الاستراتيجي الجديد للعالم. ثم بدأ النقاش في ولاية الرئيس بيل كلينتون، حيث طرح الكثير من أكاديميي الحزب الديموقراطي مثل جوزيف ناي الابن فكرة ضرورة إعادة تعريف المصلحة القومية. كانت هذه الفترة مختبراً للمعارضة الجمهورية التي سعت عبر نقدها الإدارة الديموقراطية إلى تكوين مواقف جديدة تنسجم مع الوضع العالمي الجديد.

يمكن القول إن معظم الأطروحات الجديدة سبقت أحداث الحادي عشر من أيلول 2001. عبرت عن الكثير منها كوندوليزا رايس أثناء الحملة الانتخابية عام 2000، حين كانت مستشارة السياسة الخارجية للمرشح الجمهوري بوش. ففي مقالة نشرتها مجلة “فورين أفيرز” في عددها كانون الثاني يناير – شباط فبراير 2000، تؤكد مستشارة الأمن القومي الحالية ضرورة تجاوز الأسس القديمة للسياسة الأميركية الخارجية بما يتناسب مع مرحلة ما بعد الحرب الباردة. وتنتقد السيدة رايس من يعتقد بضرورة قراءة المصلحة القومية عبر مسارب القانون الدولي ومنظمات كالأمم المتحدة، وتوضح أنها ليست ضد “المصلحة الإنسانية”، لكن تضعها في الصف الثاني بعد المصلحة القومية.

هذه “المرونة” في التصور السياسي تشكل خطراً مباشراً على ما يعرف بالشرعة الدولية لحقوق الإنسان. فهي تهمّش العمل الجماعي في الأمم المتحدة الذي يهدف، من حيث المبدأ، الى تحقيق الأمن والسلام المشترك بين الأمم، استناداً إلى ميثاق عالمي. فيما يجد ترجمته العملية في مأثورة السيدة رايس: “ليس من القيادة، كما أنه ليس بالموقف الإنعزالي القول إن للولايات المتحدة الأميركية دوراً خاصاً في العالم، ولذا ليس من واجبها أن تنتسب لأي اتفاق أو معاهدة دولية تقترح عليها”.

هذا التملص المسبق من أي التزام بالمعاهدات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان والبيئة والقانون الدولي، عنصر مشترك في السياسة الأميركية منذ أكثر من عقدين من الزمن. لكنه لم يكن يطرح بهذا الشكل الفج الذي يعطي الولايات المتحدة صفة خاصة تعفيها من التزاماتها الدولية. وهذا يساعدنا في فهم رد اليمين الصهيوني في أوروبا على من انتقد جملة آرييل شارون “يحق لإسرائيل محاكمة من تشاء ولا يحق لأحد محاكمة إسرائيل أو الشعب اليهودي”، بالقول: “نحن نعيش في حقبة المصلحة القومية للأقوى، ليس فقط في إسرائيل بل على الصعيد العالمي”. بالتأكيد، هذه الفلسفة تزرع الأسس النظرية – السياسية لضرب المكتسبات العالمية لحقوق الإنسان عبر رؤية شوفينية ضيقة.

تكمن نقطة الانطلاق في الأطروحات القومية الجديدة في الولايات المتحدة في عملية قلب المبدأ الذي ساد عشية العاشر من كانون الأول ديسمبر 1948 عالمية حقوق الإنسان رأساً على عقب، بما تلخصه كوندوليزا رايس بالقول: “القيم الأميركية قيم عالمية، يستطيع الشعب أن يقول ما يفكر به، أن يعتقد بما يشاء وأن ينتخب من يحكمه. إن انتصار هذه القيم يكون بالتأكيد أسهل إذا كان ميزان القوى في مصلحة من يؤمن بها”.

لكن تصدير القيم الأميركية لا يمكن أن يكون عبر الثقافة أو الإعلام أو العمل الإنساني، وإنما في شكل أساسي عبر النظرة القومية للاقتصاد والمؤسسة العسكرية والعلاقة بينهما. في تصـور كهذا تصبح حقوق الإنسان بالتعريف الأميركي الرسمي محصلة لسيادة الاقتصاد الأميركي والقوة العسكرية الأميركية الرادعة. تعبر رايس عن هذا بالقول: “إن السياسات الاقتصـادية العالمية التي تشكل رافعة لتقدم الاقتصاد الأميركي وتوسع التجارة الحرة تعتبر أدوات أساسية في تحديد السياسات الدولية. إنها تسمح لنا بالوصول إلى دول متنوعة مثل الهند أو جنوب إفريقيا وبدفع جيراننا في النصف الغربي من الكرة الأرضية نحو مصلحتنا المشتركة في الازدهار الاقتصادي. إن توسع طبقة أصحاب الأعمال عبر العـالم يشـكل مصدر قوة لتعزيز حقوق الإنسان والحريات الفردية، ويجب أن يتم فهمه واستعماله على هذا الأساس. إن كون السلام هو الشرط الأهم لاستمرار الازدهار والحرية يتطلب ضمان القوة العسكرية الأميركية، والولايات المتحدة هي الضامن الوحيد للسلام الشامل والاستقرار. إن أي إهمال للقوات المسلحة الأميركية يمس في قدرتها على بقاء السلام”.

هذه النظرة القومية الجديدة تتعامل في شكل أوضح مع أطروحة “التدخل الإنساني” الرائجة عند بعض المنظمات الإنسانية الشمالية بإعادتها الى حظيرة المصلحة الاستراتيجية. فالعمل الإنساني، بحسب تعبير السيدة رايس، “نادراً ما يكون إنسانياً”. في هذا التصور المسبق لأي عمل إنساني باعتباره عملاً موظفاً من قبل أصحابه لغايات محددة مسبقة، نفهم نظرة الشك والريبة في التعامل مع المنظمات الإنسانية غير الأميركية. هذه المنظمات، إن لم تكن في خدمة الإدارة الأميركية أو في فضاء يسمح بمعرفة تكوينها ووظيفتها وغاياتها، فهي بالضرورة تعمل لأطراف غير أميركية، إن لم نقل معادية للمصالح الأميركية كما يفضل وزير الدفاع دونالد رامسفيلد.

في إطار تحديد تعريفها للمصلحة القومية، تؤكد السيدة رايس على أن مفهوم الحد من التسلح ينتمي لمرحلة الحرب الباردة. بالتالي، من المفترض تجاوزه إلى مفهوم يؤكد ضرورة اختراع أسلحة جديدة وفي شكل دائم، فيما يضمن للولايات المتحدة هيمنتها العسكرية الحالية. أما بالنسبة الى الأعداء، فقد أعطت حرب كوسوفو برأيها درساً مهماً مفاده: “إن القوى الصغرى التي تخسر كل شيء أكثر عناداً من القوى الكبرى التي يشكل الصراع بالنسبة اليها واحدة من مشكلاتها. من هنا ضرورة التركيز على هذه القوى الصغيرة لأن خطرها أكبر”. في رد على أطروحة لأكاديميين من الحزب الديموقراطي، تصنف مناطق الخطر على المصلحة القومية إلى أ: الاتحاد السوفياتي ب: العراق وكوريا الشمالية ج: مناطق التوتر في العالم كرواندا وكوسوفو.

ضمن التوجه نفسه، نتابع كتابات هنري كيسنجر، الذي سبق رايس واحتل منصبها الحالي في حقبة الحرب الباردة. ففي دراسة له في عنوان “المأزق المستور للاختصاص الجنائي الدوليUniversal jurisdiction، وفي “فورين أفيرز” عدد تموز يوليو – آب أغسطس 2001، يحذر المسؤول الأميركي السابق مما يسميه “خطر الطغيان القضائي”: “إن الخطر يكمن في وضع طغيان القضاة مكان طغيان الحكومات. فتاريخياً، أدت ديكتاتورية أصحاب الفضيلة إلى محاكم التفتيش ومطاردة وتعذيب المشعوذات”. بصراحة واضحة يتحدث هنري كيسنجر عن عداء صانعي القرار في الولايات المتحدة للمحكمة الجنائية الدولية. إنه يعيد إلى الأذهان أن حقوق الإنسان سلاح سياسي وليست مبادئ يدافع عنها محبة بها: “بصفتي أحد المشاركين الأساسيين في مباحثات النص النهائي لمؤتمر هلسنكي، أستطيع التأكيد بأن الإدارة الأميركية التي مثلتها، كانت تعتبر الوثيقة، في المقام الأول، سلاحاً ديبلوماسياً لمحاربة الشيوعيين”.

بعد شن هجوم حاد على نضال المنظمات غير الحكومية من أجل تعزيز الاختصاص الجنائي الدولي وقيام المحكمة الجنائية الدولية، يصر الدكتور كيسنجر على رفض هذه المحكمة بنظامها الأساسي الحالي مطالباً بتعديله. في انتظار ذلك، يقترح على مجلس الأمن تشكيل لجنة لحقوق الإنسان، ثم الطلب من الحكومة المعنية بموضوع المحاسبة أن تقوم بها. وفي حال استحالة ذلك، تشكيل محكمة جنائية محدودة الموضوع والزمان ad hoc. بتعبير آخر، إبقاء كل من ارتكب أو يرتكب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية من مواطني الولايات المتحدة الأميركية موضوع نقاش قومي داخلي. فيما يحمي السيد كيسنجر وقائمة مهمة من المسؤولين الأميركيين من موضوعة الحساب في نطاق القانون الجنائي الدولي.

يتابع دونالد رامسفيلد، في مداخلاته الصحافية ومقالاته المنشورة بعد الحادي عشر من أيلول منطق القوة بتعبيريها العسكري والاقتصادي لتأكيد الهيمنة الأميركية على العالم. ولتفسير سياسته المطالبة بتصعيد كبير في برنامج التحديث وتعزيز القدرات العسكرية الأميركية في الأعوام الخمسة المقبلة، يركز وزير الدفاع الحالي على موضوعتي الخوف من عدو مجهول والتفوق العسكري كحل وحيد لمواجهته. فيقول في عدد آخر من “فورين أفيرز”: أيار مايو – حزيران يونيو 2002، في مقالة حول التحولات العسكرية: “إن التحدي الذي يواجهنا في القرن الجديد تحدٍ مختلف: علينا الدفاع عن أمتنا ضد المجهول، غير المعلوم، غير المرئي، وغير المتوقع. يمكن أن يبدو ذلك مهمة مستحيلة، لكن ليست هذه هي الحال. للقيام بذلك، علينا أن نضع جانباً الطرق المريحة للتفكير والتخطيط – أن نأخذ المخاطر ونجرب أشياء جديدة – هكذا يمكننا مواجهة وهزيمة الخصوم الذين لم يبرزوا بعد ليتحدونا”.

يلاحظ من التداخل بين تضخيم قدرات العدو وخطاب عنجهية القوة سعي وزير الدفاع إلى تضخيم موازنة الدفاع في شكل هائل. فهو يطالب بزيادة قدرها 47 في المئة في مخصصات الدفاع الداخلية ووراء البحار، زيادة تبلغ 157 في المئة لحرمان العدو من الملجأ الآمن، 21 في المئة لمؤازرة البرامج البعيدة المدى في مناطق معادية، 125 في المئة لبرامج امتلاك التقنيات المتقدمة، 28 في المئة لبرامج مهاجمة شبكات المعلومات المعادية، وأخيراً 145 في المئة لبرامج تعزيز القدرة العسكرية للولايات المتحدة في الفضاء.

ترد كلمة حقوق الإنسان عند رامسفيلد عند الحديث عن أفغانستان في ظل “طالبان”، حيث يروق له الاستشهاد بتقرير منظمة العفو الدولية وتقرير منظمة هيومان رايتس وتش الأميركية لعام 2001. أما بالنسبة الى توقيف قرابة 2450 شخصاً بمساعدة 90 دولة، في أقل من عام على حوادث أيلول، وبقاء 660 شخصاً منهم في المعتقلات وفي ظروف تحقيق استثنائية وفق احصاءات البنتاغون، فهذا أمر تقدره الحكومات المعنية بالأمر. يقدر البنتاغون عدد المعتقلين في أفغانستان بقرابة 7500 معتقل من أربعين جنسية ولا يعطي أرقاماً بالمفقودين، الأمر الذي لا يشمل معتقلي غوانتانامو.

بقدر ما نرصد من إحصاءات دقيقة في شأن تطوير القدرة العسكرية للولايات المتحدة الأميركية، بقدر ما يتحول الخطاب إلى غامض وعام في كل ما يتعلق بضحايا الحملات العسكرية الأميركية من المدنيين. ويتساءل دونالد رامسفيلد: “هل يمكن العثور على طريقة ما عبر الوكالة الدولية للتنمية لتقديم المساعدة إلى الجماعات التي كانت بالخطأ ضحية كوارث تسببت بها القوات الأميركية؟”.

هنا، الخبير في شؤون تحديث القدرات العسكرية للولايات المتحدة لا يعطي الجواب؟

* باحث عربي يعيش في باريس، المتحدث باسم اللجنة العربية لحقوق الإنسان ومحرر موسوعة “الإمعان في حقوق الإنسان”. والنص مأخوذ من محاضرة له بالفرنسية حول الموضوع.