مع بداية الثورة السورية، برز د. هيثم مناع كقيادي سياسي متبنياً المشروع الثوري من بداياته، مبتعداً عن النضال الحقوقي لمصلحة العمل السياسي بصفته معارضاً من الخارج وقيادياً في تشكيل هيئة التنسيق لقوى التغيير الديمقراطية في سوريا.
في مقالته “الحقيقة أكرم خلق ثوري” التي نشرت في السفير يُعرّف مناع نفسه “كمفكر ناقد ومناضل حقوقي يرفض منطق الغاية التي تبرر الواسطة“… ويضيف محقاً في المقال عينه “لا شك في أننا في منعطف وجودي لا في مرحلة عادية في حاضر ومستقبل سورية. مرحلة تتطلب قيادات كبيرة ومواقف كبيرة، مرحلة لا يبنى فيها الرصيد السياسي والشعبي على بيع الوهم أو تجارة الكذب والبؤس .“
لا يحتاج د.هيثم مناع تقديماً لقرّاء المندسة، فقد نشر الموقع العديد من المقالات التي تناولت شخصه وطروحه وأفكاره حتى علّق أحد المشاركين متذمراً: “… مناع ما إلو شعبية غير هون عالمندسة… يعني لا بالشارع ولا بدرعا (مسقط رأسه)… وحتى المحطات العالمية بطلت تجيبه لأنو صار عم بغرد خارج السرب…“
لا شك أن هذا التعليق فيه الكثير من الصحة، فبالمقارنة تصعب الإشارة إلى أي شخصية من شخصيات المعارضة السورية نافست تواجده هنا في الموقع. وحين كان يشكو مناع من محاصرته إعلامياً وتهميش هيئة التنسيق من قبل القنوات الفضائية الخليجية كان من الملاحظ إنشغال “المندسين”، كتـّاباً مشاركين ومعلقين، على عرض وتقديم معظم مداخلاته المتلفزة والمكتوبة، ونقاش آراءه وطروحاته والتعامل معها بجدية بالغة..
في الأشهر الستة الأولى من عمر الثورة أقرّ الجميع بتاريخه النضالي وبذلوا جهداً كبيراً لفهم الدور الذي يلعبه كممثل لهيئة التنسيق، كما تفسير مواقفه وتصريحاته، خاصة فيما يتعلق برفضه مؤتمر أنطالية ومؤتمر بروكسل ومؤتمر الإنقاذ في استانبول، إلى رفض تركيبة المجلس الوطني وسيطرة الاخوان المسلمين عليه، وانتقاداته المرّة لثوار الداخل والتشكيك بوطنيتهم لطلبهم الحماية الدولية، وتصريحاته عن تلقيه عروضاً لإدخال سلاح إلى سوريا التي أثارت لغطاً شديداً لتقاطعها مع بروباغندا النظام آنذاك.
مع بداية عام 2012 بدت المشاركات منقسمة حول أسباب ودوافع الكثير من مواقفه وتصريحاته الإشكالية. انقسم الجميع حولها كما انقسمت الثورة بين العسكرة والسلمية، بلغ الأمر ذروته مع طرح مناع لمبادرة الهدنة: وقف العنف لانتقال ديمقراطي آمن في 14/8/2012، ظهر ذلك في مقالات ونقاشات غنية ومتميزة كماً ونوعاً وعنيفة أحياناً يمكن الرجوع إليها.
مع تشكل “الإئتلاف الوطني لقوى المعارضة” في نوفمبر 2012، خفت حضور مناع في المندسة تدريجياً حتى قارب الانعدام، وقد سُجِّل امتناع القراء عن تسجيل أي موقف أو تعليق على آخر لقاء مسجّل نشر له في شهر شباط،2013.
هذا الحوار هو دعوى صادقة لقيادي سياسي في الحيّز العام ليتحدث لنا عن تاريخه الشخصي والسياسي، دوره اليوم كما يراه في حمل مشروع ثوري جذري وخطاب صادق، وعن نجاحه في إيصال الحقيقة بشكل فاعل ومؤثر لصالح الثورة، وعن رصيده السياسي والشعبي أكان مناضلاً حقوقياً، قيادياً كبيراً، أم ثائراً.
—————–
المندسة: ولدت لأبوين وعائلة منخرطة في الشأن العام. والدك المحامي يوسف العودات أصدرت محكمة أمن الدولة في بدء عهد حافظ الأسد حكما عليه بالإعدام ثم خفض للمؤبد وأمضى في السجن 16 عاما. وهو من البعثيين الأوائل. في عائلتك عشرات المعتقلين منهم حسن العودات الذي فقد بصره في السجن وأفرج عنه بعد عشر سنوات فيما يعرف بإفراج الموت. في عام 1976 كانت خسارتك الأليمة لزوجتك منى العساف بعد خمسة أيام من زواجكما، ومن ثم الملاحقة والتخفي سنتين في حلب بسبب نشاطك السياسي السري في رابطة العمل الشيوعي.. كيف انعكست كل هذه الأحداث المؤلمة والخبرات المبكرة على خياراتك الفكرية والمهنية فيما بعد، وأيها كان الأبعد أثراً في تكوين وعيك السياسي؟
– ولدت في حقبة تغييرات كبيرة تذوب فيها الطفولة حيث ألبسني أهلي العلم الجزائري لجمع التبرعات لجبهة التحرير الجزائرية وحررت مع صديقي عبد العزيز الخير في درعا مجلة “التعاون” وعمرنا ثماني سنوات، وحفظت القرآن الكريم بعد هزيمة 1967 وشاركت كطباخ شاب في أيلول الأسود في 1970 لأن تدريبي لم يكن كافيا للسلاح. قرأت الإسلاميين قبل الماركسيين ولكن تطرف بعض الإسلاميين وولعي بالرياضيات كانا وراء تأثري بالنظريات الأقرب للعقلانية الملموسة.
أسسنا حركة الإنسانيين العرب من شبيبة جامعية ثائرة وكلفت بنقد الماركسية فأعددت بحثا من سبعين صفحة نقدية وختمتها بالقول نقد الماركسية قضية ممكنة أما تجاوزها بطاقاتنا الفكرية الشابة فهي قضية صعبة.. منذ ذلك اليوم صرت مع الأساس من مجموعتنا حلقة ماركسية انضمت لهذه الظاهرة وأعطت ما يسمى اليوم “حزب العمل الشيوعي” ولكن أيضا، أسماء معروفة في منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني وربيع دمشق وإعلان دمشق وهيئة التنسيق الوطنية والائتلاف.
رغم أنني كتبت في 1980 بأنني “غير قادر على الانتماء إلى حزب، وأعتبر نفسي في طلاق مع اللينينية بالثلاثة”، تابعت قراءة الماركسيين النقديين ومدرسة بودابست ومدرسة فرانكفورت وتأثرت كثيرا بفكرة السلطة المضادة كعنصر تفتيت ومواجهة للجدار الأصم للدكتاتوريات العربية عموما والأنموذجين العراقي والسوري بشكل خاص.
المندسة: درست الطب البشري في جامعة دمشق وحصلت على دكتوراة في الأنتربولوجيا، وتخصصت في المعالجة النفسية الجسدية واضطرابات النوم واليقظة. ما الذي دفعك نحو ترك هذه المهنة؟
– بكل أمانة داخلية، كان من الصعب عليّ العمل في الطب بعد قرار طردي من الجامعة في السنة الأخيرة وبعد أن فقدت منى في المستشفى الذي تدربت فيه (المواساة). لكنني أثناء فترة التخفي اضطررت لعلاج أشخاص ملاحقين، وفي فرنسا بحثت عن عمل ليلي في الفنادق فلم أجد، فعدت للطب أبحث عن مناوبات ليلية أثناء دراستي. عندما وصلت فرنسا في 27 مايو 1978 كانت مصادر العمل غير الطبية والهندسية محصورة في الإعلام التابع بالضرورة لطرف حكومي. لذا أخذت القرار بالعودة للطب ومعادلة دراستي الطبية في جامعة ماري وبيير كوري ولكن بنفس الوقت دراسة الأنثروبولوجيا مع موريس غودلييه ومارك أوجيه وليفي ستروس. ثم أعددت أطروحتي مع مارك أوجيه وكان محورها الصراع بين المعرفة الحكمية والمعرفة الدينية في فترة النهضة المشرقية قبل ألف عام تقريبا. ولولا المناوبات الليلية لكان من الصعب الجمع بين الدراسة والعمل والنضال.
استمريت في العمل الليلي 21 سنة سمحت لي بالقراءة والكتابة في الليل والاستقلال المادي الضروري لكل استقلال فكري وسياسي وحقوقي والنضال في النهار. وتوقفت عن العمل الطبي في مطلع القرن لأعمل مديرا للبحوث الأمر الذي سمح لي بحرية السفر والقيام بمهمات ميدانية أكثر لعدم وجود التزام مهني ودوام رسمي يعيق ذلك. كونني عملت في مخبر للنوم فقد حصلت على الدبلوم الخاص بمجال اختصاصي ثم درّست مادة النوم لعام في جامعة بوبيني لكن التعليم الجامعي لا يناسبني ويحتاج لوقت لا أملكه، لهذا أعتذر عنه.
المندسة: نشأت في ظل عائلة تعرضت لتعسف النظام الشمولي، وجو عام سياسي قمعي عايشته كشاب من خلال معرفتك للإبادة الجماعية التي حدثت في حماه، وملاحقتك وسجن رفاقك في رابطة ثم حزب العمل الشيوعي. نلاحظ اليوم قناعتك بأهمية الحفاظ على الحياة، وأن طريق النجاة دوماً يكون بالهروب إلى فضاء وحيز آخر مكاني أو فكري أو معرفي.
لأي درجة تعتبر خياراتك رهينة تجربتك الشخصية؟
– الإنسان هو ابن الإنسان المعاش مهما تجردت أطروحاته عن هذه الواقعة. التجريد يصبح ليس ترفا فكريا بل عملية تزوير في وضح النهار لحقيقة الشخصية المختبئة وراء من نرى. لهذا درست المعالجات النفسية ما بعد الفرويدية ونال الجانب النفسي مكانة في تعاملي مع الأشخاص. قلت يوما لأكاديمي سوري صعد كثيرا في معمعان الثورة لا تكذب فزادت كراهيته لي. لكن أكره الكذب وخاصة على النفس. يوم أفرج عن فاتح جاموس وأصلان عبد الكريم احتفلنا في باريس وكنا مجموعة صغيرة من الأصدقاء، قلت للجالسين: في 1977 جلسنا الثلاثة مع أحمد جمول ووضعنا المنطلقات النظرية لرابطة العمل الشيوعي في بيروت، اليوم لدي أكثر من سبعة آلاف صفحة كتبتها إضافة للنضال الحقوقي الميداني في حين لم يسمح السجن لصديقين يمتلكان نفس المواهب الكتابية والفكرية بأن ينتجا أكثر من أربعمائة صفحة.
أنا لا أهرب وأطالب كل سوري قادر على العودة بفعل ذلك. ولولا أن رصاصة موتي تنتظرني لكنت في سورية. هل تظنون أن من السهل أن يعيش المرء ثورة براغ والانتقال في أمريكا اللاتينية والربيع التونسي والمصري ويحرم من المشاركة المباشرة في الحركة الاجتماعية الأبرز في تاريخ بلده؟؟
السياسة تنسي من ينتقدني أنني كائن من لحم ودم ومشاعر وأنني لم أقتل يوما ولم أناصر جريمة قتل. وأنني مع محمود شريف البسيوني ومنى رشماوي وفاتح عزام من العرب القلائل الذين تحدثوا في المحكمة الجنائية الدولية قبل أكثر من عشرين عاما. لقد رأيت الموت العبثي في بيشاور وكشمير ومنطقة البحيرات الإفريقية ويوغسلافيا السابقة والعراق وغزة ودارفور والجزائر في بعثات تحقيق ميدانية وأعرف كيف تمت تسوية الأمور بعدها وكيف كان الموت مجانيا في معظم الأوضاع البشرية العنيفة في بلدان الجنوب خاصة. لم أتربى في مدرسة غاندي، لكن العنف الداخلي في أي بلد من بلدان الجنوب يعني على الأقل ثلاثة عقود زمنية من التأخر عن ركب المدنية والتنمية والديمقراطية وليس هناك مثل واحد يناقض هذه الواقعة. وعندما نجد في نهاية النفق وفي عدة تجارب معاشة مجرم حربٍ وزيرا للمعاقين وتاجر أسلحة زعيما لطائفة يقف المرء ويقول أمن أجل هذا كان ما كان من تمزيق وتدمير وقتل؟ من هنا دفاعنا، منصف المرزوقي وأنا عن أطروحة المقاومة المدنية لإسقاط الدكتاتوريات.
المندسة: لفت نظرنا في سيرتك الذاتية تفصيل يبدو هاما جداً اليوم: “تطوع لمساعدة العمل الفدائي الفلسطيني أثناء أيلول الأسود وقد كلف بالعمل في المطابخ في إربد لقلة خبرته العسكرية،” هل نفهم أن المقاومة السلمية مفهوم تطور لديك لاحقاً، وكيف؟
– بالتأكيد المقاومة المدنية مفهوم متأخر عندي وعمره أقل من 15 عاما. وهو نتيجة متابعات واستنتاجات ميدانية وعيانية. وقد سمحت فترة نفي منصف المرزوقي إلى باريس بتطوير المفهوم بشكل مشترك وفي كتابات لي وله منذ 1996.
المندسة: “انتفاضة العامية الفلاحية” 1975. أول كتاب مرجعي هام لك تناولت فيه ثورة العامة في حوران كنموذج مهم حين قام الفلاحون في نهاية القرن التاسع عشر بالإستيلاء على أراضي الإقطاعيين وكبار العائلات وطردهم منها وتقسيم الأرض فيما بينهم. هل تجد في تلك الانتفاضة أي تشابه مع حاضر الثورة السورية من حيث طبيعة الصراع، أو دروس مفيدة وجديرة بالتأمل لتحقيق انتصارها؟
– انتفاضة العامية عرفتني على مجدل الشور، أي مجلس الشورى الذي انتخبه الفلاحون في جبل العرب في 1886 وأعطتني الثقة بأن الديمقراطية ليست وجبة غربية جاهزة تصل ساخنة بفضل وسائل النقل والاتصال الحديثة وإنما أحد أهم تعبيرات فكرة عميقة في الداخل الإنساني اسمها الحرية.
المندسة: هل مازلت مؤمنا بالمبادئ الماركسية وبالفكر الشيوعي من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية و الحياتية في العالم؟
– كما قلت قبل ثلاثة عقود: “نحن بحاجة إلى مفكرين كبار مثل ماركس وهيجل وابن رشد وابن خلدون وغرامشي ولكن لا يمكن للبشرية أن تتوقف عند أي مفكر ونهر الحياة مازال يرفض العقم والجمود”. بالتأكيد العدالة الاجتماعية قضية مركزية أجد في “العهد الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية” برنامجا يستجيب لهذه الحقوق في مرحلتنا التاريخية اليوم. ولا شك بأن ثمة ظلم ماحق بالفكر الاشتراكي للتماهي الذي حدث بين هذا الفكر والتجارب المعاشة.
في 1977 ترجمت للعربية القصة التالية من مجلة أمبريكور من رسالة منشق روسي يعالج في مشفى للأمراض النفسية: “وأنا في بهو المستشفى وجدت صحيفة كورية بالإنجليزية على غلافها كيم إيل سونغ يصطاد وقد وضعت أسفل الصورة العبارة التالية: “الزعيم الخالد كيم إيل سونغ ليس فقط يصطاد وإنما أيضا يفكر وهو يصطاد بشعبه”. أضاف صاحبنا المعتبر مريضا نفسيا: يا للوضاعة، هذه أيضا تسمي نفسها شيوعية.”. في فترة الالتزام الاشتراكي ولحسن الحظ كنا نحمل فكرا نقديا.
المندسة: إلى أي حد يمكن القول أن رفضك القاطع اليوم لأي شكل من أشكال المساعدة والحماية الدولية للسوريين يعود في جذوره لاصطدام مع الفكر اليساري وإلى تخوف ماركسي عميق تجاه الغرب الرأسمالي وأمريكا؟
– في العالم مدرستان، واحدة مع التدخل وأخرى ضدها. لقد شرحت وجهة نظري في كتاب “الولايات المتحدة وحقوق الإنسان” حيث بينت أن التدخل لوجه الله موجود في الكنائس والمساجد والصوامع وحسب. وذلك من وجهة نظر الحركة الأممية لحقوق الإنسان لا من وجهة نظر ماركسية أو ليبرالية.
أنا أعرف كيف سعى صاحب الكوريدور الإنساني كوشنر لحماية جماعات من الأوتو الموالية لفرنسا في رواندا وليس حماية الشعب الرواندي، لذا كتبت قبل أن يطلب غليون كوريدورا من جوبيه مقالة في القدس العربي عن هذه السذاجة الشعبوية التي تظن الكوريدور فكرة إنسانية جميلة.
المندسة: لمْ تشهّر بـالتدخل الايراني الروسي في سوريا والذي لم يعد يحتاج لـدليل، و لمْ تظهر العداء لـهذا التدخل بـقدر ما تتهم الغرب و بعض العرب بـالتدخل مراراً و تكراراً. بـرأيك، هل هناك تدخل مشروع و تدخل غير مشروع في سوريا؟
– أولا وجهة نظري في العلاقات الدولية بسيطة وتقوم على مبدأ التواصل مع كل الدول ما عدا الإسرائيلي المحتل لأرضنا. نتصل بالناس ونعرفهم على قضيتنا فإما أن نكسبهم وعندها غالبا ما ينضمون لجوقة أصدقاء الشعب السوري والمجلس والائتلاف ولا يشكرنا أحد على ذلك، أو أن نحيدهم ونبقى على تواصل يسمح لنا بكسبهم على المبدأ اللاتيني “ad hoc” أي في موضوع وزمان محددين. أو أن ننقل لهم صورة صحيحة عن الوضع السوري قد تساهم في تغيير أو تعديل مواقفهم.
للأسف ألتقي المسئولين الأمريكيين أضعاف اجتماعي بأي طرف إيراني ولا يتوقف أحد عند ذلك. قبل أن يتحدث السيد رياض حجاب عن وصول شحنات سلاح روسية اعترضت على ذلك في اجتماع مباشر مع الخارجية الروسية وشجبت ذلك في مجلس حقوق الإنسان في جنيف. لكن معارضة “الربع ساعة الأخيرة” تحب العبارات القارصة لهيثم مناع لتصوره عميلا محترفا لروسيا وإيران. بل أن أحد الخزمتشية يتحدث عن صداقة لي مع مسئول إيراني جرى اغتياله مؤخرا… هل هناك وضاعة فوق هذه الوضاعة.
أنا أرفض الكذب، كنت مع مواطن يطلب اللجوء السياسي أساعده في الترجمة فقال دخل بيتنا جنود صامتون لا يتكلمون ثم تحدث أحدهما للآخر بالفارسية فعرفنا أنهم إيرانيون. قلت له لحظة هل تعرف الفارسية؟ قال لا قلت كيف عرفت أنها فارسية وليس هندية مثلا قال: “من وجوههم واضحة”. قلت له يعني ما كان في حاجة تسمع كلامهم، قال دكتور لا تعقدها قالوا لي الشباب في اسطنبول قبل السفر لأخذ اللجوء السياسي لازم تلعن أبو الإيرانيين”.
لن أكذب على الناس وأنا من قال بأن المساعدة الاقتصادية للنظام الإيرانية أهم بمليون مرة من الخبرات العسكرية التي يبادلها معه، مع كل الاحترام لمخابرات إيران وتركيا وقطر لو كانوا كافين لما غامر الأمريكي والبريطاني والفرنسي بإرسال عناصر غربية مباشرة؟ هناك من يسعى لتحويل الحرب في سورية إلى حرب على سورية بين هلال شيعي ومحور سني، ويتعيش من المزاودة في قضية حزب الله الذي صار بقدرة قادر حزب اللات. صديقنا أنور عبد الله فكك الأنموذج الإيراني في دراسة علمية لا في هلوسات مدفوعة الثمن… للأسف ثمن هذه المزاودة ملايين الدولارات الخليجية، لكنها ستدمر المنطقة والوجود المدني. لهذا مهما انتقدت إيران لن يرى أحد انتقاداتي الجدية والموثقة لأن الخطاب السائد والرائج في سوق التقرش السياسي يقوم على شيطنة الشيعي والصفوي والنصيري والنصراني. أي مطلوب أن يبالغ ويكذب ويزاود وهذا الشحن المذهبي ليس فقط مرفوض بل موضوع ازدراء عندي. لم أناضل لكرامة البشر ثم أتحول لسياسي حسب الطلب لإرضاء شيخ أو أمير بل أبشع من ذلك لكسب رضا تكفيريين؟؟
المندسة: تتعاملون مع روسيا كـجزء من الحل رغم تزويدها النظام علناً بالسلاح و الدعم السياسي اللامحدود. هل السياسة يجب أن تطغى على المبادئ الانسانية هنا؟ كيف تقبل كـرجل يدافع عن حقوق الانسان بـروسيا كركن اساسي في الحل السوري، وهي أجرمت وتجرم انسانياً بـحقنا كـشعب و بلد؟
– روسيا جزء من المشكل ومن الحل بآن. أولا لأنها تدعم النظام السوري، وثانيا لأن هذا بحد ذاته يشكل سببا في جعلها معبر اضطراري لسقوط الدكتاتورية. لقد تغير الموقف الروسي كثيرا بين الحديث عن مؤامرة كونية لإعادة انتاج المثل الليبي كما سمعت أول مرة في جنيف إلى الحديث عن مطالب ديمقراطية مشروعة لشعب مع الخوف من متطرفيه والمتدخلين في شأنه. المشكلة الحقيقية أن السلطة السورية ليست تحت السيطرة الروسية بل وحتى الإيرانية، وخير مثل على ذلك مطالباتها الملحة لإطلاق سراح عبد العزيز الخير وإياس عياش وماهر الطحان ورفض السلطات السورية الاستجابة حتى اليوم.
المندسة: في خطابه الأخير، قال بشار الاسد “هذه ليست ثورة”، وحجته في ذلك أن الثورة لها قائد او مفكر ينظر لها و يقودها، و هذا ما لا يوجد في الحالة السورية
إنها حقيقة فعلاً، ولكن برأيك من السبب في وجود هذا الشرخ بين الشارع وبينكم كـمفكرين ومثقفين معارضين؟
– أولا فكرة أنها ليست ثورة يتقاسمها مثقفون في السلطة والمعارضة. ثانيا لا يوجد منظّر للثورة المسلحة بالتأكيد لأن كل الكتّاب والجامعيين المؤيدين للجماعات المسلحة المختلفة يؤكدون على رد فعليتها ودفاعها عن قتل الأطفال واغتصاب الحرائر. هذا ليس بتنظير بل شعبوية تعبوية بدائية.
أما بالنسبة للمقاومة المدنية والثورة الديمقراطية السلمية فيوجد منظرين لها قبل أن يقرر موت باسل الأسد المفاجئ زج بشار في العمل السياسي.
المندسة: لعب النظام على تخويف جميع السوريين من بعضهم: من اليسار العلماني والأخوان المسلمين سواء، تاريخك يشهد بعلاقة مميزة مع الاسلاميين، فقد كنت محامي الحركة الإسلامية السياسية في حركة حقوق الإنسان وأول من وقع وثيقة مع الإسلاميين في سوريا بعد مجزرة حماة. لكن يلاحظ البعض أنك وحين عدت إلى الحيز السياسي اليوم ظهرت عندك هواجس الخوف من الآخر في معاداتك لتنظيم الاخوان المسلمين خاصة والإسلاميين عامة، كيف تفسر ذلك؟
– بقيت علاقاتي جيدة بالإخوان حتى اجتماع البيانوني بالغادري ثم قيام جبهة الخلاص مع خدام. هنا شعرت بأن القيادة الإخوانية مستعدة لكل شيء وقادرة على فعل كل شيء. صار تعاملي معهم يقوم على سابق معرفة بأنهم حزب شره للسلطة ومستعد للتحالف مع الشيطان من أجلها. لهذا معركتهم معي غير أخلاقية وبكل الوسائل المباشرة وغير المباشرة. ولا شك بأن دورهم كبير في تشويه صورة مناع “عميل روسيا وإيران” كونهم يمسكون بمفاتيح مفصلية في الجزيرة والفضائيات والأنترنت. أرجو أن يقرأ حديثي عن الإخوان بالمعنى الواسع لا بالمعنى الضيق.
المندسة: بعد سنتين يجد الشعب السوري الثائر نفسه وحيداً امام صمت دوليّ متعمد، وانقسام معارضته وتشرذم رموزها السياسية، فـينادي يالله مالنا غيرك يالله، ويعود لـيستلهم التماسك والصبر والأمل من موروثه وعقيدته ودينه، فـيتهم تارةً بـالتطرف وتارةً بـأسلمة الثورة. لمَ هذا التخوّف؟ اذا استطاع هذا الشعب الثائر اسقاط نظام الاسد المتجذر و المستبد، أليس قادر على أن يثور مجدداً لـإسقاط أي دكتاتورية لاحقةً اسلامية كانت أم بأي شكل آخر؟
– في كتابه طبائع الاستبداد يختصر عبد الرحمن الكواكبي الجواب على هذا السؤال بالقول “الاستبداد لا يقاوم بالشدة … ويجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به” ؟
بكلمة موجزة يوجد مؤامرة ولكن ليس على السلطة الدكتاتورية بل على الحركة الشعبية المناهضة لها، مؤامرة ترفض أن تكون سورية أنموذجا للديمقراطية كما كانت مهد انطلاقة النهضة. لقد صنعت شعارات التطرف بأموال خليجية تبث الحقد الطائفي وتقول للناس “الدم السني واحد” وغير ذلك من مشوهات للثقافة والإنسان.
لقد قلت منذ رمضان الثورة الأول يوم استشرست الجزيرة والعربية في أسلمة الخطاب المدني: إذا تسلحت وتأسلمت فقد نجحت عملية اغتيال الثورة. تأسلمت ليس بالمعنى الإيماني النبيل وإنما التكفيري والظلامي الحاقد الذي يجعل من الدين جدارا فاصلا مع الآخر عوضا عن أن يكون وسيلة ارتباط سامية بين الإنسان وأخيه الإنسان.
نحن نرفض توظيف الدين في استراتيجيات السلطة والمال القذر لأن في هذا أكبر عملية اعتداء على الأديان. وقد دفع عدد من الإسلاميين السوريين بهذا الخطاب نحو التطرف الأعمى بداعي التعبئة الجماهيرية. ينسى الظلاميون أن أول علاقة للدين بالتشريع أكدت على الوصية الأساس: لا تقتل، وليس في الوصايا والسير ما ينبئنا بأن “الخطف وسيلة ناجعة ومجربة” كما قال أحدهم.
لقد ناضلت للاعتراف بالحركات الدينية الطابع في الدستور والقانون، ولكن استغلال الوجع البشري لتعزيز المشاعر العدائية على أساس اختلاف المعتقد جريمة بحق الدين والإنسان.
المندسة: طالما حذّر هيثم مناع من ضرورة التنبّه لـلتمدد الاسلامي وأنه قد يسرق الثورة التي قامت لإنشاء دولة مدنية لجميع السوريين، ومن ثمّ يخرج ميشيل كيلو ويدحض هذا الخوف ويقول أن كل ما يشاع حول تطرف الاسلاميين مبالغ فيه، وفيه تشويه لـلحقائق، وأنه قد جلس معهم وتعرف عليهم ولمس فيهم أنهم وطنيّون معتدلون هدفهم اسقاط النظام فقط، كيف نفهم خشيتك واطمئنانه، ولمَ هذا التقييم المختلف بينكما؟ أين يقف الشعب السوري بينك وبين ميشيل كيلو؟
– لا أريد أن تطرح المسائل بهذا الشكل. هناك نقاط خلاف مهمة بين مواقف ميشيل ومواقفي والحقيقة نحن لم نلتق منذ بيان روما الذي أكد على أن القتال ليس الحل. لقد شاركت عشرات الشخصيات الديمقراطية مشروعا أسميناه ولادة القطب الديمقراطي المدني وقد رفض المشاركة ثم بنى فكرة موازية بحذف كلمة المدني. هذا حقه فلا يمكن لأي ديمقراطي أن يؤمم المفاهيم والمشاريع. في اليوم الثاني لوفاة حافظ الأسد نشرت مقالة بعنوان “الاختيار الديمقراطي في سورية” وبعدها بسنوات صدر كتاب بهذا العنوان لكاتب سوري فلم أحتج بل شعرت بالسعادة لوجود من يقاسمني الفكرة.
ولدت إنسانا وسأموت إنسانا بدون أية صبغة أخرى، ولن أسمح للظروف مهما قست أن تعيدني إلى حظيرة الانتماءات العضوية. وأعتقد أن كل من يحاول تصوير ظاهرة التكفيريين الأجانب على أنها رد فعل على وحشية النظام من شبيبة نقية طاهرة وأن أمراء الحرب التكفيريين سيقبلون بوسام تكريم ويغادرون البلاد يوم سقوط الأسد ينسى أن هذه الظاهرة ليست سورية بل دولية وهي لم تدخل بلدا إلا وكانت سببا في قتل وخراب ودمار.في البوسنة قررت الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي القضاء عليها بشكل لا إنساني وبحرمان حتى من تزوج من بوسنية من الجنسية بعد أن نالها. في بلدان الجنوب سيتكرر أمام ناظرنا مشاهد أقرب للمثل الطالباني والصومالي واليمني والعراقي.
أنا أقول لأبناء بلدي: “برنامج فليأت الشيطان” هو أسوأ برنامج سياسي لمعارضة في العالم.
المندسة: حتى لو وجد تقصير لـلمعارضة في مجال السلم الأهلي السوري، لكن الشعب الثائر وحتى الذين حملوا منه السلاح أبدوا رغبتهم في الحفاظ على اللحمة الوطنية ومناهضة أي فعل طائفي وهم يعملون فعلا على ذلك، ولا يمكن إنكار وجود بعض التصرفات التي إن لم نقل فردية، فـهي في المقابل ليست نهجاً معمماً، فـلمَ هذا الالحاح الدولي على نبذ الطائفية وضمان حقوق الاقليات؟ أوليست الأكثرية الآن مَن مِن حقها طلب الضمانات وهيَ الأكثر تضرراً وابادة؟
– أية أغلبية عددية في أي مجتمع تعطيها الديمقراطية القدرة على فرض الضمانات التي تريد لنفسها ولغيرها. من هنا، وفي كل تجارب البشر تحصل الأقليات على حقوقها عندما تكون الأغلبية قوة جاذبة للكل الاجتماعي وليس فقط لخاصياتها.
من يتحدث اليوم باسم السنة والدفاع عن السنة قوى طاردة ومهددة للآخر بما في ذلك العلماني والمعتدل من الأغلبية العددية. لهذا نجد مخاوف حقيقية أولا محلية وبعد ذلك دولية.
المندسة: إذا انتقلنا إلى عملك ونشاطك في الحقل الانساني، فأول ما نلحظه حين كنت طالب طب أنك قمت بحملات صحية مع أطباء شباب في القرى السورية لمعالجة الفلاحين، بصراحة، هل كان الدافع لهذا النشاط حينها سياسياً أم إنسانياً؟
– الحقيقة لم تكن قد نمت عندي بعد بعمق مسألة النضال المدني وتداخل وقتها السياسي بالإنساني.
المندسة: لا بد أنك ومن خلال عملك في منظمات حقوق الانسان قد زرت بلدان كثيرة كانت مسرح صراعات دموية مريرة، هل ترى تشابهاً بينها وبين النظام في ممارسة العنف، أم أن هناك خاصية ما تميز عنف النظام الأسدي؟
– المشكلة أن هذه الزيارات ولجان التحقيق تركت عندي منطقا مرجعيا متعددا يجعلني أتحدث بشكل أكثر عقلانية مع احتفاظي بحصتي من النسبية والحذر في الكلمات. لذا لا أقول مثلا النظام الأسوأ في العالم أو في تاريخ البشرية. لكن كما يقول الصديق محمد حافظ يعقوب الجريمة هي الجريمة والقتل هو القتل وليس هناك جريمة ضد الإنسانية أقل أو أكثر وحشية من غيرها.
المندسة: سبق أن وصّفت في أكثر من مناسبة أن ما قام به النظام الشمولي في سوريا، وفي حماة بالذات، بالإبادة السياسية. ما السبب إذا في قصور منظمات حقوق الانسان وعدم نجاحها في إحالة ملف رفعت الاسد إلى محكمة الجنايات الدولية؟ هل كنت تعمل على هذا الملف في أي وقت من الأوقات؟
– لقد حاولنا ملاحقة رفعت الأسد قانونيا وتبين لنا أنه يستفيد من نقطتي ضعف في القوانين الأوربية، الأولى أنه حتى سنة 2000 الجريمة ضد الإنسانية التي وقعت خارج الأراضي الأوربية يصعب المحاسبة عليها في أوربة وتزول بالتقادم بعكس الجرائم الواقعة في أوربة. طبعا السبب في ذلك عدم التعرض القانوني للجرائم التي ارتكبها المستعمرون في المستعمرات. الثاني هو أن المحكمة الجنائية الدولية ليس لديها الصلاحية لمناقشة أي جرم وقع قبل ولادتها الفعلية في 2002. ومع ذلك نجح نزار نيوف في تثبيت حكم قضائي في باريس بارتكاب رفعت الأسد لجرائم ضد الإنسانية وكنت شاهدا في الدعوى.
المندسة: هل تعملون، في منظمات حقوق الانسان والاغاثة الدولية، على تطوير طرق وآليات عمل مجدية للتصدي للتحديات التي فرضها واقع النظام الدموي حين يمنع سيارات الاسعاف من نقل الجرحى، ويستخدم المستشفيات كمعاقل تعذيب، ويغتال الاطباء والمسعفين، ويجعل مهمة الهلال الاحمر والصليب الأحمر مستحيلة؟
– هذا السؤال هو الأكثر إيلاما. ليست المشكلة فقط في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المذكورة، بل هي مشكلة شاملة للوجود السوري: يوجد اليوم ستة ملايين سوري في فضاء الأوضاع اللا إنسانية. أكثر من ربع مليون إعاقة دائمة، 400 ألف جريح، أكثر من 4 ملايين نازح ولاجئ. هؤلاء بحاجة إلى خمسين ضعف لكل ما سمعنا من مساعدات من عنتر بن حامد إلى غرب بن جاحد. الذين يتبارون بإرسال المال للسلاح. لو كان لديهم ذرة إنسانية لفكروا بأن العنف يصعد العنف والموت يراكم الموت.
المندسة: أمام العنف الممنهج في سوريا والذي لا يوفر طفلاً ولا رضيعاً، امرأة أو رجلاً كهلاً، ويمتهن الجميع اليوم في أقبية نظام الاسد، ألا يبدو من الترف استعمال لغة التنديد الجاهزة ولغة الاستنكار المكرورة في الحديث عن حقوق الانسان/ الطفل/ المرأة؟ وما معنى التحذير من استخدام الاطفال في النزاع المسلح، حين تعجز المنظمات الانسانية والاغاثية عن التواجد الفاعل حيث يجب أن تكون؟
– تقول التجربة المعاشة في كل بلدان العالم أن أي تطبيع مع الجريمة يشكل انتشارا أفقيا لها لذا لا يمكن استعمال كلمة ترف بحق جرائم ومأساة بحق جرائم أخرى.
المندسة: د. هيثم، حدثنا عن ما قدمته أنت من أجل الاغاثة في سوريا. ماذا قدمت للاجئين السوريين في المخيمات؟ ماذا قدمت لإغاثة المنكوبين في الداخل؟ ماذا قدمت فعليا من أجل حماية حقوق الانسان المنتهكة اليوم في سوريا؟
– هذا الموضوع بدأناه منذ تشكيل اللجنة الطبية السورية في 16 أيار 2011 وهو ليس للمباهاة لأن كل ما يقدمه المرء أقل بكثير من الواجب والمطلوب. في آخر النهار ضميري مرتاح لأنني لم أعد أملك سوى قوة عملي الذهنية ومرتب آخر الشهر.
المندسة: عوّدنا د. هيثم مناع أن يكون دائما سباقا في طروحاته و مبادراته. يسأل جلّ الثوار في الداخل اليوم عن معارضتهم ولماذا لا تدخل مناطقهم وتكون معهم يد بيد، تساعدهم وترشدهم، تقف معهم ومع أهلهم في محنتهم بدلا من الخروج على الفضائيات وعقد المؤتمرات في الفنادق.
هل يمكن أن نراك يوما وقد انتقلت للداخل السوري رغم المخاطر لتكون إلى جانب معاناة الانسان ونضاله كما فعلت مرارا في الكثير من الأزمات الانسانية؟
– حتى أكون واقعيا أنا غائب عن سورية منذ 35 سنة زرتها مؤخرا أقل مما مجموعه 35 يوما. من هنا زيارتي ستكون استعراضية وتحت الحماية المشددة كما يفعل البعض وهذا ما لا أحبه.
لقد جرت عملية تشويه لمواقفي وتم تقديمي كمقرب من السلطة بل جرى تزوير وثائق تتحدث عن زيارتي للقصر الجمهوري مع الصديق عارف دليلة وأخرى عن وجودي في مطار دمشق عدة مرات مع أنني لم أزر سورية منذ تموز 2010. عندما يقرأ شاب كل هذا التزوير والكذب (أحيانا من أستاذ سابق في كلية الشريعة) هل يحق لي محاسبة هذا الشاب المضلل على وضعه رصاصة في رأسي؟
المندسة: كيف تقيّم تجربتك في العمل في مجال حقوق الانسان؟ وهل فعلا تركته اليوم من أجل العمل السياسي؟
– تحتاج تجربتي في حقوق الإنسان لحوار خاص عندما تتحسن الأوضاع. لم أترك حقوق الإنسان بل حملتها للنضال السياسي وعندما أفشل في الجمع بينهما سأختار النضال الحقوقي.
المندسة: منذ البداية دعوتم لـنبذ العنف والحوار، ولو أنّ طرحكم قد جاء بـصيغ مختلفة، لكن جميعها تصب في فكرة الحوار. وربما من أجل تجميله وضعتم شرطاً له، كأن يكون مع من لم تتطلخ ايديهم بالدماء.
هل هناك في النظام اليوم أحد يستطيع لجم الآلة العسكرية الفتاكة وتقديم فائدة لـلحل عموماً، ولم تتلطخ يديه بـالدماء بعد؟ الشعب مل من ذلك التوصيف، هل لديكم أسماء محددة ليكون الطرح اكثر استيعاباً و تفهماً؟
– في 29 كانون الثاني 2013 أكدنا في بيان جنيف للمؤتمر السوري الدولي (من أجل سورية ديمقراطية ودولة مدنية) على الحل السياسي وفقا لإعلان جنيف. بعد يوم تسلمنا هدية سماوية بتقديم الشيخ معاذ الخطيب لاقتراحه في الاتجاه نفسه. كان تصريحه بمثابة بزة واقية من رصاص المعارضة الفضائية والافتراضية.
أنا أعتقد بأن النظام لن يرسل الجناح الدموي للمفاوضات بل سيضعه في الغرفة الخلفية وكذلك المعارضة لن تكون من الغباء لتفعل الأمر نفسه. ولكن مراكز القوة عند الطرفين هي من سيقرر المسار.
المندسة: اليوم تنظرون إلى من يدعون لـلحوار على أنهم متأخرين، ولو استمعوا لكم من البداية لـوفّروا الدماء. لماذا تحمّلون المعارضة والثورة المشاركة في المسؤولية ألا يعتبر ذلك جلداً لـلذات ولـلثورة وانتم تعلمون أنّ النظام لم يكن يوماً جاداً في الحوار؟ ومن جهة أخرى، هل تعتبر دعوة الوزير المعلم مؤخراً للحوار حتى مع من حمل السلاح دعوة فارغة غايتها كسب الوقت؟ أم إنها نتيجة ضغط دوليّ جاد؟ أم هو مخرج لـلنظام بعد احساسه بـضغط الثوار عليه؟
– لن أتوقف كثيرا عند التصريحات لأن النظام عودنا على خطاب العلاقات العامة غير الملزم. حتى عندما يصدر مراسيم هو لا يحترمها (كم عفو رئاسي صدر في عامين؟ ولماذا ما زال عدد المعتقلين يفوق عددهم في عام 1982). لكن القتال من أجل القتال غير موجود إلا في فكر التكفير الجهادي. في آخر اليوم سيكون هناك مفاوضات. ولن يتمكن النظام من التهرب منها إلا إذا فشلت المعارضة في إعادة الاعتبار للحل السياسي وفشل العقلاء في تحجيم أنصار الحل الأمني العسكري. كم سيكون خطيرا لو ارتفعت رايات التطرف والتشدد.
المندسة: معاذ الخطيب، وكأي ثائر سوري غير سياسيّ، يبذل ما بـوسعه لـنصر الثورة، و لا يعيبه في ذلك عمره السياسي الصغير و هو لم ينكر ذلك أصلاً. انتقدته انت نقداً لاذعاً ساخراً على أنه رجل دين وعليه أن يتكلم بـأمور الدين فقط، ومن ثمّ عدت واشدت به وبـجرأته وبـمبادرته الأخيرة، ما سبب انقلاب تقييمك له كلياً بـتلك السرعة؟
– لم أدن الشخص ولم أمدح الشخص. لقد كنت من المعجبين بمحاضرة له اعتبر التفاوض فيها واجبا سياسيا وشرعيا، فإذا به يكرر عدة مرات متتالية “لا تفاوض ولا حوار”، هنا خاطبته بالقول إذا كنت ضد التفاوض والحوار فقد استأصلت ثلاث أرباع العمل السياسي وبالتالي عدت لصورتك العامة كإمام مسجد. عندما غير هذا الموقف وعاد لمحاضرته الجريئة حييت فيه ذلك.
المندسة: بعد أن أصبح الجيش الحر أمراً واقعاً، بل عاملاً مؤثراً على الارض وفي الحلول المستقبلية، سياسية كانت أم غيرها. لماذا لمْ نشهد أي تقرّب منكم اتجاهه وهو ركن اساسي في الحراك الدائر؟ ألا يعتبر الاستمرار بـمهاجمته واظهار العداء لـنهجه إنفصالاً منكم عن الواقع؟ ثمّ ما ذنب ثوار سوريا في اللعبة الدولية التي سمحت، عن طريق تركيا، بـإدخال جهاديين عرب وأجانب ينشرون التطرف والفكر الجهادي و يحاولون تغيير صبغة الثورة السورية؟
– بالنسبة لجان بول سارتر أنا إنسان إذن أنا مسئول. لقد تعاملنا مع من ينطلق عليهم تعبير مقاتل وحر بدون عقد أو تعصب مبالغ بسلميته. ولكنني رفضت التعامل مع أي فصيل مرتزق وخاضع لأوامر دول أخرى.
كانت علاقتي بهرموش جيدة لأنه يعتز بموقفه ويحرص على استقلاليته. وأتواصل مع عدد من الضباط يفوق تصور السائل عن الموضوع. لكن هناك فرق بين ضابط يطلب دراسة مبسطة عن القانون الدولي الإنساني ليشرح لمقاتليه كيف يحترمون قوانين الحرب ويرفضون تكرار جرائمها وبين من يقول لك بالحرف: “انقع اتفاقيات جنيف بالماء واسقيها لأصحابك”.
لم يكن المقاتل السوري في وضع صعب عربيا وعالميا، وتذكرني بطاقات الدعم للجيش الحر لأكثر من عام بإعطاء جائزة نوبل لأوباما قبل القيام بعمل متميز له في السلام. عندما يقدم العالم للمقاتل السوري عدة أوسمة قبل أن يحمل السلاح. ونجد في الصحف والمجلات الغربية صورة المقاتل من أجل الحرية freedom fighter، جميل، فقير، مخلص، ديمقراطي ويحب شعبه.. من واجب هذا الكائن أن يرتقي لهذه الصورة لا أن يجد المبررات للسرقة والخطف وطلب المساعدات وبيع المعلومات عن جيش سورية والقتل المذهبي والتمثيل بالجثث والتعذيب.
هناك فيلم اسمه “مادام في العالم حروب”. الحرب قذرة لها سماسرتها وأسواقها السوداء وقتلتها المحترفين لذا قلت من اليوم الأول التبعية ستتضاعف والسرقات ستصبح خيالية وجرائم السلطة سيعاد انتاجها ونصل لدرجة تخاف منها المعارضة من فتح باب المحاسبة وليس فقط السلطة الدكتاتورية. كل من قام بتعاون قتالي مع القاعدة مسئول عن تحطيم المشروع الديمقراطي في سورية، كل من أخفى جرائم التكفيريين الأجانب مسئول والمسؤولية هنا ليست فقط في صف المقاتلين بل الشعبويين الذين يبحثون بكل الوسائل عن إنجازات عسكرية ولو على حساب المدنية والبنيات التحتية والتماسك الاجتماعي.
أرفض تقديس القتال وأذكر بأن مجرمي القاعدة لا يميزون بين المدني والعسكري والمقاتل والقاعد في عملياتهم العمياء في الصومال واليمن والعراق فلماذا يميزون في سورية؟ أرفض النفاق الذي يطالبهم بالعودة إلى صفوف الثورة رغم أنهم قالوا بصراحة (نجدد البيعة للظواهري). وأفضل أن ينتقدني الشباب على أن أعطيهم أفيون الحقد المذهبي التكفيري.
المندسة: ما رأيك بـشخصية أبو فرات، أحد قادة الجيش الحر في حلب، وأفعاله وكلامه قبل استشهاده؟ ألا يشكل حالة ثورية وطنية بـامتياز؟ هل تنظر لــتلك الحالة على أنها نادرة بين صفوف الجيش الحر، و هل مبدأكم المناهض لـلسلاح عموماً يمنعكم من الإشادة به و الوقوف معه ومع أمثاله من الثوار؟
– يوجد في الجيش الحر حالات نضالية وأخلاقية عالية رفضت الارتزاق ورفضت الارتهان للخارج وأنا أتواصل معهم مثلما أتواصل مع رموز المقاومة المدنية الكبار. في المحصلة النهائية لن يكون هناك نهاية لنفق العنف دون دور استثنائي لأكثر الضباط محبة لشعبهم في المؤسسة العسكرية والمعارضة المسلحة. وبدون عمل مشترك لهم في إعادة بناء الجيش على أسس وطنية تدعم دولة المواطنة يصعب الحديث عن قيام سورية الجديدة.
المندسة: ما المقصود بـالحل السلمي للأزمة السورية؟ إن كان بـعودة المظاهرات إلى الشوارع، فـهذا ما يراه الكثيرين ضربا من المستحيل، خاصةً بعد زوال كل الخطوط الحمراء عند النظام وآخرها استخدامه لصواريخ السكود. وإن كان بالحوار على انتقال السلطة سلمياً، فـهيئة التنسيق رفضت مؤخرا بلسان رئيسها حسن عبد العظيم الحوار الذي دعى اليه وليد المعلم من روسيا واصفاً اياه بالعلاقة العامة و غير المجدية.
أين ترى الجدوى في التحرك السلمي إذن؟
– في الحياة، كما في التجارب الكيميائية، سينسى الناس كل التجارب الفاشلة ويبقى في ذاكرتهم ما نجح مثل اجتماع الطائف أو مباحثات خروج الجيش الأمريكي من العراق. نحن نعيش هذا الاختبار. اختبار قدرة تطويع الحل السياسي للمستجدات بحيث يكون بوسع الديمقراطيين تقديم الدواء اللازم لداء العنف. النظام القديم مات بكل المعاني، كيف نخفف على شعبنا مخاضات الانتقال وإعادة البناء. مهما طال أمد القتال سيعود دائما السؤال هل كان هذا هو الثمن الوحيد للتغيير؟
المندسة: لتكن مدينة حماه مثالاً، فـقد خرج اهلها لـساحة العاصي الشهيرة بمشهد غير مسبوق، ولو صح الوصف هنا، فقد حققت المدينة وأهلها كامل شروط الثورة السلمية على نظام حكم مستبد، ولم تؤثر المجازر التي ارتكبها النظام بحقها على تغيير النهج ولم تُولّد العنف المضاد فيها إلى أن اجتاحها الجيش، وقتل واعتقل الكثير من اهلها وناشطيها واحتلها بدباباته وشبيحته، والى اليوم تعتبر المظاهر المسلحة المعارضِة فيها محدودة. لو آلت كل المدن السورية لما آلت إليه الأمور في حماه، وابتعد الثوار فيها عن المقاومة وحمل السلاح، هل كان لـيبقى في سوريا ثورة اليوم؟
– حماه أعطت الأنموذج لأن غياب المظاهر المسلحة لا يعني وجود علم أبيض واحد في المدينة وأن المقاومة المدنية تحفظ للناس القدرة على النضال والبناء.
وكما أقول وأكرر دون كلل أعطينا المقاومة المدنية ستة أشهر ثم جعلناها سببا لغياب النصر، ماذا أعطانا التسلح في 18 شهر هل من مراجعة جدية واحدة لهذا السؤال؟
المندسة: داريا، وفي نظر جل جمهور الثورة، هي الحالة النموذجية لـلثورة السورية من حيث التزامها وتفانيها ووعيها، ومن رفاق غياث مطر – و الذين وزعوا الورود معه على الجيش – من حمل السلاح لاحقاً عندما ادركوا ألا حلّ مع هذا النظام إلا بـكسره، خصوصاً بعد مجزرتها المروعة. هل يمكن أن تلوم ثوار داريا اليوم وهم يقاتلون النظام بعد أن استنفذوا كل الوسائل قبل السلاح؟
– يعلم من يسأل دور متطرفي النصرة وأخواتها في استمرار معركة داريا لأن أبناء المدينة يرفضون تدمير مدينتهم ويعرفون معنى التراجع التكتيكي وعدم تحويل أبناء مدينتهم للاجئين ومعاقين وبيوتهم لأطلال.
المندسة: أنتم في هيئة التنسيق صنفكم النظام بـالمعارضة الوطنية، ولم يتهجّم بـإعلامه وأبواقه عليكم ويخونكم بـقدر ما فعل مع غيركم. لكن وفي المقابل، اعتقل عبد العزيز الخيّر ورفاقه، هل كان في ذلك رسالة لكم؟ أم لـمن اعطاكم الضمانات بـالعودة (ونقصد هنا روسيا والصين)؟ أم أنّ لاعتقال الخيّر مرجع طائفي يخشى فيه النظام من تمدد المعارضة داخل الطائفة العلوية، وكان ذلك مترافق زمنياً مع احداث القرداحة؟
– عبد العزيز الخير وإياس عياش وماهر طحان حالات وطنية وليسوا مشكلة طائفية الطابع. كفاءات وأخلاق عبد العزيز نادرة في المعارضة السورية. وأظن بأن السلطة تخشى من دوره في حل سياسي يقوم على بيان جنيف لذا جعلت منه رهينة.
المندسة: تناولتك بعض المصادر الاعلامية كمرشح محتمل لرئاسة حكومة وحدة وطنية تحت قيادة بشار الأسد. والبعض أشار أن إيران هي من كان وراء هذه الفكرة ضمن خطتها المقترحة لإنهاء الأزمة في سوريا.
ما تعليقك؟
– ليست إيران من اقترحني لذلك بل دول أخرى. نحن بحاجة للكفاءة والمعرفة والمتابعة والإخلاص عند من يتصدى لدور رئيس وزراء كامل الصلاحيات وفق إعلان جنيف. غيابي عن الوطن لا يسمح لي بادعاء ذلك ويوجد من هو أفضل مني لمهمة صعبة كهذه.
المندسة: تهدي كتابك الأخير لشهيد “ربيع المواطنة” أخيك معن العودات: “… على الدرب أيها الرمز من أجل الكرامة والحرية والعدالة والمساواة…ولكل شهداء المواطنة من الماء إلى الماء..” برأيك هل هذه المفاهيم مرتبة كسبب ونتيجة وعلاقتها تراتبية أم أن توفرها معاً أولوية لازمة لتحقيق المواطنة؟
– متداخلة، أنا لست ليبراليا في فهمي للديمقراطية وأطالب بالعدالة والكرامة والمساواة كشروط مخففة من أوجاع اقتصاد السوق في بلدان الجنوب وعوامل تعزيز للمواطنة في وجه استلاب الإيديولوجيات العضوية والعصبية.
المندسة: هل وصلنا، كـسوريين، لـنقطة اللا عودة في الوحدة الاجتماعية والجغرافية؟ وهل شعار الشعب السوري واحد ما زال ساري المفعول؟ أم أنّ ترديده بات مكابرة ليس إلا وتعامي عن الواقع؟ وأين ترى المسألة الطائفية والإثنية في سوريا اليوم؟
– أي مشروع لبناء سورية جديدة هو مشروع إرادة جماعية لعيش مشترك أولا. مشروع “أهل السنة” الذي حمته طفيليات الثورة المضادة غير حضاري وغير مدني ومدمر للشخصية السياسية والثقافية السورية. وهو الوحيد في مواجهة مشروع الدولة الديمقراطية المدنية. قد يحقق انتصارات مؤقتة بالمعنى التعبوي والشعبوي، لكن لحظة الحقيقة ستكون برأيي أقوى وكما قال صالح العلي يوما:
يريدون باسم الدين تقسيم أمة
تسامى بنوها فوق دين ومذهب
وما شرع عيسى غير شرع محمد
وما الوطن الغالي سوى الأم والأب
سيقوم من بيننا من ينتصر للكرامة الإنسانية والمشترك المواطني والمدنية الجامعة لكل السوريين.
المندسة: صالح مسلم قائد لـحزب البي واي دي، وله جناح عسكري قد انتشرت عناصره لحماية المناطق الكوردية، وهو بذات الوقت قيادي معكم في هيئة التنسيق، هل هذه ازدواجية؟ ما مبرركم ان تتفهموا حق البعض في حمل السلاح وحماية نفسه، بينما في الجهة الأخرى يصبح تمرداً او عنفاً غير مبرر؟ و كيف تقيّم سياسة حزب البي واي دي في الثورة السورية، والتي يصفها كثر بـالانفصالية؟
– هناك إشاعات لم أتأكد من صحتها تقول بأن شبابنا في دوما عندهم جناح عسكري… لم يعد هناك تخوم واضحة في عدة مناطق بين العسكري والمدني ولم يعد في بعض المناطق تخوم واضحة بين الإرهابي التكفيري والمقاوم للدكتاتورية. يوجد ازدواجية في صفوف المعارضة السياسية حول سقف ومعنى وحدود التسليح بما في ذلك هيئة التنسيق للتداخل والتعقيد القائم. لقد قلت في أكثر من مناسبة ليس كل سلاح مقدس ومن السلاح ما هو مدنس. واتصلت بعدد كبير من الضباط المنشقين لتشكيل لجنة عسكرية وطنية قادرة على سد أي فراغ في تصدعات الجيش. فنحن نحرص على تماسك الدولة وسقوط النظام. ومن عناصر تماسك الدولة عدم انهيار المؤسسة العسكرية.
لقد قلت لصديقي صالح في جلسة عامة في مؤتمر باريس: لن يكون هناك بيشماركة في سورية ولن يكون هناك فريق مسلح خارج مؤسسات الدولة الديمقراطية. حزب الاتحاد الديمقراطي يعتمد على نفسه أولا ولا يعتمد على قوة خارجية ويرفض الأطروحات الانفصالية وهو علماني ديمقراطي ولم يقم بعمليات هجومية. إذا توقف الأتراك عن إرسال الأجانب والغرباء للسيطرة على المناطق الكردية فلن يكون للهيئة الكردية العليا مظاهر مسلحة.
المندسة: غلّبتم في خطابكم لغة التنبيه والتخويف من الآخر: المعارض، الخارج، المستفيد، الممول، المرتهن… الخ، على لغة التعزيز والثقة بالثائر العفوي، ليصبح محاصراً مرتين. كيف تقيّم خطابك؟ هل تعتقد أنه مرن حساس متفاعل متواضع بالشكل الكافي كما هو صادق محب وملتزم؟
– قال لي أحدهم في مؤتمر بمقر الحزب الشيوعي الفرنسي: أنت شغلتك وعملتك نقد المعارضة. وقد آلمني حقا أن هناك من ينشر ويوزع هذه الصورة. سأنقد المعارضة وهيئة التنسيق ونفسي من أجل أن نتقدم لأننا في محاور ومحطات كثيرة تراجعنا.
لو أعطيت أربعة أمثلة لمثقفين علمانيين سوريين كانوا واضحي النقد للقرضاوي والمذهبية و”القاعدة” والإعلام الخليجي والحركة الإسلامية السياسية. منذ عامين لم أقرأ أو أسمع كلمة ناقدة لأحدهم في هذه الموضوعات الملتصقة لسبب أو لآخر بالواقع السوري. باسم ماذا كل البنادق لإسقاط النظام. واليوم الخوف من أن تسقط الديمقراطية ويبقى النظام (أي تبقى الدكتاتورية بثوب جديد).
الثائر العفوي لم نقترب منه ولم نجرمه. ولكن هذا الثائر عندما كان موضوع احتواء وتوظيف الثورة تراجعت والحرب تقدمت وضاعت البوصلة. يمكن أن نقول لشخص يصاب بالسرطان انتبه للتدخين لأن لديك استعداد قوي للسرطان حتى لا يصدم دفعة واحدة، ولكن أن نقول له الدنيا بخير فهذه جريمة.
لقد رأيت اعترافا لأحد المعتقلين على اليوتيوب مأخوذا من التلفزيون السوري وبعد الاعتراف جاء في التعليق هذا الإنسان الطيب والحساس كيف تحول لقاتل لجيرانه. حتى تلفزيون الدكتاتورية يبصر الخصائل الخيرة للثائر فلا تضعوني خارج ما أقول وأتبنى.
لقد كررت مئة مرة أن الثورة السورية قد كشفت من معادن وإمكانات أسطورية عند هذا الشعب أصابت العالم بالذهول وأن الحل الأمني العسكري وردود الفعل عليه سمحت برؤية طحالب وآفات لم يسمع بها أحد. وكم شعرت بالإساءة إلى نشر عدة مواقع نصف الجملة الثاني في عدة أماكن.
المندسة: الثورة السورية في عامها الثالث، بكل تأكيد ليس بـالتفاني وحده استمرت الثورة لـسنتين، بل كان لـلفكر التحرري و الوعي الثوري الشعبي الفضل الأكبر في ذلك.
يتساءل البعض هنا: لمَ هذا الاستعلاء منكم على الشارع؟ فـمرّة تضرب في مصداقية رواياته كـالتشكيك في قصة اغتصاب الحرائر، ومرّة تقول أنّ اللافتة التي ترفع مأجورة و ليست بـالضرورة تنم عن قناعة و وعي شعبيان، أليس في ذلك تقزيماً لـهذا الشعب الملحمي؟ ألم تقطع حبال الوصال معه بـالنقد السلبي المتكرر له؟
– دور المثقف النقدي مثل مركز رصد الكوارث الطبيعية. لقد رأيت كارثة قادمة تتعرض لأجمل حدث في تاريخ سورية المعاصر، حاولت إطلاق ناقوس الخطر فقامت عليّ قوى الثورة المضادة بكل مخالبها وسلطانها. وفي محطات عديدة كنت لوحدي. اليوم يقول الناس لقد كان على حق، لقد قال لنا لن يكون العيد عيدين، قال لنا القصة طويلة فأعدوا العدة لمقاومة طويلة الأمد، قال لنا المجلس لا يصلح ولا يصلح ولا يمثل الشعب السوري، قال لنا الخ. أحب التذكير بأن اسم أبو جهل شاع بعد انتصار الإسلام وليس قبل ذلك.
المندسة: في مقدمة كتابك الصادر حديثاً “ربيع المواطنة” مجموعة مقالات عن الثورة السورية، تذكر في المقدمة وبأسى طبيعة الانتقادات والتهديدات والشتم التي وصلتك رداً على اتهامك بعض المتظاهرين بأنهم يرفعون ضدك وضد الهيئة لافتات مأجورة. وتقرأ الامر مستنتجاً “بأن هناك من يخاف مما نقول ومما نطرح ولم يعد يستطيع تحمله”. اليوم وبعد مضي سنتين، وفي مراجعة صادقة، هل ترى أسباباً إضافية لما ذكرت كان لك فيها حصة وقد تتعلق بك؟
– بالتأكيد، ليست الحقيقة وحدها التي تتكلم ولكن الطريقة التي تعرض فيها الحقيقة وبالتالي اعترف وأقر بأنني أخطأت في أكثر من مناسبة في اختيار كلماتي.
كان ومازال هناك مؤامرة لإزاحة الثوار الأكثر وطنية والأكثر مدنية والأكثر استقلالية وكلما شاهدت شهيدا من هؤلاء عندما اسمع بسقوط جهاد ومعن وصالح وموفق ومحمد عبد الرزاق وبشار وعشرات الأسماء ممن أعرفهم وتواصلت معهم حتى قبل الاستشهاد بساعات. وأرى تغييبا لهؤلاء ودخولا منظما لشذاذ آفاق يأتون باسم الجهاد لتشويه ثورة ديمقراطية مدنية بشعارات ظلامية وصمت إقليمي وغربي أقول لنفس كان الضغط يزداد والشعور بالعجز عن مواجهة تسونامي الحرب المذهبية الممول خليجيا وغربيا يجعلني ألجأ مضطرا لصدمة العبارة حينا وصراحة المؤلم أحيانا أخرى.
المندسة: كيف ترى دورك الآن: زعيم قيادي؟، ممثل للثورة أو للسوريين؟، صوت لقطب في الثورة؟
من تمثل سياسياً؟ ما هي قاعدتك الجماهيرية؟
– سأقوم بدوري كمفكر نقدي ومناضل سياسي من أجل تكوين حلف ديمقراطي مدني سوري وإقليمي يسمح بمواجهة احتمالات إعادة صناعة الدكتاتورية ويفتح لدولة المواطنة والتآخي بين الشعوب آفاقا جديدة.
على فكرة أنصح بقراءة كتابي القادم “الإسلام وأوربة الصورة النمطية للذات والحق في الإختلاف” فهو يوضح هذه العلاقة المباشرة بين الفكر والممارسة.
المندسة: د.مناع، في المندسة اليوم نكاد لا نرى تعليقاً على أي من تصريحاتك. هل تعتقد أنك خسرت الكثير ممن وثق بك، ولماذا؟
– يمكن الشبيبة ملّت من هذا الموضوع أو تعبت مني لكن كم من أبناء المخيمات لم يعد لديهم علاقة إلا بمذياع ترانسيستور صغير أظن أن تأثير العالم الإفتراضي يتراجع في الأوضاع اللا إنسانية.
المندسة: لو عاد الزمن بـهيثم مناع لـمنتصف آذار 2011، عندما استضافتك قناة الجزيرة أول مرة لـلتعليق على احداث درعـا، هل ستنتهج نهجاً آخر اتجاه الشارع السوري الثائر، تتقرب منه أكثر وتتحلى معه بـنزق الثوار؟ أم ستكون مواقفك كما هيَ اليوم، ولا ترى هناك أي خطأ في سياستك و مواقفك و تصريحاتك اتجاهه خلال العامين الماضيين؟
– لن أدفع متليكا واحدا من أجل الشعبية. ولن أكون مشروع غاية سياسية تبرر الوسيلة.
روى لي الكاتب الفلسطيني الفقيد عبد الله الحوراني في بيت أبي خلدون حسين العودات أنه قال في جلسة للحوار بين فتح وحماس في مصر بعد مأساة غزة: أذكركم بقول الشاعر القروي:
سلام على كفر يوحد بيننا
وأهلا وسهلا بعدها بجهنم
هبوني عيدا يجعل العرب أمة
وسيروا بجثماني على دين برهم
فوقف موسى أبو مرزوق وقال له: يا رجل كفر خاف الله خاف الله
ربما انتصرت مدرسة خاف الله. وشلة لا نريد جرح مشاعر الناس التي استعملها أحدهم لحذف جملة الدين لله والوطن للجميع من الميثاق الوطني في القاهرة وكأن المدافعين عن هذه الجملة عديمي المشاعر. لكنني سأدافع عن قيم وحقائق وحقوق وحريات في وجه من يسعى لمصادرتها، وأحيانا وبكل أسف باسمها.
أرفض كلمة الاستعلاء لأنها تنطبق على من ينام في الريش ويتحدث عن كوخ العريش ولا تنطبق على من يقاسم الناس كل ما عنده.
المندسة: كماركسي منتخب في أول مكتب سياسي لرابطة العمل الشيوعي طرحت مشروع توحيد المنظمات الشيوعية المعارضة في إطار الحزب الشيوعي المكتب السياسي وفشل حينها، فانتقلت إلى العمل الحقوقي ومنظمات حقوق الإنسان ثلاثين سنة. مع بدء الثورة السورية انتقلت للعمل السياسي كقيادي لهيئة التنسيق، ما الخطوة القادمة وماذا ستترك خلفك؟
– ليس لدي أي طموح لمنصب سياسي. فرض علي في يوم من الأيام أن أكون رئيسا لاتحاد للجمعيات الإنسانية كونني الوحيد المقبول من طرفي الاتحاد (العلمانيين والإسلاميين)، اليوم أقوم بكل ما يحول دون أن أكون مضطرا لقبول مهمة كهذه. لذا أزيد انتقاداتي حبتين على بعض الدول وبعض القوى لكي يضعون خطا أحمر لا يضطرني لأن أكون في محل صديقي منصف المرزوقي الذي على العكس مني أحب امتلاك مشروع حزبي ورئاسي منذ سنوات.
سأترك خلفي بصمات لن ينجح في مسحها أحد مهما كذّب وتجنّى: الأمانة والصدق والنزاهة في العمل العام. قوة المبادرة وضرورة الابتكار ووجودية الفكر النقدي كشرط من شروط الأنسنة، قوة التمسك بالكرامة والحقوق والحرية وحق الحياة. قوة استقلال القرار والإرادة وإنسانية واحتقار المال والسلطان. أما الباقي فيذهب غثاء.
المندسة: رسالتك في جوهرها تعلي من شأن الإنسان الفرد الحر العارف، فكتمهيد لواحدة من مقالاتك الهامة “الخصوصيات الحضارية وعالمية حقوق الإنسان” لفت نظرنا اختيارك ستة أبيات، تتعلق بأوديب دون غيره، من قصيدة بدر شاكر السياب “المومس العمياء“، الطويلة جداً (372 بيتاً) والتي تغص برموز وشخصيات وإحالات أدبية وأسطورية متعددة.
حين يجيب أوديب وهو على أبواب مدينة طيبة، أبو الهول، حارسها في بحثه عن الملك الحكيم، الأحجية الشهيرة التي كانت تطرح على كل غريب يقصدها: “ما الكائن الذي يمشي على أربع في الفجر واثنتين في الظهيرة وثلاث في المساء؟ ” وقد أجاب: الإنسان… وبهذه المعرفة استحق أن يتوج ملكاً عليها.
يلقي أبو الهول الرهيب، عليه من رعب ظلال والموت يلهث في سؤال
باق كما كان السؤال، ومات معناه القديم من كثر ما اهترأ الجواب على الشفاه.
وما الجواب؟ “أنا” قال بعض العابرين
تعرف أنّ للحكاية كما للقصيدة بقية لا تنتهي هنا… ففي رحلته من اليقين إلى التوحد والفردانية، ومن غير قصد، بل وبتلك المعرفة ذاتها أدرك أوديب أنه قد قتل أباه وتزوج أمه، ملكة طيبة، ففقأ عيناه…
نترك التعليق الأخير لك
– حصار درعا هو الذي قتل أبي وأمن الدكتاتورية قتل أخي وأحبائي أما أمي فتكاد تموت كل يوم عشرين مرة ألما في حقبة “المومس العمياء العربية”… عزائي أنه في عائلتي، بالمعنى الأسري والنضالي ولحسن الحظ لا يوجد ملوك وأمراء بل عشرات أبي ذر الغفاري…