قرأت باهتمام و دقة دراسة الدكتور محمد السيد سعيد ” الدفاع الجماعي الشرعي ضد الإرهاب … يجوز أو لا يجوز ؟”(1). ولتقديري الكبير لصديقي كاتب البحث ، فقد أعدت القراءة أكثر من مرة و بحذر أكبر وتدقيق أكثر، خاصة و أن تحليل محمد يتفق و ذاك الذي يقدمه عدد من الكتاب الأوربيين الذين يتحدثون عن خطر “الخمير الخضر” في تذكير بالمجازر الجماعية للخمير الحمر في كمبوديا (2) عند التطرق للمأساة الجزائرية.
و أود الإشارة بادئ الأمر، أنني سأتجنب الدخول قدر الإمكان في المعطيات النظرية لقوننة العنف في الدولة و المجتمع . و سأحاول استنباط تصور و موقف من مسألة الدفاع الذاتي انطلاقا من المعطيات المجتمعية، مستعينا بشهادات غنية سمحت لي بتجميعها زيارة، ثم مهمة تحقيق قمت بهما للجزائر في العامين الماضيين (3)، إضافة إلى متابعة هذه الشهادات عبر زملاء يعملون من أجل الضحايا كل يوم في الجزائر و شهادات عدد كبير ممن اضطرته الأحداث لمغادرة البلاد خوفا من أحد أطراف الصراع ( تقدر الأمم المتحدة عددهم بنصف مليون جزائري).
لا حاجة للتذكير بموقفي النقدي للحركة الإسلامية السياسية و صعوبة اتهامي بالتواطؤ مع أي من أطرافها، كذلك أيضا معروفة مواقفي النقدية من السلطة الجزائرية. وبالتالي فإنني اشعر “بامتياز” خاص تسمح لي به هذه المسافة التي تفصلني عن أطراف الصراع : امتياز الحديث بصراحة تامة دون مخافة أن يوضع على ظهري ختم هذا الفريق أو ذاك . كذلك لا حاجة للتأكيد على أن موقفي منذ الأحداث المؤلمة التي عاشتها سورية بين 1978- 1982 ، أي فترة المواجهة المسلحة بين السلطات السورية وحركة الاخوان المسلمين، يقوم على أن من يلجأ لاستعمال العنف وينتمي إلى الجنس البشري بوصفه كائن عاقل فهو كما يقول المعتزلة وسارتر مسؤول من جهة ، ومن جهة ثانية ، وكما تقول الشرعة الدولية لحقوق الانسان، فان له أيضا حقوق.
تساؤلات
يحتاج تناول أية حالة خاصة إلى تحليل خاص متماسك يقوم على إعادة تناول المعطيات النظرية والمعالجة المعمقة للمعطيات العيانية في محاولة لتفهم الأسباب والسعي إلى إبداع صيغ علاجية مناسبة. ومجرد قبولنا مع الباحث بأن الجزائر تتفرد بهذا ” الانفلات الوحشي والاجرامي الهمجي” يعني بداهة وبالضرورة التعامل مع هذه الحالة بشكوك منهجية أساسية وتساؤلات شئنا أم ابينا مشروعة:
1 – ماهو حجم و مسؤولية السلطات الجزائرية في إنتاج وإعادة إنتاج الحقد والعنف في المجتمع ؟
2 – أخذا بعين الاعتبار قواعد الديمقراطية الشكلية، ومهما كانت رغباتنا الذاتية والموضوعية، هل يمكننا اعتبار السؤال عمن يمثل الشرعية في الجزائر سؤالا غير مشروع ؟ وهل يمكن غض النظر عن أن “الإرهابيين” هم أبناء صناديق الاقتراع وأن “العسكر” هم المسؤولين عن وقف العملية الانتخابية ؟
3- لماذا قبل العالم أجمع بمشاركة بول بوت الذي لا يختلف خبيران عاقلان على محاكمته لارتكاب جرائم ضد الإنسانية في مباحثات سلام كمبوديا في حين يستثنى من الحوار في الجزائر ليس المعادل الجزائري للخمير الحمر (كتيبة الأهوال) وإنما حتى أكثر العناصر اعتدالا في الجبهة الإسلامية للإنقاذ ؟
4 – كيف ينجح الجيش في الجزائر في فبركة أجهزة الدولة وقطاعها العام وموظفي ووكلاء الثروة النفطية والمؤسسات “الشعبية” ويحدد الخارطة الحزبية للبلاد والمرخص والممنوع والمعارضة المقبولة وتلك المرفوضة وكبار المسؤولين وكبار المهمشين وانتخابات في صناديق اقتراع متجولة و يفشل في الرد على نداءات قرويين على ضربة حجر من العاصمة يستنجدون به ضد العناصر الإرهابية ؟
5 – لماذا تتكثف أهم جرائم الحرب الأهلية الجزائرية في مثلث الموت ( الميديا) و كيف يمكن حماية آبار النفط و التابلاين و لا يمكن حماية سكان المناطق المنبوذة منذ الاستقلال ؟
6 – لماذا ينقضّ الإرهابي في الجزائر على اخوته و أبناء عمه ومن دعمه سياسيا وماليا في السنوات الأخيرة عوضا عن أن يخوض حربه مع خصمه السياسي والعسكري ؟
7 – لماذا لم تبادر الحكومة للتحقيق أو فتح مجال التحقيق المستقل في أهم عمليات الاغتيال المنسوبة إلى الإسلاميين وبشكل خاص اغتيال يوسف فتح الله رئيس الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان أو الأمين العام لاتحاد نقابات العمال؟
8 – ماهو المآل القانوني لأهم القضايا التي شهدت في وقتها استعمالا إعلاميا خارقا للمعتاد لإدانة الإرهابيين في الجزائر ؟
لا ادعي امتلاك الإجابة بشكل حاسم و واضح على هذه التساؤلات ، و لكنني ادعي مشروعيتها انطلاقا من المعطيات و الحالات التي درستها في المأساة الجزائرية .
لم أذهب للجزائر أول مرة لمقابلة الإسلاميين و إنما قيادة المرصد الوطني لحقوق الإنسان ونشطاء من الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان والرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان. ومنذ الزيارة الأولى كان لدي إصرار على مقابلة ضحايا الإرهاب والحديث معهم. و عندما لم يتم ذلك بشكل رسمي، قمت به بشكل غير رسمي وتوصلت إلى أن هناك ما يملى على الضحية لتقوله ولو لم يتوافق مع ما لدى الضحية من أوجاع ومعاناة و شكوك. وقد صفعتني شهادة زوجة شخص يقدم كضحية للإسلاميين. فما أن اطمأنت لي حتى أسرّت بأن زوجها كان قد هدد واستجوب من قبل الشرطة الخاصة قبل أيام من اغتياله. وانه لم يتلق يوما أي تهديد من أي طرف إسلامي كونه ابتعد عن القضايا السياسية والعامة قبل اغتياله بعامين. وكونها لا تريد اللحاق بزوجها وترك أطفالها في الشارع فهي تؤثر الصمت.
من جهة ثانية، تحاول السلطات أن تضخم الفزاعة الإسلامية قدر الإمكان كأفضل غطاء لسياستها الأمنية وللأزمات الاقتصادية والاجتماعية العميقة في البلاد. ففي الجزائر، 70 % من الشبيبة دون الثلاثين من العمر ولا أمل لغالبيتهم بالعثور على عمل، وقد سرح في السنوات الأخيرة مئات آلاف العاملين بين الثلاثين والخمسين من العمر. فوجود مشكلات أمنية يحصر مطالب الناس بالبقاء على قيد الحياة ويؤخر الحركة المطلبية في المجتمع.
لقد شهدت بنفسي عدة محاولات يعيش فيها مواطنون تهديدا غير معلن يدفعهم لطلب النجدة من الأمن. ومن الحوادث الفردية الصغيرة المعبرة أنه وبعد ساعات من طرحي السؤال حول من اغتال يوسف فتح الله ولماذا في ندوة عامة، جاءتنا امرأة تقول أنها قريبة زوجته وكانت في حالة ذعر وخوف وقالت افعلوا شيئا من أجلي انهم يريدون قتلي. فقد أخبرتنا بأنها قد تلقت إنذارا بالموت من الإسلاميين الذين أخبروها بأنها ستلحق بيوسف. لكن القصة لم تكن محبوكة بشكل جيد وفور انتهاء اللقاء اتصلت بسياسي مقرب من اتفاق روما ورويت له القصة وأعطيته اسم المرأة فضحك ثم قال “سأتصل بالشريرين لأعرف إن كان هناك شئ من هذا القبيل”. واتصل بي بعد يومين ليقول لي تركت اكثر من خبر والشريرين لا يعرفون حتى بوجود السيدة المذكورة فكيف بعلاقة قربتها بالمرحوم يوسف فتح الله، ولن يحدث لها شئ إلا إذا شاء الله والأمن.
في الثالث عشر من يناير ، 1995 تم توقيع اتفاقية الوفاق الوطني في روما. وأثناء سعي الموقعين لتعريف العالم بها وقع انفجار سيارة مفخخة في العاصمة الجزائرية في الثلاثين من الشهر نفسه أودى بأربعين قتيلا و256 جريحا. والسؤال: من المستفيد من هذا الانفجار في هذا الوقت؟
في 21 فبراير 1995 وقعت حوادث في سجن سركاجي أدت إلى مقتل أربعة حراس واحتجاز عدد من الرهائن. وكان الطلب الوحيد للسجناء هو وجود أحد محاميهم أثناء تسليم أنفسهم والتحقيق في جريمة القتل، وكان الرفض هو الجواب. وقامت قوات الأمن بقتل اكثر من 96 سجينا في مجزرة حقيقية. لقد قرأت التحقيق الرسمي للمرصد والتحقيق الأولي لنشطاء حقوق الإنسان ووصلتني شهادات ومعلومات كثيرة عن الموضوع وبإمكاني الجزم بأن قرار الهجوم على السجناء كان قرارا سياسيا وليس أمنيا وذلك للتخلص من عدد كبير من غير المرغوب بهم من السجناء(4).
لقد قدم لي أثناء وجودي في الجزائر من أطراف رسمية وغير حكومية 11 بيانا لجماعات إسلامية مختلفة، وكنت قد جمعت في باريس إصدارات مهمة لهم. وعند دراسة البيانات تبين لي من معرفتي بطرق التزوير أن هناك أربعة منها مزورة بالتأكيد. فهل تزوّر الحركات الإرهابية بحق بعضها أم أن هناك طرف ثالث يقوم بالتزوير ؟
وحتى لا أطيل في الاستشهادات، أعود الى التذكير بأن التدقيق في دراسة ظواهر العنف مسألة جوهرية. فإنتاج العنف في ثقافة هوليود والإعلام السمعي البصري الغربي يفوق بأضعاف مضاعفة مثيله عند الجماعات المتطرفة الصغيرة التي لا تحتل حيزا في عالم الخبر إلا عندما تحطم بعمل بربري الصمت العام في منطقة من العالم. ومن غير المجدي أبدا انتزاع هذه الظاهرة من أسبابها ومقوماتها ومغذياتها، وإلا سقطنا في منطق السيدة اولبرايت وزيرة الخارجية الامريكية التي تضلل عمدا الرأي العام بالقول بأنه لا يمكن مقارنة عملية البناء(للمستوطنات في فلسطين) بعملية القتل( العمليات الفلسطينية الانتحارية)، مغلقة العين عن كون بناء المستوطنات تغتال وجود شعب بأكمله.
لا أريد بهذا المثل تبرير أي عمل إرهابي في الجزائر، ولكن اطمح لمقاومة التفسير المانوي الذي يختزل المأساة الجزائرية في ابيض واسود وخير وشر. فالمأساة الجزائرية هي أولا وأخيرا ابنة وضع تاريخي تراكمت فيه وحشية المستعمر و بربرية الأجهزة التسلطية بشكل أصبح العنف واحدا من أهم عناصر العلاقات ما بين الإنسانية في الحياة اليومية للناس. وطالما كان الأمن قادرا على كبح جماح تفجير هذا العنف بأشكال اكثر شراسة كانت تعبيراته الأساسية اجتماعية. وجاء انكسار هيبة السلطة في أحداث أكتوبر 1988 مفتاحا لاتساع نطاق هذا العنف ليشمل البعد السياسي. فيما يفسر جزئيا القبول السهل لإيديولوجية جبهة الخلاص القصيرة العمر والثقافة والكوادر والخبرة وحتى المعرفة الإسلامية.
لقد مزق التواجد الاستيطاني الفرنسي نسيج العلاقات المجتمعية وتعبيرات الهوية التاريخية الأساسية بتحويلها إلى مرجع سلبي مقابل المرجع الغربي الإيجابي و المتنور، فيما شكل عملية اغتصاب للذات الحضارية لشعب. وقد حمل حكم جبهة التحرير في مزيج ضباط الجبهة والمستعمر واقعة الجيش الذي فبرك الدولة على مقاسه وصراعاته . وأولى هذه الصراعات كانت في التصفيات الجسدية والجهوية داخل البلاد بشكل تركزت الثروة والسلطة معه في مناطق جغرافية محددة ( ما يعرف بالـ ب . ت . اس أي البطنة و تبيسة و سوق الهراس) ، في حين تواجد أبناء الولاية الرابعة في قاع الهرم السياسي والاقتصادي بعد حل جيشها واستبعاد أبنائها من مراكز القرار. وليس محض الصدفة أن حدود هذه الولاية الرابعة هي نفسها ما يعرف اليوم بمثلث الموت. وقد دعمت بشكل أعمى جبهة الخلاص لتخرج من هذا النبذ السوسيولوجي و السياسي الذي طال لثلاثة عقود.
إن تتبع هذه المنطقة منذ أحداث أكتوبر 1988 يظهر مدى العداء للسلطة و الجيش و مدى عنف السلطات في التعامل معها. من هنا غياب ثقة المواطنين في هذه المنطقة بكل ما هو حكومي و حذر كل ما هو حكومي من كل قادم منها.
و يشير بيان صادر عن الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان في نوفمبر الماضي إلى البعد السوسيولوجي للأحداث بالقول: “إن طبوغرافيا الجرائم التي وقعت في صيف هذا العام ( في سيدي ريس ، ميرامار، عين بنيان و بني مسوس) و البنية الاجتماعية للسكان المستهدفين ، المقذوفين من المناطق الداخلية والمقيمين في سكنى مؤقتة وهشة، كذلك نمط وتوجه أسلوب عمل الجماعات القائمة بهذه الأعمال يودي إلى وجود مخطط جهنمي يهدف إلى جعل العاصمة تعيش حالة ذعر عامة تجعل الناس يقبلون بكل المغامرات. فالأمر يتعلق بالهجوم على كل ما تبقى من روابط اجتماعية في صفوف الجماهير فيما يخلق حالة فوضى عامة ورهاب يعم المواطنين”.
إن الإرهابي والمدافع الذاتي والدركي ليست مصطلحات واضحة بشكل يسمح بالاطمئنان المنهجي. ويسهل الاستنتاج بان هناك عدة تعبيرات مسلحة تقوم بالجريمة الإرهابية : هناك المنبوذون الذين ألقت بهم الدولة البيروقراطية إلى أبواب جهنم فامسكوا بها ليعيدوا بحميمها على الحاكم و المحكوم ، وهناك الانتقام بالمعنى الثأري القديم للكلمة، والجريمة المنظمة التي تستفيد من حالة الفوضى في أكثر من منطقة، وأيضا طرف من الأمن العسكري له مصلحة في وجود العنف والتلاعب به وتوظيفه كجزء أساسي من استراتيجية بقائه في موقع الآمر الناهي في البلاد. من جهة ثانية هناك غياب كامل في التجانس والدوافع وأسلوب العمل عند المجموعات المكونة لمن يشمله قانون الدفاع الذاتي و التي يقدر عدد أعضائها اليوم بمائة ألف مسلح : ففي بعض المناطق هناك مجموعات عفوية للحماية الذاتية لا تريد أحدا في مناطقها وتدير ظهرها للجيش والإرهابيين فيما تلخصه شهادة امرأة لنا قبل عامين : فليتبارزوا في الصحراء ويتركونا بسلام . وهناك مجموعات سياسية للحماية الذاتية بتوجيه و طلب من قوى سياسية تعرض بعض مسئوليها للاغتيال أو تخشى من الانتقام لمواقفها المطالبة بمنع الوجود الشرعي لأطراف إسلامية . وهناك من زجت بهم قيادة البلديات بمجموعات الدفاع الذاتي وهم بأمرة الحرس البلدي ويعيشون بأجور زهيدة و أحوالهم سيئة. وهناك من يعرف بالباتريوت ( الوطنيون) وهم ذوي مرتبات عالية وبصلة مباشرة بالأمن العسكري ومهمتهم رصد الآخرين.
ومن المؤسف أن القانون لم ينظم شيئا. فكما هو الحال عموما في الدول التسلطية، وحيث القانون يشكل المرجع الأخير و ليس الأول، فآخر ما يخطر على بال المسلح الاطلاع على مواد هذا القانون. وكون العنف العسكري غير منظم فكيف بالعنف الموازي وغير المنضبط والذي يتخذ يوما بعد يوم أشكالا مختلفة ويوظف لأغراض أخرى ؟ من هنا تحولت فكرة الحماية الذاتية في المجتمع إلى سلاح إضافي في الصراعات الاجتماعية وحتى تصفية الحسابات الشخصية. في مقابلة أجرتها باتريسيا لالوميير للقناة الفرنسية الأولى يجيب أحد مسؤولي هذه المجموعات عن السؤال حول تجاوزات بالقول: ” نحن بشر ولسنا ملائكة “.
و كون غياب المحاسبة (اللاعقوبة) هي مكافأة الولاء للحاكم ، فقد تحولت مسألة الدفاع الذاتي في العديد من المناطق الى أداة ردع للمواطنين من قبل المواطنين.
وما دمنا نتحدث عن القانون، لقد تابعت عدة ملفات تم الحكم فيها بالإعدام على أكثر من 35 شخصا في أقل من نصف ساعة. كيف يمكننا تصور محكمة عادلة تصدر أحكاما بهذه الخطورة في زمن قياسي كهذا؟ لقد نشرنا في تقرير “رفع الحجاب” رسالة من وزير العدل يطلب فيها من القضاة عدم التساهل في الأحكام في قضايا الإرهاب، وهناك عدد من المحامين والقضاة اغتيلوا أو اختفوا في ظروف غامضة أو اعتقلوا (كحالة رشيد مسلي) لمجرد دفاعهم عن متهمين إسلاميين. وقد وجهت السؤال في وزارة العدل الجزائرية لأمين عام الوزارة: لقد شعرت بأن القاضي في هذا البلد هو مجرد موظف في القطاع العام فكان جوابه: هذا ليس ذنبنا، هذا إرث يحتاج إلى وقت، فما كان مني إلا التعقيب وأنا أظهر له رسالة من وزير العدل تتعامل مع القاضي كموظف تابع للسلطة التنفيذية: هل برسائل كهذه تتخلصون من هذا الميراث؟ فأجاب وقد عرف التعميم: هذه مجرد ورقة لسلة المهملات.
من المفيد التذكير بأن فترة الاستشراس العنفي في الحرب الأهلية قد ترافقت مع بحث جبهة الخلاص عن حل سلمي للأزمة وقضاء قوات الأمن (أو الصراع الداخلي) على كل القيادة التاريخية للجماعة الإسلامية المسلحة وصولا إلى إعلان جيش الخلاص وقف إطلاق نار من جانب واحد و بدون شروط. فهل أدى ضعف إرهابيي الجماعات الإسلامية المسلحة إلى استشراسها وكيف رغم إضعافها ما زالت تتمتع بإمكانية الحركة والمبادرة ؟ من جهة ثانية ليس هناك أي إحصاء يفيد بأن عدد الضحايا قد تأثر بتسليح القرويين.
ان نقاط الغموض المذكورة مجتمعة هي التي دفعتنا للدفاع عن مبدأ لجنة تحقيق محايدة غير حكومية سماها البعض دولية و البعض الأخر عربية-إفريقية. وإن كنا نعرف مسبقا بأن كشف نتيجة التحقيق في مجزرة قانا قد كلف بطرس غالي منصبه كأمين عام للأمم المتحدة وأن هناك لجان تحقيق فشلت في مهمتها وأن بتلر بحماقته كاد ومازال يلعب لعبة الحرب القذرة في العراق، إلا أننا نتبنى هذه الفكرة كعتلة لمناهضة مبدأ غياب العقوبة في الجزائر ولكي يشعر المسؤول عن القتل بأنه سيحاكم يوما لجرائمه، مهما كانت قرارات ستراسبورغ حول هذا الموضوع أو تقديرات تقنني الأمم المتحدة. لقد اصبح من واجب المجتمع غير الحكومي العربي التدخل للمطالبة بلجان تحقيق و لتشكيل محكمة راسل لجرائم الحرب الأهلية في الجزائر كرد في مستوى المأساة التي يعيشها هذا البلد. فعندما نتحدث عن الجزائر اليوم يجب أن لا ننسى وجود 18 ألف معتقل في السجن في قضايا الإرهاب وقرابة أربعة آلاف مفقود ومائة ألف قتيل.
و كوني ممن شارك في صياغة موقف إحدى المنظمات الدولية سواء من مجموعات الدفاع الذاتي أو من الحكومة الجزائرية ، فإنني اعتبر هذا الموقف حكيما وملائما للحالة الجزائرية الراهنة. لأن السلام يتطلب نزع السلاح لا توزيعه بشكل غير مسؤول وهو يتطلب أيضا احترام الدولة لحياة مواطنيها ودفاعها عنهم لا اعتبار هذه المسألة ورقة من أوراق السلطة التنفيذية والأمنية في البلاد . كذلك يتطلب السلام إشراك كافة الآراء والحساسيات التمثيلية للمجتمع التي تقبل التداول السلمي على السلطة ومبادئ الدستور والتزامات الجزائر الدولية ، وليس تفصيل أطراف الحوار من فوق ثم فرض التمثيل في البلاد في انتخابات على الطريقة المحمودة.
من الصعب التوجه إلى أشباح الإرهاب لرسم معالم دولة القانون في الجزائر ، أما تسعير الدولة للعنف فيعني دخول نفق لا يدرك أحد إلى أين سيصل بالبلاد و العباد .
1) منشور كافتتاحية للعدد السابع من مجلة “رواق عربي” ، يوليو 1997 – مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.
2) في مقالة له في صحيفة الموند الفرنسية يتساءل برنار هنري ليفي : ” هل يجب بانتظار ذلك الدفاع عن مبدأ ” الجماعات المسلحة للدفاع الذاتي ” ؟ ألا نخاطر بتأجيج نار لولب الجنون ؟ الخطر بالتأكيد موجود ، و ليس من السهل على أي ديمقراطي أن يقبل برحابة صدر تخلي الدولة عن “احتكار العنف”. و لكن النظرية الفيبرية في الدولة شئ ، والطوارئ شئ آخر . الكل يعلم أن هناك حالات طوارئ يجب فيها على نظرية الدولة الحكيمة هذه أن تترك المكان لنظرية “الشعب المسلح” الجمهورية أيضا ” ( الموند 12 فبراير 1998 ).
3) صدر التقرير المعنون “رفع الحجاب” الذي أعددناه دريس اليازمي وباتريك بودوان وأنا نفسي في: الجزائر ، الكتاب الأسود ، و فيه أربعة تقارير للعفو الدولية والفدرالية الدولية ووتش وصحفيون بلا حدود عن دار ديكوفيرت بالفرنسية في نهاية 1997 . وهو موجود بالإنجليزية أيضا.
4) أصدرت اللجنة العربية لحقوق الإنسان تقريرا مفصلا عن مجزرة سركاجي في شهر مارس 1998 يعطي صورة عن أسلوب عمل قوات الأمن و القضاء في الجزائر.
ملاحظات بعد زيارة وبعثة تحقيق للجزائر (1996 و 1997)
محاضرة غير منشورة – باريس- فبراير 1998