أثار ملتقى الحوار الديمقراطي السوري في باريس (28-29 مايو(أيار)2004) نقاشات واسعة في صفوف المعارضة السورية. وأظهر للعيان عدة مشكلات بنيوية في العقل السياسي السائد. والحقيقة أنني تذكرت جملة للصديق أصلان عبد الكريم قالها لي في آخر لقاء لنا: “كيف يقّيم المرء أن سنوات النظام الشمولي قد حطمت المجتمع وهشمت الطاقات السياسية ثم يطالب الناس بحالة نضج متقدمة وخطاب نوعي؟”. بالفعل، هناك تناقض ضمني في أعماقنا، وأقول من باب الدقة، في أعماقي على الأقل، بين تقييم الوضع بأنه ابن حالة تحطيم منهجية للإنسان ككائن سياسي ومحاولات بناء وعي ديمقراطي حديث قادر على إعادة صياغة الكيان السياسي في نهج المشاركة وتقسيم السلطات وتوزيع الفرص والتعبير عن الذات بضمان حقوق المواطنة للأشخاص واحترام الخصائص المميزة للجماعات.
لن أتوقف كثيرا عن الإيجابيات، فكما ذكر أحد المثقفين العرب، كان الحضور يمثل أوسع بانوراما سياسية وكانت أوراق الملتقى أول رأي صريح وواضح من الإخوان المسلمين والتجمع الوطني الديمقراطي والأحزاب الكردية السورية وعدد من المثقفين العرب والكرد بتصورات حول المؤتمر الوطني والحوار الوطني والقضية الكردية. هذه الأوراق ستكون مشاعا على الأنترنيت وفي عدد “مقاربات” القادم مجرد القيام بحد أدنى من المراجعة اللغوية (مع الاعتذار من الأديب محمد الحسناوي والكاتب زهير سالم كون هناك أخطاء لغوية في بعض الأوراق وبالتأكيد لا تشمل هذه الملاحظة أساتذتنا في اللغة). وأجد من الضروري الانتقال للنقد:
فشل الملتقى في تحديد سياسة إعلامية مسبقة تعرف به بشكل جيد. وتمكنت “معارضة” الشغب على الأنترنيت من تقديم عدة أخبار كاذبة في محاولة لتشويه الحقائق والوقائع، وكون هذه المعارضة لا تعمل بوازع أخلاقي أو تحت سقف قانوني يحاسبها على أكاذيبها، فقد تم نشر تصريحات غير صحيحة وأكاذيب وروايات نسجت على مبدأ العنعنة (أي المبدأ الذي ينقل شبه المعلومة عن فلان عن فلان عن فلان من غير الثقاة). هناك أيضا تصفية الحسابات المبكرة والمتأخرة والحرص على فشل الآخر لأن ذلك يعزي النفس بقصورها. كذلك محاولات الصعود السريعة والمثيرة في عصر العولمة التسطيحي الذي ينجب مثقفين بلا ثقافة ومناضلين للبيع ونقاد سياسة أميين وصحافة بلا ضمير. فإذا كان الانترنيت ثورة في الاتصال بين الناس فهو للأسف لم يخدم الدمقرطة وحسب، بل كان أيضا في خدمة الجريمة المنظمة والدعارة وأفلام الاعتداء على الأطفال ونقل الصحافة الفضائحية إلى البيوت. وكون هذه الوسيلة لم تنظم بعد في القانون الدولي، فيمكن تشويه سمعة خيرة مناضلي المعارضة الوطنية الديمقراطية في سورية بثمن بخس. لا شك بأن قتل الأنا المدنية والحقوقية والسياسية من قبل السلطة التسلطية لعدد كبير من المعارضين قد خلق اضطرابا عند بعض ضحايا القمع، إلا أن هذا لا يعفي الضحية من المسؤولية عندما تتحول إلى جلاد للحقيقة. هناك من يعتقد أن الكذب لا يجب أن يكون حكرا على السلطة. نحن لا نتعامل مع هذه الفئة لأنها تحطم البعد الأخلاقي للنضال الديمقراطي والحقوقي.
فشل الملتقى أو المشرفين عليه (بما فيهم كاتب هذه الأسطر) في التعريف بعدة مسائل منها أهمية وجود ملتقيات دورية أو شبه دورية لتقريب وجهات نظر أطراف الطيف السياسي المختلفة ووسائل العمل لتحقيق ذلك كذلك التعريف طريقة عمل اللجنة العربية وكونها تجربة تقوم على دور الناس في سياستها وتمويلها وتبلور برنامجها. فقد أساءت جماعات (العمل من أجل التمويل) إلى السمعة العامة لحقوق الإنسان. وشمل ذلك مبادرة أطلقتها عند عودتي من سورية ومشاهدتي لمأساة إنسانية مؤلمة (تشكيل صندوق وطني للضحايا). لقد جرى تقديم هذه المبادرة من البعض على أنها محاولة للاغتناء من المفوضية الأوربية رغم رفضنا مجرد الحوار مع المفوضية بالموضوع عندما طرحته بعد أشهر. والجميع يعلم أن من حاور بعض السوريين في مساعدة المفوضية هو الأمين العام للفدرالية الدولية لحقوق الإنسان وليس اللجنة العربية. هذا الابتذال في الخلط وإطلاق التهم في مصادر التمويل جعلنا نعد تقريرا ماليا خاصا بالملتقى ليعرف كل من يريد ماذا تسلمت اللجنة العربية من تبرعات وكيف صرفت.
نظرا للحساسيات التي تبعت تحديد مؤتمر الحوار الوطني لبرنامج مسبق قبل عامين، تعمدنا أن يكون برنامج الملتقى ابن الديمقراطية المباشرة، أي أن يحدده من شارك في الملتقى في اللحظات الأولى. ولكن يبدو أن هذا الأسلوب يحتاج إلى مراس وتدريب ولا بد من لجنة تحضيرية تمثيلية تمهد لبرنامج العمل بحيث يمكن التعديل فيه من الحضور وليس ابتكاره.
اعتبرت اللجنة العربية لحقوق الإنسان كل مواطن طرف في الملتقى، وبالتالي لم تستثن أحدا بالمعنى الحقوقي والقانوني، وقد تم استثناء جماعة البنتاغون استنادا للعرف الدولي المتجسد بقرارات محكمة العدل الدولية الخاصة بنيكاراغوا والقانون الإنساني الدولي الذي يعرفهم بالمرتزقة وفق البروتوكول الملحق باتفاقيات جنيف. حيث المرتزقة في القانون الدولي الجماعات التي تقوم بعمل من أجل مغنم شخصي أو مقابل تعويض مادي يتجاوز قيمة العمل المماثل من إدارة أجنبية أو أجهزة مخابرات خارجية. وقد توضحت في قضية الشلبي في العراق العلاقة المالية غير المتوازية بين خدماته ومرتبه الشهري من البنتاغون. نذكر أن المادة 47 من البروتوكول الملحق الأول تحرم المرتزق في ظروف الحرب حتى من صفة المقاتل أو أسير الحرب). على هذا المبدأ كان الباب مفتوحا للحضور لأعضاء عاديين في أحزابهم بحيث تمثل حزب صغير بستة أشخاص وقوة كبيرة بشخص واحد. ولم يكن هناك مستوى واحد أو متقارب في النقاش لدرجة استدعت من أكثر من متدخل أن يشرح ألف باء السياسة لأشخاص بدون خبرة وبثقافة محدودة. من هنا ضرورة التمييز بين دورة تأهيل وإعداد كوادر وملتقى يناقش قضايا كبيرة. وضرورة الانتقاء بحيث يمكن لمن يريد الحضور ولكن بصفة متابع لا كطرف أساسي احتراما للوقت والجهد والمستوى.
كان هناك محاولة من الأحزاب الكردية لتسجيل النقاط كرديا قبل تسجيل النقاط في التصور الديمقراطي والمشروع الوطني. يمكن فهم هذا في إطار الاحتقان والحرمان الذي يعيشه الكرد في سورية، ولكن أن يرى المرء الكيان السياسي من منظاره وحده، يخلق شرخا بينه وبين الآخرين ويعزز منطق القبيلة على مبدأ الجمهورية والمواطنة.
كان جليا أن الخطاب الديمقراطي في صفوف أحد الأحزاب الكردية وأحد الأطراف القومية العربية كما قال أرنست ماندل يوما هو كعلاقة الفجل بالشيوعية (قشرة حمراء ولب أبيض). فنحن أمام حالات تطرف قومي ملبّس ببرنامج ديمقراطي سطحي. من هنا فإن تعميق الثقافة الديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان في الأوساط السياسية مهمة أكثر من ضرورية وراهنة إن أردنا تحويل البرنامج الديمقراطي من مجرد براغماتية مرحلية إلى قناعات عميقة في الوجدان والسلوك.
أثبت هذا اللقاء أن من الضروري الاجتماع في كل فرصة وتوفير المناخ المناسب لكل حوار وإغناء كل المبادرات بالنقد والتقييم والتعلم من كل تجربة حتى نخرج من حالة القصور والضعف التي تعيشها المعارضة السورية، وإلا ستدخل هذه المعارضة في أي حوار أو نضال مع السلطة من موقع ضعيف، الأمر الذي يضعف فرص الانتقال السلمي إلى الديمقراطية.
8/6/2004