يوم الإثنين 8/12/2008، أي صباح عيد الأضحى، قدّم الاتحاد الأوربي لإسرائيل أضحية العيد متمثلة باتفاقية ترقية العلاقات معها لتصبح أول دولة في العالم تتمتع بامتيازات العضوية دون أي تكليف أو مسؤولية. هذه الهدية التي قدمها الثنائي ساركوزي-كوشنر في الأيام الأخيرة لرئاسة فرنسا للاتحاد، أدارها وزير الخارجية الفرنسية الذي تقّلب يسارا ويمينا، أطلسيا وفرنسيا، تجاريا وحكوميا، وكان الثابت الوحيد في حياته السياسية خدمة الدولة العبرية. من هنا كان من الضروري، وهو من العارفين الأوائل بمشروع “إنهاء سيطرة حماس على قطاع غزة”، أن ينهي العمل الدبلوماسي قبل انطلاقة القاذفات الإسرائيلية.
يوم السبت (المقدس والمحرم عند كل اليهود) 27/12/2008، بين عيد الميلاد ورأسالسنة الميلادية عند النصارى، وفي غمرة السنة الهجرية الجديدة وعاشوراء عند المسلمين، وقبل نهاية العام الستين لتوقيع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان،باشرت إسرائيل حربا تدميرية ضد قطاع غزة لم تضع أوزارها بعد. قيادة أركانها السياسية والعسكرية هي التي تملك قرار الحرب ووقف إطلاق النار، قرار الحصار وتمرير بعض اللقيمات لأهل غزة، قرار فتح وإغلاق كل المعابر بما فيها معبر رفح، كما استمرار جدار الفصل العنصري ومئات الحواجز الممزقة لأشلاء الضفة الغربية، واقتناص واعتقال من تشاء في الضفة والقدس المحتلتين، وأخيرا بل أولا استمرار الجريمة اليومية ضد الإنسانية المتمثلة بالاستيطان. لذا فعلى العالم أن ينتظر تقدير هيئة الأركان السياسية-العسكرية الإسرائيلية لمعرفة متى يتوقف القصف، وكيف سيكون مآل الاجتياح البري بموازاة القصف الجوي الكثيف، ومتى يخدم وقف إطلاق النار المصلحة العسكرية الإسرائيلية؟
مهما تكن الدوافع المباشرة أو غير المباشرة لتوقيت هكذا تحرك (البورصة الداخلية للانتخابات الإسرائيلية، الفراغ الرئاسي الأمريكي، فترة أعياد وعطل غربية، شهر عسل مع دول الاعتدال العربية، ضمان غطاء أوربي-أمريكي-عربي رسمي..) هناك اتفاق إسرائيلي بين مختلف القوى والأحزاب الصهيونية والدينية على أن بقاء حركة حماس في موقع الطرف الأقوى في غزة خطر على الأمن القومي الصهيوني. وعليه لا بد من حلٍ عسكري يغير موازين القوى أو يلغي الصوت الفلسطيني في حال عدم وجود بدائل للاحتلال المباشر. لقد مهد الإعلام الموالي لإسرائيل في الغرب لهذه العملية منذ استقالة حكومة أولمرت واقتراب نهاية ما سمي بالتهدئة. وكالعادة، اكتفى مثقفو السلاطين بالبحث عن مبررات تخرج حركة المقاومة الإسلامية من ثوبها الإنساني والسياسي، باعتبارها العائق الأساسي أمام العودة لهدوء يمكن أن تلد في ظله أخيرا دولة فلسطينية.
لقد كسبت الدولة العبرية، ومن يشاطرها الرأي من العرب والغرب، جولة شيطنة حماس والجهاد الإسلامي باعتبارهما قطبا أساسيا من أقطاب الإرهاب الدولي وتعبيره الأساسي في فلسطين. كذلك نجحت الدولة العبرية في فك الحصار السياسي الإقليمي عبر مشاريع تعتبر وجود إسرائيل شرطا لقيامها (مؤتمر شرم الشيخ لمناهضة الإرهاب، الشرق الأوسط بتلاوينه، الأوربية المتوسطية من برشلونة لباريس، الشبكات المتوسطية التي استبدلت العربي بالبلدان الواقعة على مياه البحر الأبيض المتوسط)، أي ما جعل إسرائيل الطرف الطبيعي وليس السودان أو السعودية أو العراق في المنظومات السياسية والاقتصادية الممكن تبنيها أوربيا. ويمكن القول أن اللوبي الصهيوني قد تكفل بالجانب الأوربي المكمل لهذه الإنجازات. وذلك عبر دوره البارز إلى جوار المنظمات اليمينية المتطرفة والعنصرية في تحويل الإسلاموفوبيا من مجرد ظاهرة من ظواهر التمييز في المجتمعات الأوربية إلى التعبير الأكثر قوة وحضورا للعنصرية والتمييز فيها.
تتهدم المساجد والجامعات والمستشفيات والبيوت تحت أنظار العالم، الجريمة تتلو الجريمة ويبقى التفهم الرسمي هو اللغة السائدة للقتل الفلسطيني اليومي. العالم لم يخسر بعد رصيده الإنساني والمدني، لكنه يعيش حالة فصام بين جملة القيم التي انتجتها البشرية بفلسفاتها ودياناتها وثقافاتها وبين مفهوم أرعن للقوة يعتبر القدرة على الهيمنة المرجع الأخلاقي الضروري الوحيد. يتظاهر مئات الآلاف من شعوب العالم لنجدة شعب تحت القصف، ولا ترف عين مسؤول عربي أو غربي.
في هذا الوضع المأساوي، الذي يُطالب فيه الشعب الفلسطيني بضريبة لم يدفعها شعب في التاريخ المعاصر، لا بد من وقفة مع الذات من أجل الانتقال من تلقي الضربات إلى توجيهها، من الاكتفاء بدور الضحية للبحث عن دور في التاريخ، ومن انتظار إعلان انتصار أو هزيمة إلى المبادرة لاستراتيجيات عمل متوسطة وبعيدة المدى تسمح بتحجيم القوة الصهيونية التي اخترقت حكومات عربية أساسية وأصبحت الشريك الأول لأوربة والولايات المتحدة.
البعد الثقافي والإعلامي
ارتكبت حركة حماس دون شك أخطاء كبيرة على صعيد التحرك الثقافي والإعلامي، وانعكس ذلك سلبا على فصائل المقاومة الأخرى وعلى القضية الفلسطينية بشكل عام. فمن الضروري في أية انطلاقة، تضم جبهة واسعة من القوى الإسلامية والعربية والعالم ثالثية بل والغربية، امتلاك خطاب أوسع من الخطاب السياسي الإسلامي التقليدي. فالدول الإسلامية، باستثناء ثلاث منها وبالكاد، دول غير ديمقراطية المؤسسات والبنيات. والديمقراطية في معركة التحرر الوطني في القرن الواحد والعشرين ليست ترفا، بل مقوما أساسيا من مقومات المقاومة بكل أشكالها. فالذي أسقط حكومة الحرب في إسبانيا هو الانتخابات الحرة، والذي أبعد صقور المحافظين الجدد عن مواقع المسؤولية هم أعضاء الكونغرس المنتخبين، والذي همّش طوني بلير بعد جولاته وصولاته هو الرأي العام البريطاني. بل لنقل بدون الذهاب بعيدا بأن صناديق الاقتراع هي التي أعطت حماس فرصة تشكيل حكومة فلسطينية منتخبة. غياب هذه الديمقراطية هو الذي يجبرنا على سماع أصوات انقرضت منذ سنين في القلوب والعقول، لكنها ما زالت تقرر مصير أطفال غزة ومستقبل الشبيبة في قرى الصعيد وحجم قوات الأمن المركزي في ساحة التحرير في القاهرة. هذا الغياب نفسه هو الذي يجعل الحركة الإسلامية السياسية ممنوعة في أكثر من ثلثي البلدان الإسلامية. من هنا ضرورة خوض معركة الديمقراطية باعتبارها من روح القرآن الكريم وفي صلب المشروع التحرري العربي.
أما المعركة الثانية، فتقع على عاتق المثقف النقدي العربي. هذا المثقف الذي لم تنجح بعد مؤسسات التمويل الرسمية وغير الرسمية في ضمه لجوقة الصمت والتواطؤ. حتى اليوم، كان هذا المثقف خجولا أو محايدا في معارك تعرضت لها الحركة الإسلامية، وبشكل أساسي معركة “الحرب على الإرهاب” وانتشار الإسلاموفوبيا. كانت مهمة أي مثقف ملتزم أن لا يكتفي بالنظر إلى الحركات الإسلامية السياسية ذات المصداقية والمكانة والدور في المجتمعات العربية والإسلامية توضع الواحدة بعد الأخرى على مقصلة قوائم الإرهاب دون أن يحرك ساكنا أو أن يكتفي بالتعبير الشخصي عن أسفه لذلك. كما كان عليه أن يتوجه للمؤسسات الأوربية بين الحكومية ليحذرها من مغبة هكذا تصرف على مستقبل علاقاتها بالشعوب العربية والإسلامية. خاصة وأن هذه الحركات تخوض معارك نقابية ومطلبية وسياسية واجتماعية كبيرة في مجتمعاتها، وليس بالإمكان تقزيمها بقرارات بيروقراطية من بروكسل أو وزارة الخزانة الأمريكية. للأسف، كان هناك قلة وحسب من المثقفين العرب الذين خاضوا هذه المعركة.
المعركة الثالثة والأهم، تقع على عاتق المنظمات العربية غير الحكومية التي دخلت في هياكل وشبكات متوسطية – أوربية. هذه المنظمات كان عليها أن تتذكر بأن مهمتها تتعدى تسهيلات التمويل وسياحة المؤتمرات. وإن بإمكانها أن تلتقي بقادة حزب الله في لبنان وقيادة حماس في غزة أو بلدان اللجوء، وتقول للاتحاد الأوربي بأنها ترفض قراره بتصنيف هذه القوى السياسية الفاعلة والمؤثرة في عداد الإرهابيين، لا بل تتعامل معهما كأية حركة سياسية في المنطقة لها ما لها وعليها ما عليها. ذلك أن المنظمات غير الحكومية المشاركة في هكذا مشاريع ترفض من حيث المبدأ الاكتفاء بدور المروج أو المهرج لمواقف الآخرين، ومن واجبها بناء شبكات تواصل مع الخارطة السياسية في بلدانها وفقا لبرامج مكوناتها وللاحتياجات المجتمعية والمدنية، وليس وفقا للقرارات الخاضعة لمجموعات الضغط الموالية للدولة العبرية.
البعد الحقوقي والقانوني
اعتبر المقرر الخاص بفلسطين في المفوضية السامية لحقوق الإنسان ما يحدث في فلسطين، وقبيل ارتكاب جرائم العدوان الأخير، جريمة ضد الإنسانية. تشاطره الرأي منظمات ذات مصداقية دولية تعتبر ما تقوم به إسرائيل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. لا بل يتحدث العديد من رجال القانون عن توفر عناصر جريمة الإبادة الجماعية. لكن للأسف، لم يجر استثمار هذه الحركة الحقوقية والقانونية باتجاه تجريم القادة الإسرائيليين كما يجب، سواء على صعيد الدول التي تمارس الاختصاص الجنائي العالمي universal jurisdiction مثل إسبانيا، أو الضغط على المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أوكامبو ليأخذ المبادرة من تلقاء نفسه لفتح التحقيق في هذه الجرائم. إن تحركاً منظماً ومكوناً من تجمع كبير للمحامين والحقوقيين كفيل بتعرية صمت السيد أوكامبو ووضع القضاء الوطني في أكثر من بلد أوربي أمام مسؤولياته وصلاحياته المعلنة. لذا لا بد على هذا الصعيد من حركة توثيق موازية تسمح بإقامة الأدلة على كل ما تتحدث عنه التقارير الحقوقية اليوم.
البعد الإغاثي والإنساني
في غزة هناك مأساة إنسانية مستمرة لمنطقة منكوبة بامتياز تحتوي على الكثافة السكانية الأعلى في العالم، وقد تحولت لسجن كبير تكبل فيه احتياجات البقاء على قيد الحياة وفق إرادة مجرمي الحرب الإسرائيليين والمشاركة الرسمية المصرية. لا يمكن كسر جدران السجن مادامت الحكومة المصرية ارتضت لنفسها دور السجان، ولا يمكن لأي باحث أو سياسي أو عامل إغاثة أن يبصر الوضع ضمن احتمالات التغيير وعدمه في مصر. لا بد إذن من كسب معركة هامة وضرورية، هي التعريف بالوضع في غزة وتعبئة المجتمعات المدنية على الصعيد العالمي للتضامن مع غزة في معركتي وقف العدوان وفك الحصار. هكذا معركة، تحتاج إلى تضافر المنظمات الإغاثية مع تعبيرات مختلفة لم تعتد العمل معها مثل منظمات حقوق الإنسان وحماية البيئة ومناهضة الجوع والجمعيات التنموية، بل والعديد من الأحزاب السياسية. لقد شكلت عملية فك الحصار المعنوي عبر زوارق الحرية والكرامة ضربة كبيرة لكل المشاركين في الحصار، وعرفت قطاعات شعبية واسعة بوجود حصار جائر ولا إنساني على الشعب الفلسطيني بشكل عام وعلى قطاع غزة بشكل خاص. بالتالي أصبح من الضروري وضع استراتيجية عمل عربية-دولية لكسر حصار الماء وتعرية المشاركين في حصار البر. غزة ليست فقط بحاجة لبعض الأدوية المفقودة، وهي ليست بمتسول تكفيه الدريهمات.. لقد دفع القطاع المحاصر ضريبة الدم عنا جميعا، وتم تحطيم البنية التحتية للانتاج والتعليم والصحة ومقومات التنمية الأساسية. وبدون مشروع ماريشال شعبي تختبر فيه إمكانيات المواطنين على التبرع وليس فقط على التظاهر، من أندونيسيا إلى المغرب، لا يمكن القيام بعملية إعادة بناء وتنمية جديرة بالتسمية في القطاع الذي يتعرض لنزيف دموي شامل، وعند التقاعس عن هكذا واجب إنساني كبير، يمكن القول أن العدوان الإسرائيلي حقق واحدا من أهم أهدافه.
لا يمكن لأية حركة تحرر في العالم إهمال المقاومة المدنية (الجهاد الأكبر باستعارة التعبير الإسلامي). فالتفوق العسكري هو العنصر الأهم في السياسة الإسرائيلية، كما هو الحال في السياسة الأمريكية. وبعده بأشواط يمكن الحديث عن المعركة الاقتصادية أو الثقافية. ومع بروز أشكال غير حكومية متعددة لمقاومة الاستعباد والاستبداد داخليا كان أو خارجيا، ثمة جبهة واسعة في طور التشكل من عناصر متحررة من سيطرة حكومات لا تمتلك قطبي الدولة (السيادة والشرعية)، حكومات لا وسيلة لديها للتواصل مع الشعب إلا النطع والسيف. لذا من مهمة كل مقاوم رصد وجمع المنظمات الحقوقية والتنموية والثقافية والمناهضة للعولمة الوحشية التي تناضل بلا حدود وتجد نفسها اليوم في معمعان الصراع مع المشروع الصهيوني، رغم كل أسلحة الترهيب والترغيب التي يستعملها. إن القيام بمبادرات بناءة ومستقبلية الأثر يبدأ من تحت أنقاض البيوت وأشلاء الضحايا، حيث يصبح من الضروري البحث عن نقاط تجمّع للرؤوس التي تفكر حقا وللعقول الحرة فعلا والطاقات المعطاءة صدقا لتقف متعاضدة في وجه جريمة عدوان مفتوحة، لن يضع وقف إطلاق النار للأسف حدا لها.