أبريل 30, 2024

آرش دو زويه أو الدروس المؤلمة

Zoe's arkكثر الكلام في الفترة الماضية عن تحركات جمعية آرش دو زويه ومساعيها التي أحبطت في لحظاتها الأخيرة لنقل أطفال دارفوريين إلى فرنسا “بهدف انقاذهم من الموت المحتم”. إلى أن ظهر أن ثلاثة أرباع هؤلاء الأطفال (82 ذكراً و21 أنثى غالبيتهم بين عمر 3 و6 سنوات) من منطقتي أدريه وتينه التشاديتين المحاذية للسودان، والربع الباقي من مخيمات اللاجئين من دارفور. كما أبان تقرير اليونيسيف والصليب الأحمر الدولي والمفوضية العليا للاجئين أن 91 طفلاً من أصل 103 يعيشون على الأقل مع أحد الوالدين، هذا إذا قصرنا العائلة على الأب والأم فقط. وكان قد عرض على هؤلاء الأهل تعليم أبنائهم في مجمع للأطفال معد لهذه الغاية في تشاد. لكن السيناريو المعد منذ أشهر كتب له الفشل في اللحظات الأخيرة، عندما منعت السلطات التشادية الطائرة من الإقلاع من مطار أبيشا في 25 أكتوبر 2007. وكما اعتقلت القائمين على العملية من مؤسسة غير معروفة في الوسط الإنساني اسمها أرش دو زويه، وضعت يدها على من معهم من صحافيين قدموا لتغطية الحدث وعلى طاقم الطائرة الاسباني وقائدها البلجيكي.

ظهر الرئيس التشادي على الاعلام متحدثاً عن جريمة خطف أطفال بقصد التجارة الجنسية وبيع الأعضاء. والرئيس التشادي له مآرب يحققها من وراء رفع صوته في هذا الظرف بالذات حيث 3000 جندي أوروبي نصفهم من الفرنسيين قادمون إلى بلده في وقت لاحق.  لكن بالمقابل الحكومة الفرنسية التي اعتبرت العمل غير قانوني وغير مسئول، بدت في فترة أولى مرتبكة وكأنها لا تعزف على نفس الوتر، هذا إذا لم نتحدث عن توزيع أدوار بين المسئولين المعنيين بالملف. لكن منذ اللحظة الأولى اتضح بأن الجيش الفرنسي سهّل للمنظمة كل ما تحتاج، مثلما فعل لخمسة وسبعين منظمة غير حكومية فرنسية (قرابة نصفها ولدت بقدرة قادر مع مأساة دارفور). كما وكشف متحدث باسم المنظمة أنه تم استقبال جمعيته ثلاث مرات على الأقل في وزارة الخارجية التي كانت تعلم بالمشروع منذ الصيف الفائت وتشجعه. أما وزير الخارجية الفرنسية، “برنار كوشنر” فقد تناولته نيران المنظمات الإنسانية الجدية مثل أطباء بلا حدود ومنظمة أطفال العالم – حقوق الإنسان باعتباره يروج للتدخل الإنساني بسبل يوظف فيها العسكري والسياسي بحيث لم يعد مستغربا دخول البعد التجاري. الأمر الذي اضطر رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا فيّون للتنصل من العملية وطلب تحقيق من وزارتي الخارجية والدفاع. مما جعل المنظمات غير الحكومية تهزأ من الفكرة وتتساءل كيف يمكن لحراميها أن يكون حاميها؟  وكانت عدة مجموعات ضغط مهتمة بتوظيف قضية دارفور في أوربة قد دعت لمظاهرة في الباستيل من أجل إطلاق سراح المعتقلين الفرنسيين في تشاد، كما استقبلت سكرتيرة حقوق الإنسان في وزارة الخارجية راما ياد عائلات معتقلي الجمعية المشبوهة وأكدت لهم وفق تصريح محاميهم جيلبر كولار “حماية ودعم الحكومة الفرنسية”.

المعضلة هي أن عدداً هاماً من المنظمات الإنسانية الفرنسية غير الحكومية قد حوصر في هذه القضية بين سندان الضغط الحكومي ومطرقة المصداقية الدولية. كما ويخشى من التوظيف الشوفيني الذي ينعكس على تبرعات المحسنين لها ان هي طالبت بمحاسبة الفرنسيين. وظهر أن أكثر من منظمة حقوقية فرنسية ودولية في باريس التزمت الصمت خوفاً على التسهيلات التي تقدمها لها الحكومة. فالمنظومة الفرنسية للعمل الخيري أمام أصعب امتحان لها منذ فشلها في مساندة الجمعيات الضحية من العالم الإسلامي بدعوى نفس المخاوف. المهزلة المأساة هذه تضع تجربة الأطباء الفرنسيين French Doctors التي انطلقت قبل ثلاثة عقود على المحك الأصعب منذ انسلاخ برنار كوشنر وصحبه عنها وانضمامهم للفضاء الحكومي قبل 15 عاما، بحيث تطرح عليها اليوم أسئلة وجودية من نمط: هل هي فعلا عالمية وبلا حدود ؟ وهل بإمكانها أخذ البعد اللازم من مدرسة تدعو، في المحصلة الأخيرة، إلى تحويلها إلى الإنساني في خدمة العسكري التي يروج لها الثنائي رايس-كوشنر ؟ وهل ذلك يأتي ضمن عملية ضرب ممنهجة لكل ما هو خارج السرب الغربي وبالتالي المشبوه بدعم الإرهاب مقابل دعمها كل ما هو ضمن السياسات الرسمية؟

في هذا الوسط المحموم والموبوء، ركب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الطائرة إلى نجامينا ليعود بالصحفيين والمضيفات. في وقت كانت القناة السادسة تبث التحقيق الذي أجراه مارك غارميريان قبل سفره لتشاد واعتقاله، والذي يؤكد أن الجمعية تتبنى الطابع غير القانوني للعملية باسم “العمل الإنساني”، بل أكثر من ذلك ترد فيه عبارات مثل “من أجل العمل الإنساني كل شئ مسموح به” ؟؟. وكأن العمل الإنساني فوق القانون وفوق الضوابط الأخلاقية التي تضمن مصداقيته قبل كل شئ!!. يتبع ذلك احتفالية النصر بعودة المواطنين الإسبان والفرنسيين للوطن. أما الرئيس التشادي فيتراجع من ناحيته عن خطبته النارية التي تبعت إعلامه بأن من هؤلاء الأطفال ثمة من ينتمي لقبيلته هو أيضاً، ويصرح بأن ربّان الطائرة البلجيكي قد يفرج عنه لأن عمره 75 سنة وهو مريض بالقلب. وهنا يفرض السئوال نفسه: إذا كان الحال كذلك فكيف يسمح لشخص بهذا العمر وهذه الصحة العليلة أن يقود طائرة تضم أكثر من 100 طفل ما عدا باقي العاملين؟

حقوق المواطنة والفعل الجرمي

لا شك أنه مما يحسب لفرنسا والغرب بشكل عام، في هذه القضية وغيرها، هي ما يسمى بالتزامها بالحماية القنصلية لمواطنيها خارج الأراضي الفرنسية. تعتمد الحماية القنصلية على حق الدفاع عن المواطنين خارج الأراضي مهما كان الجرم وفي أي بلد ضمن المبادئ الثلاثة التالية :

–       المعاملة الجيدة أثناء التوقيف والسجن في الطعام والملبس والعلاج

–       الاحترام التام لحق الدفاع مع إمكانية وضع مترجمين أو تقديم مساعدة قضائية.

–       تمتع السجناء بحق التواصل مع عائلاتهم.

إن كانت هذه المبادئ الوطنية تنسجم مع الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، فهي في ميدان التطبيق ليست بهذه البساطة والسهولة. يوجد اليوم خارج الأراضي الفرنسية 1794 سجيناً في كل قارات العالم ويتم التعامل معهم بطرق مختلفة : من التدخل بخمسة نجوم إلى النسيان الكامل. وهنا من الضروري التذكير بأن تبني أشخاص اعتقلوا في غوانتانامو احتاج إلى زمن أطول بكثير من هذا. لا بل أرسلت المخابرات الفرنسية من يستجوبهم هناك بشكل ينتهك القانون الفرنسي لعدم الاعتراف رسمياً بشرعية هذا السجن. كما أن الحكومة أعاقت حتى الحظة إجراءات المحاسبة القضائية بحق من كان سبباً في اعتقال ستة فرنسيين مسلمين في غوانتانامو زجوا فيه دون جرم وبقوا فيه دون محاكمة قرابة أربع سنوات. كذلك ما زال هناك معتقلين فرنسيين في السجون الأمريكية في العراق لا يطالب بهم أي مسئول فرنسي. في حين أنه ومنذ الساعات الأولى لاعتقاله، استنفرت المنظمات الموالية لإسرائيل مطالبة الرئيس جاك شيراك التدخل الفوري من أجل الإفراج عن الأسير الإسرائيلي في غزة شاليط كونه يحمل الجنسية الفرنسية.

مرة أخرى، نجد أنفسنا أمام معضلة حقيقية اسمها ازدواجية المعايير واختلاف ردود الفعل، بغض النظر عن الجرم. أي أن الأساس القانوني يوضع في الصف الثاني ويتم دفع الأسباب السياسية والدعائية إلى الصدارة. بالتأكيد، هذه السياسة لن تقدم أية خدمة بناءة لسمعة العمل الإنساني في أي بلد. بل تجعله أسير السياسة الحكومية بامتياز.

الدفاع عما لا يدافع عنه

منذ 11 سبتمبر، لم يعد انتهاك القانون وضرب القيم مسألة مخجلة لمن يفعلها. فقد أنجبت الحرب على الإرهاب جيلاً من السياسيين والعاملين في الشأن العام يرفضون ما يسمونه “سذاجة الهواة” الذين يعتقدون أن المفوضية السامية لحقوق الإنسان هي الحاكم الفعلي للعالم. وفي متابعة المكتب الدولي للجمعيات الإنسانية والخيرية لحيثيات قضية “جمعية أرش دو زوا” سمعنا إجابات أقل ما يمكن وصفها به أنها “وقحة”. ذلك من نمط: هل تعلم أن الجمعية استقلبت عدة مرات ليس فقط في وزارة الخارجية بل من قبل نواب فرنسيين؟ ألم تسمع تدخل أكثر من نائب اشتراكي من أجل التحرك لإعادة أعضاء الجمعية من تشاد؟ هل تظن أن الحكومة الفرنسية لم تسمع بمشروع أراد أصحابه أن ينال أكبر دعاية ليتمكنوا من الحصول على موافقة ومساعدة أكبر عدد ممكن من العائلات ؟ هل تعرف بأن بداية المشروع كانت في 27 نيسان/ أبريل 2007 أي قبل ستة أشهر، وأن الشرطة استجوبت أكثر من مرة مسئولي الجمعية؟ ألم تسمع بمشروع إنقاذ 10 آلاف طفل من جنون البشر في دارفور؟ ألم يعرض عليكم مساعدات مالية من أجل الاستنفار لقضية دارفور؟ هل تريد قائمة المراكز الحقوقية التي تتلقى مساعدات فقط من أجل تنشيط موضوع دارفور في القاهرة والخرطوم وباريس ونجامينا؟ مثل هذه هناك عشرات الأسئلة التي لا تضع القيم الإنسانية النبيلة على مذبح الشك السلبي وحسب، بل تلغي الفروق بين الصالح والطالح والعامل والهامل، وروح التطوع المخلصة في مواجهة الفساد في الفضاء غير الحكومي.

برنار كوشنر، جاكي مامو وبرنار هنري ليفي مارسوا عن سابق إصرار وتصميم التزوير في الأرقام والمعطيات كما يقول كريستوف أياد في صحيفة ليبيراسيون. يؤيده في ذلك العديد من قادة العمل الخيري المخلص والجاد. فلماذا كان إطلاق هذه الحملة ؟ أحقا من أجل شعب دارفور؟ وإن كان كذلك فلماذا لم نسمعهم يتحدثون في المأساة العراقية والفلسطينية ؟ لقد دافع أحد أعضاء الجمعية المذكورة في العنوان عن نفسه بالقول: لماذا تعتبرني الأوساط غير الحكومية نصابا ولا تجرؤ على مواجهة  SOS دارفور أو طوارئ دارفور أو أنقذوا دارفور؟ هل لأنهم محاطون بمحامين ولوبيات قوية ونحن نقف لوحدنا ؟ لماذا يحق للسيد كوشنر أن يطالب بتسفير وتبني الأطفال اليتامى “التوتسي” في المجازر الرواندية ولا يحق لنا فعل ذلك في دارفور؟

قرينة البراءة !

مهما يكن من أمر الفضيحة والجريمة، من حق كل المعنيين بها المطالبة باحترام قرينة البراءة. وكما أننا رفضنا تصنيف الإدارة الأمريكية والمفوضية الأوربية الاعتباطي والظالم لجمعيات خيرية وإنسانية إسلامية، نرفض في هذه القضية وضع أنفسنا مكان القضاء، بل ونطالب بمحاكمة عادلة لكل المتورطين، ونرفض التعميم على كل المنظمات الإنسانية الفرنسية والخبراء الفرنسيين، فأنطوان جيرار رئيس مكتب التنسيق للقضايا الإنسانية في السودان فرنسي وقد كشف أن هذه الجمعية لم تسجل يوما في مكتب الأمم المتحدة، وجاك هينتزي الذي كشف أن معظم الأطفال غير يتامى أيضا فرنسي، وثمة أسماء متميزة في العمل الخيري الفرنسي منها رئيس أطباء بلا حدود السابق روني برومان الذي يقف بحزم في وجه “لفلفة” الموضوع اليوم. لكننا نطالب بلجنة تحقيق دولية، لا مجرد لجنة منتقاة بعناية لحفظ ماء وجه الدولة وحماقاتها. نطالب بتحقيق شفاف حتى نتمكن من الدفاع عن كل مناضلي العمل الخيري الفرنسيين الذين يقومون بعملهم بكل أمانة وإخلاص. كما ونتمنى أن تكون هذه الحادثة عبرة على طرفي المتوسط:

شمالاً، أن تتوقف الحكومات الغربية عن إطلاق التهم السريعة وغير الموثقة على الجمعيات الإنسانية والخيرية الإسلامية. كي لا يحكم الناس بنفس الطريقة وكرد فعل على العمل الخيري الغربي بعجره وبجره.

جنوباً، أن يتذكر هذا الرئيس أو ذاك الملك، أن الرئيس الفرنسي قد استقل الطائرة لاستعادة شركاء في قضية نصب واحتيال لأنهم مواطنين. وأنهم لم يفعلوا شيئا يذكر لرموز كبيرة للعمل الخيري والإنساني مثل السعودي عبد الله المطرفي والسوداني عادل حمد القابعين ظلماً وبدون محاكمة أو اتهام، في سجن غوانتانامو منذ قرابة ست سنوات.

 عن الجزيرة نت   08112007