Quicumque finem juris intentit cum jure graditurnte Alighieri (De Monarchia)
مقدم إلى الجلسة الإقليمية حول الإرهاب ومكافحة الإرهاب وحقوق الإنسان، نظمتها اللجنة الدولية للحقوقيين والمركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة بين 4 و7 /6/2007 في القاهرة.
مقدمة عامة
“كل من يضع نصب عينيه إعلاء القانون لا يمكن أن يتبع للوصول لذلك طرقا غير قانونية” بهذه الجملة، من كتابه (في الملكية) لخص صاحب الكوميديا الإلهية دانته أليغيري (1256-1321م) أزمة العلاقة بين الغاية والوسيلة في الحقوق والحريات.
فقد علمتنا التجربة السورية أن المهم ليس إصدار قانون أو دستور جيد، بل احترامه في ذاته، أي الحفاظ عليه كمكسب غير نهائي، ومشروع غير منجز. وأي خطاب ثوري أو وطني أو إسلامي أو ديمقراطي، يجعل من التعدي على الحقوق الأساسية ودولة القانون وسيلة نحو الارتقاء، إنما يضرب في الصميم الخطاب نفسه وإقامة العدل في زمان ومكان محددين ومفهوم دولة القانون. ففي العلاقة بين المواطن والدولة، ومنذ نشأة الدولة وفكرة المواطنة، لا يوجد خط تطور ثابت صاعد مسرع حينا ومتباطئ أحيانا. يوجد نكسات وتراجع وانحطاط بعد ازدهار. في الدستور السوري لعام 1950 نصت المادة العاشرة على حظر إنشاء المحاكم الاستثنائية؟ إن قبلنا نظرية دارون، يفترض أن نكون اليوم في دولة العدل والعقل ورفع المظالم. في حين أن سورية تعيش منذ 45 عاما، في ظل الأوضاع الاستثنائية.
ما فعلته الحرب على الإرهاب، هو عولمة الحالة الاستثنائية بدل وضع حد لها، وفرملة الطموح الديمقراطي عوضا عن تعزيزه، وبناء منظومة موازية للقانون الدولي بدل تقوية أواصره وإشباعه بمستجدات الحقوق الإنسانية. وباعتبارنا أبناء بلد سبق الإدارة الأمريكية وحلفائها إلى ما تفعل على الصعيد العالمي، نقول للممتطين الجدد لصهوة الحرب على الإرهاب وتعميم الحالات الاستثنائية ما قاله الشاعر سمير بن الأدكن:
ونحن سبقناكم إلى المين فاعرفوا لنا رتبة البادي الذي هو أسبق
مشيتم على آثارنا في طريقنا وبغيتكم في أن تسودوا وترهبوا
تشكل حالة الطوارئ ظرفا استثنائيا يسمح، بنظر القانون، للسلطة التنفيذية في بلد ما، بالتحرر من التزامات حقوقية معينة مع ضمان النواة الصلبة للحقوق الأساسية للإنسان غير القابلة للمساس. وقد نصت المادة الرابعة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية عليها بالصيغة التالية
1-يجوز للدول الأطراف في العهد الحالي، في أوقات الطوارئ العامة التي تهدد حياة الأمة والتي يعلن عن وجودها بصفة رسمية، أن تتخذ من الإجراءات ما يحلها من التزاماتها طبقا للعهد الحالي إلى المدى الذي تقتضيه بدقة متطلبات الوضع، على ألا تتنافى هذه الإجراءات مع التزاماتها الأخرى بموجب القانون الدولي ودون أن تتضمن تميزا على أساس العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الديانة أو الأصل الاجتماعي فقط.
2-ليس في هذا النص ما يجيز التحلل من الالتزامات المنصوص عليها في المواد 6 و 7 و8 (فقرة1و2) و11 و15 و16 و 18.
3-على كل دولة طرف في العهد الحالي أن تستعمل حقها في التحلل من التزاماتها أن تبلغ الدول الأخرى الأطراف في العهد الحالي فورا عن طريق الأمين العام للأمم المتحدة، بالنصوص التي أحلت منها نفسها والأسباب التي دفعتها إلى ذلك. وعليها كذلك و بالطريقة ذاتها، أن تبلغ الدول بتاريخ إنهائها ذلك التحلل”.
في دراستها المعنونة “نتائج التطورات الحديثة المتعلقة بالأوضاع المسماة استثنائية أو طارئة على حقوق الإنسان”، تنطلق السيدة نيكول كويستيو المفوضة الخاصة في اللجنة الفرعية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة من نقطة منهجية أساسية وهي اعتبار “الحالة الاستثنائية” مصطلح متعدد، كونه يغطي حالات على درجة كبيرة من الاختلاف والتفاوت، في القانون والواقع. وهي تستعمله عندما تتحدث عن حالة الحصار، حالة الإنذار، حالة الطوارئ، حالة وقاية، حالة حرب داخلية، تعليق الضمانات، القوانين العرفية، السلطات الخاصة”. وهي تقترح التعريف التالي للحالة الاستثنائية:
“هي التعبير القانوني للسلطات في حالة أزمة مرتبطة بوضع قائم هو الظروف الاستثنائية، هذه الظروف يمكن أن تعني بدورها: حالة أزمة تمس كل السكان وتشكل خطرا على الوجود المنظم للجماعة التي يتكون منها أساس الدولة”.
وحتى مطلع هذا القرن، طرح القانون الدولي، بشكل عام، أربعة احتمالات لهذه “الأزمة” هي
– النزاعات المسلحة الدولية.
– حروب التحرير الوطنية.
– النزاعات المسلحة غير الدولية
– الاضطرابات والتوتر الداخلي.
وإذا كانت الاحتمالات الثلاثة الأولى ترتبط بأوضاع الحرب، الأمر الذي يقودنا إلى حقل تطبيق القانون الإنساني الدولي، فإن الحالة الاستثنائية تصنف في نطاق الاحتمال الرابع. ويمكن القول اليوم، دون مبالغة، أن أحداث 11 سبتمبر قد أنجبت وضعية خامسة للحالة الاستثنائية اسمها “الحرب على الإرهاب”. مع كل ما يحمل هذا المصطلح من غموض وضبابية.
يلاحظ أن الشرعة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب وإعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام لا يتناولا الإجراءات الخاصة بحقوق الإنسان في ظل حالة الطوارئ والأوضاع الاستثنائية. أما الميثاق العربي لحقوق الإنسان فيتعرض للموضوع في المادة الرابعة التي تنص على :
” ب – يجوز للدول الأطراف في أوقات الطوارئ العامة التي تهدد حياة الأمة أن تتخذ من الإجراءات ما يحلها من التزاماتها طبقا لهذا الميثاق إلى المدى الضروري الذي تقتضيه بدقة متطلبات الوضع.
جـ – ولا يجوز بأي حال أن تمس تلك القيود أو أن يشمل هذا التحلل الحقوق والضمانات الخاصة بحظر التعذيب والإهانة والعودة إلى الوطن واللجوء السياسي والمحاكمة وعدم جواز تكرار المحاكمة لذات الفعل وشرعية الجرائم والعقوبات. “.
هناك تصنيفات عديدة لحالات الطوارئ والحالات الاستثنائية يمكن استخلاص تصنيف يعتمد الانحراف عن إطار المشروعية الدولية كقاعدة له وينطلق من ملاحظات الخبيرة كويستيو:
– حالات الطوارئ التي لا يجري الإخطار عنها دوليا: إن عدم احترام هذا الإلزام الدولي الشكلي الواجب على الدول الموقعة لمعاهدات تلزم به، يترتب عليه بشكل أساسي منع ممارسة أية رقابة دولية من قبل الهيئات المعنية باحترام التزام الدول بتعهداتها.
– الحالات الاستثنائية في الأمر الواقع، وهي وضع، بعكس السابق، لا يجري الإعلان عنه حتى على الصعيد الوطني.
– حالات الطوارئ الطويلة الأمد : وهي الحالات الناجمة عن تمديد نسقي لحالة استثنائية واقعة أو استمرارها في غياب التحديد الزمني في القانون المحلي وهي تنحرف عن فكرة الظروف الاستثنائية القائمة على التأقيت حيث تصبح القاعدة في الاستثناء ويهمش القانون العادي مع تراكم القرارات الاستثنائية عبر السنين بل والعقود ويأخذ النظام الاستثنائي طابعا مؤسساتيا وتكتفي السلطة بصيغ مسطحة للشرعية كالاستفتاء أو المحكمة العليا مثلا. وهي حالة عاشتها و/أو تعيشها الباراغواي وتشيلي وبنما والسلفادور وسورية ومصر والأردن وتايوان والكاميرون والسلطات الإسرائيلية في فلسطين عبر تطبيقها التعسفي والانتقائي لقانون الأحكام العرفية البريطاني إبان الانتداب الذي يعود لعام 1945.
– الحالات الاستثنائية المعقدة والتي تتميز بعدد كبير من الأنماط الاستثنائية المتوازية والمتراكمة والتي تكمل عادة بقوانين قمعية تقدم باعتبارها قوانين عادية.
وتلاحظ الخبيرة الدولية ظهور نمط خاص يتميز “أنموذجه المؤسساتي ليس فقط بتبعية السلطتين التشريعية والقضائية إلى السلطة التنفيذية، وإنما أيضا تبعية السلطة التنفيذية نفسها إلى السلطة العسكرية.”.
لا يمكن لأي تشريع استثنائي أن يكون منسجما مع المبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان إلا في حال خضوعه لشروط ثلاثة:
– أن يكون موضوع قوننة صارمة ويسبق بقانونيته وقوع الأزمة.
– أن يخضع قبليا وبعديا لمبدأ الرقابة.
– أن يخضع لمبدأ التأقيت ( أي أن يكون محدود الزمان).
وقد أسدل الستار عن القرن العشرين بجملة مقيدات انبثقت عن المشرع الأوربي والأمريكي وخبراء لجنة حقوق الإنسان تشكل مرجعية عامة في موضوع ضمانات الحالة الاستثنائية هي:
– مبدأ الإعلان بإجراء رسمي في القانون الداخلي.
– مبدأ الإشهار الفوري عند الطرف المعني والمكلف في المعاهدة.
– مبدأ وجود خطر استثنائي
– مبدأ النسبية وعدم تجاوز الإجراءات أضيق الحدود التي يتطلبها الوضع.
– مبدأ عدم التمييز.
– مبدأ عدم المس ببعض الحقوق الأساسية أو مبدأ التقيد.
إن كل المواثيق والعهود الدولية لحقوق الإنسان تجمع على عدم المساس بالحقوق التالية : حق الحياة ، حق سلامة النفس والجسد، منع العبودية، منع الإجراءات الجزائية ذات المفعول الرجعي.
ويضيف العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والميثاق الأمريكي عدم المس بحق الاعتراف بالشخصية الحقوقية وحرية الوجدان والدين. ويتناول العهد منع السجن لتعهدات مدنية ويضيف الأمريكي حقوق الأسرة والطفل وحق الجنسية والمشاركة في الحياة العامة.
وتضيف المادة الثالثة المشتركة لمعاهدات جنيف ضمانات المحاكمة العادلة في الحقوق غير القابلة للتقييد.
وهناك رأي صاعد في القانون الدولي يطالب باعتبار حق الاستئناف والمحاكمة العادلة واستقلال القضاء من الحقوق غير القابلة للمس. كذلك تزداد المطالبة بإنشاء أوليات مراقبة لوضع حقوق الإنسان في الأوضاع الاستثنائية الأمر الذي يسمح للمفوض الخاص بهكذا مهمة اللجوء إلى الوسيلة الوحيدة ذات الفعالية النسبية: العلنية.
يقول لياندرو ديسبوي المفوض الخاص بالحالات الاستثنائية في اللجنة الفرعية في مقدمة تقريره الثامن المقدم في 1995 : “نستخلص من التقارير المتتابعة للمفوض الخاص المقدمة ما بين يناير (ك2) 1985 و مايو (أيار) 1995 أن 90 دولة قد عرفت حالة الطوارئ في هذه الفترة ففي خلال عقد من الزمن أعلنت أو مددت أو استمرت حالة استثنائية بشكل أو بآخر في 200 دولة ومقاطعة في الوقت الذي لم يجر فيه رفع هذه الحالة إلا في 60 دولة”. ويلاحظ القانوني المصري الدكتور سعيد فهيم خليل اقتران معظم حالات الطوارئ بانهيار دولة القانون عبر إزالة الفواصل بين السلطات والعدوان على وضع السلطة القضائية وتقويض الدعائم الأساسية للشرعية والقانون. واقترانها بجسامة انتهاكات حقوق الإنسان :
” إن قوانين الطوارئ والتشريعات الاستثنائية التي تسبغ الحصانة على الأجهزة الأمنية، وتحول دون مساءلة التابعين لها جنائيا عما يصدر عنهم من تصرفات وإجراءات أثناء تنفيذ أحكام القانون، تعد أداة مقننة لما ترتكبه تلك الأجهزة من انتهاكات خطيرة ضد حقوق الإنسان (…) أضف إلى ذلك .. أن هذه الأشكال المختلفة من الانتهاكات الجسيمة ضد حقوق الإنسان، إنما تقود في الواقع كل منها إلى حدوث الأخرى، فانتهاك حقوق المعتقلين في الاتصال بذويهم أو بمحام للدفاع عنهم ، يخلق الفرصة لارتكاب التعذيب، أو جريمة الاختفاء القسري، أو القتل. وانتهاك حقوق وضمانات المتهمين أثناء المحكمة الجنائية قد يفضي إلى صدور أحكام بالإعدام غير قانونية، وهكذا.. فإن هذه الانتهاكات تشكل سلسلة من العوامل المتضافرة والمتصلة الحلقات. ومما يزيد من حدة تلك الانتهاكات وكثافتها أن حالات الطوارئ غالبا ما تغلف هذه الحوادث بستار كثيف من الكتمان والسرية، وتحيط مرتكبيها بسياج من الحصانة، التي تحول دون خضوعهم للمساءلة الجنائية.”.
الحالة السورية
ما هو الفرق بين “الانقلابات العسكرية” التي تنصب نفسها ثورات و”الفوضى الخلاقة” التي تعمّد تحريرا وديمقراطية؟ ربما وجد فقهاء العلوم السياسية فروقا منظورة، ولكن المشترك الأساسي هو استباحة مفهوم القانون، محليا كان أو دوليا، باسم قيمة عليا وشعار براق.
في الثامن من آذار/مارس1963، أعلنت حالة الطوارئ إذاعة دمشق المحتلة من قطعة عسكرية وبعد منع التجول أعلنت حالة الطوارئ. من المضحك أن نتحدث في 2007 عن مشروعية الإعلان الصادر عن مجلس قيادة الثورة، في حين يعطي المرسوم التشريعي رقم 51 لعام1962 في مادته الثانية هذا الحق لمجلس الوزراء المنعقد برئاسة رئيس الجمهورية وبأكثرية ثلثي الأعضاء. فالقانون في حالة كهذه، يصنعه الغالبون.
منذ قانون حماية الثورة، الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 6 تاريخ 17/1/1965، حل القضاء الاستثنائي تدريجيا مكان القضاء العادي وجرت عملية تهميش الجهاز القضائي وضرب استقلاليته في الصميم. في فترة انتقال الحكم للجنرال الأسد، تم إسناد السلطة القضائية إلى جمع من المحاكم الاستثنائية في كل ما يتعلق بالنضال السياسي والنقابي والشؤون العامة للناس. وكي يعطي الخطوط العامة لسياسته الأمنية والقضائية، دشن الجنرال حافظ الأسد فترة حكمه في 2 آب/أغسطس 1971 بمحاكمة قرابة 400 بعثي أمام محكمة أمن الدولة وإصدار أحكام قاسية بحقهم. جرت المحكمة التي حضرتها كابن أحد المعتقلين في المسرح العسكري مقابل نهر بردى، وقد سمعت يومها خطابا قوميا ملتهبا من عضو في القيادة القطرية جاء يحاكم رفاق له سبقوه في الحزب والمنصب. وبعد أن تحدث عن سقوطهم على طريق النضال حكم على عدد منهم بالإعدام وعلى عدد آخر بالمؤبد وبرأ ساحة عدد أقل. وعندما جاء دور المتهمين للحديث، رفعت الجلسة بعد أول متحدث لمدة عشر دقائق. ومازالت مرفوعة إلى اليوم.
باعتبار محكمة أمن الدولة هي النجم البارز في الهوية القضائية لحقبة كاملة، فلا بد لنا من أن نتوقف عندها بعض الشيء :
حلّت محكمة أمن الدولة، التي كان يتولى رئاستها باستمرار قيادي من حزب البعث موال للرئيس، مكان المحكمة العسكرية الاستثنائية. تمتعت بسائر صلاحياتها واختصاصاتها بموجب المرسوم التشريعي رقم 47 تاريخ 28/3/1968، حيث تنظر بالجرائم التالية :
-الجرائم الواقعة على أمن الدولة المعاقب عليها في المواد من 263 إلى 311.
-الأفعال التي تعتبر مخالفة لتطبيق النظام الاشتراكي سواء أوقعت بالفعل أم بالقول أم بالكتابة أم بأية وسيلة من وسائل التعبير أو النشر.
-الجرائم الواقعة خلافا لأحكام المراسيم التشريعية التي صدرت أو ستصدر ولها علاقة بالتحويل الاشتراكي.
-مخالفة أوامر الحاكم العرفي.
-مناهضة تحقيق الوحدة بين الأقطار العربية أو مناهضة أي هدف من أهداف الثورة أو عرقلتها سواء كان ذلك عن طريق القيام بالتظاهرات أو التجمعات أو أعمال الشغب أو التحريض عليها أو نشر الأخبار الكاذبة بقصد البلبلة وزعزعة ثقة الجماهير بأهداف الثورة.
-قبض المال أو أي عطاء آخر أو الحصول على أي وعد أو أية منفعة أخرى من دولة أجنبية أو هيئة أو أفراد سوريين أو أي اتصال بجهة أجنبية بقصد القيام بأي تصرف قولي أو فعلي معاد لأهداف الثورة.
-الهجوم أو الاعتداء على الأماكن المخصصة للعبادة أو لممارسة الطقوس الدينية أو على مراكز القيادة والمؤسسات العسكرية والدوائر والمؤسسات الحكومية الأخرى والمؤسسات العامة والخاصة بما فيها المعامل والمصانع والمحلات التجارية ودور السكن، أو إثارة النعرات أو الفتن الدينية أو الطائفية أو العنصرية، وكذلك استغلال هياج الجماهير والمظاهرات للإحراق والنهب والسلب.
توسع اختصاص محكمة أمن الدولة العليا بعد صدور قانون أمن حزب البعث العربي الاشتراكي رقم 53، تاريخ 8/4/1979، رغم أن هذا القانون لم يحدد المحكمة صاحبة الاختصاص للنظر في الأفعال المنصوص عليها. وبعد أن كانت محاكم ميدانية أمنية وعسكرية تطبق القانون 49 (7/7/1980) الذي يعاقب كل منتسب لحركة الإخوان المسلمين بالإعدام (في عام 1980 صدر مرسوم تشريعي برقم 32 بسط صلاحيات المحاكم الميدانية العسكرية لمحاكمة المدنيين). أصبح لمحكمة أمن الدولة، في الواقع وفي النص، اختصاص مطلق، حيث لها حق البت في أية قضية يحيلها إليها الحاكم العرفي (المادة 5)، كما وتشمل جميع الأشخاص من مدنيين وعسكريين مهما كانت صفتهم أو حصانتهم ( المادة 6). .
لا تتقيد هذه المحكمة بالإجراءات الأصولية المنصوص عنها في التشريعات النافذة، وذلك في جميع أدوار وإجراءات الملاحقة والتحقيق والمحاكمة. فالنيابة العامة تتمتع بجميع صلاحيات قاضي التحقيق وقاضي الإحالة في القوانين النافذة ( المادة 7 الفقرة ب ). لهذه المحكمة الحق أيضا في الفصل في الحقوق والتعويضات المدنية عن الأضرار الناجمة عن الجرائم التي تفصل فيها ( المادة 7 الفقرة ج). كما ولا تقبل الأحكام الصادرة عنها الطعن بأي طريق من الطرق. لكنها لا تصبح نافذة إلا بعد التصديق عليها بقرار من رئيس الدولة الذي له حق إلغاء الحكم مع الأمر بإعادة المحاكمة. وحق إلغاء الحكم مع حفظ الدعوى أو تخفيض العقوبة أو تبديلها بأقل منها. قراره في هذا الشأن مبرم لا يقبل أي طريق من طرق المراجعة.
اعتبر الفقه بأن قرار رئيس الجمهورية الصادر في معرض البت في أحكام محكمة أمن الدولة العليا ليس قرارا قضائيا بل إداريا. وهو من أعمال السيادة التي لا تقبل الطعن أمام أي مرجع قضائي أو إداري، لأنه من متعلقات أمن الدولة.
استنادا إلى كل هذا، جرت خلال فترة الرئيس حافظ الأسد محاكمة آلاف الشخصيات والقيادات السياسية من كل الأحزاب المعارضة العلمانية والإسلامية دون استثناء.
الحرب الأولى على الإرهاب
يمكن القول أن حرب السلطة السورية على الإرهاب قد بدأت في عام 1978. فبعد دخول القوات السورية لبنان وتوقيع اتفاقية كامب دافيد، تبنت السلطة السياسية في سورية خط مواجهة سياسية لمحور كامب دافيد نجح في عزله رسميا، بحيث جمدت عضوية مصر في الجامعة العربية ونقل المقر لتونس. الأمر الذي وضع ما يعرف في المصطلح الغربي بالدول المعتدلة في الزاوية. لذا لم تمتنع هذه الدول عن غض النظر ثم دعم حركة الإخوان المسلمين المعارضة. وقد تلقت “الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين” في سورية من دول الجوار مساعدات لوجستية وإعلامية كبيرة، ولم تقصر حكومة السادات في فتح منبر إعلامي “ضد السلطة النصيرية في دمشق”. وساد شعور قوي في ذهن مركز القرار في سورية، بأن ثمة قوى إقليمية ودولية تراهن على أضعاف، أو على الأقل تطويع سلطة الجنرال حافظ الأسد، دون المغامرة بسقوطها. خاصة وقد بدأت معالم تحالف سوري إيراني تبرز في الأفق. في هذا الوضع، بدأت الحرب على الإرهاب باعتقالات عشوائية وعمليات اغتيال عشوائية، ومع كل تصعيد (حادثة مدرسة المدفعية بحلب، محاولة اغتيال رئيس الجمهورية، ضرب أهداف جماعية..) صعدت السلطة في أساليب المواجهة بحيث شملت صورة الإجراءات الأمنية:
– الحكم على كل منتسب لحركة الإخوان المسلمين بالإعدام.
– إحياء المحاكم الميدانية وإعطاء فرع المداهمة والاقتحام وفرع التحقيق العسكري صلاحية الإعدام في البيوت والشارع والسجن بشكل فردي أو جماعي وبناء سجون سرية وأماكن تحقيق متنقلة وقد نفذت عمليات إعدام سريعة وميدانية في سجن تدمر أهمها مجزرة تدمر التي ارتكبها رفعت الأسد
– ارتكاب مجازر جماعية في حماه الأولى وحماه الكبرى وجسر الشغور وإدلب وحي المشارقة بحلب.
هذه الحرب على الإرهاب كلفت سورية أكثر من خمسين ألف قتيل وسجين ومفقود. وحتى اليوم مازالت ملفاتها والتحقيق فيها غير ممكن.
بعد 11 سبتمبر
في صيف 2001، بدأت الاعتقالات في دمشق لعدة شخصيات مدنية ونائبين مستقلين ورموز سياسية قيادية. ولم تتوقف الحملة إلا بأحداث 11 سبتمبر. أي أن ارتكاسة الوضع في سورية والضربة التي وجهت لما عرف بربيع دمشق كانت ابنة قرار أمني سوري داخلي دون أي منعطف أو حادث خارجي. فقد اعتقل آخر رموز الحملة الدكتور عارف دليلة في 9/9/2001، أي قبل يومين من أحداث سبتمبر، ولسنا ممن يشك بأية علاقة من أي طابع كان تسمح للأمن السوري بمعرفة ما سيجري في نيويورك وواشنطن ؟
يوم ذاك، كنت أعد لبعثة مراقبة قضائية لحضور محاكمة الرموز المدنية المعتقلة، فوضعت ملخصا عما بقي من “الحرب الأولى على الإرهاب” في القوانين السورية لتسهيل مهمة المحامين المتوجهين لدمشق فيما يلي نصه دون تعديل:
” بعد مجزرة حماه، عام 1982، لم تجر إعدامات علنية وانكفأت المحاكم الميدانية. واعتبرت السلطة نفسها منتصرا بالمعنيين السياسي والعسكري. ولكنها لم تقم بأي إجراء يعيد للقضاء قيمته وقرارات تعيد للمواطنة الحد الأدنى الضمانات. فقد اعتبرت السلطة السياسية الأمنية إجراءات أعوام 1978-1982 وسيلة ردع للمجتمعين المدني والسياسي وتصرفت على هذا الأساس. وإثر ضغوط دولية كبيرة قمنا بها في لجنة حقوق الإنسان وحملات كبيرة في أوربة، اضطرت السلطات السورية في بداية 1992 لقبول مبدأ محاكمة السجناء السياسيين القابعين في السجن دون محاكمة أو جرم. وكانت المهزلة بصدور أحكام لتغطية فترات اعتقال تصل إلى 15 سنة أحيانا. إلا أن هذا لم يترافق بأي تحسن في الحالة الاستثنائية من النواحي القانونية، ولم يترافق وصول الدكتور بشار الأسد بتغييرات أساسية في القوانين الاستثنائية وبقيت على حالها حتى اليوم”.
إذن، عندما وقعت أحداث 11 سبتمبر كانت سورية، ولم تزل في ظل هذه الصلاحيات الخاصة والاستثنائية الواسعة التي تسمح للسلطات السورية باعتقال أي مواطن وإحالته لمحكمة مدنية أو عسكرية أو استثنائية وإصدار أحكام عليه لمجرد إبداء رأي أو توقيع عريضة أو اجتماع في منزل.
وعند محاكمة الشبيبة التي حطمت تمثال حافظ الأسد في قدسيا، اكتشف المواطن السوري أن الأحكام التي يمكن اللجوء لها في 2002 هي نفسها التي سادت قبل عشرين عاما عشية مجزرة حماه. فالأسد الأب والابن لم يقوما بأي تغيير يسمح للقانون السوري باستعادة الحد الأدنى من هيبته وللقضاء العادي بالشعور بأن بالإمكان له التنفس خارج نطاق السلطة التنفيذية.
لذا، لدينا اليوم قوائم بأكثر من مائتي شخص حوكموا أمام محكمة أمن الدولة منذ 11 سبتمبر، مع تسعيرة جديدة لكل من يحكم بالإعدام لأسباب تتعلق بالرأي، وهي 12 سنة. ولكن مع عبارات جوفاء من الناحية القانونية، تحمل ديماغوجية الإيديولوجية وخطاب قومجي مفرغ من معناه: حيث التهم تتركز على وهن الأمة وإضعاف الشعور القومي والاتصال بالخارج الخ.
أمام الذوبان المزمن للسلطة القضائية في أماكن تعبيرها عن نفسها، ضعفت الثقافة القضائية والاجتهاد القانوني والاستنباط التشريعي. لقد زادت العلة، كما يقول المحامي عبد الوهاب بدره “إلى درجة لم يعد معها النص القانوني قادرا على الوقوف في وجه الظاهرة الجرمية التي كان قد وضع من أجلها”.
إن عدم وجود أية إجراءات استثنائية، بخلاف اعتقال مئات الوافدين من الكويت والسعودية ولبنان ودول المغرب العربي وأوربة للتطوع في العراق والسواتر الترابية على الحدود لإثبات حسن النية عالميا، لا يعني بحال من الأحوال احتراما لدولة قانون أو نصوص دستور. المأساة السورية تختصر بكلمة بسيطة وجد معبرة: لا يمكن للسلطة الأمنية أن تبتكر شيئا أكثر وحشية مما سبق وابتكرت. وكونها قد حافظت على مبتكراتها بكل أمانة في السراء والضراء، فهي لا تحتاج لأي قانون استثنائي جديد. اللهم إلا إذا قررت تحويل الاستثنائي إلى دائم قانوني كما يحدث في بعض البلدان المجاورة.
من هنا رفضنا المبدئي، وفقا لهذه التجربة المأساة المعاشة وغيرها، لأي حل أمني لمواجهة العنف والإرهاب، لأنها تضرب العلاقات المدنية ودولة القانون والقانون الدولي. وقناعتنا بضرورة ابتكار حلول تنبع من مقاربة متعددة الميادين تعتبر الكرامة الإنسانية شرطا واجب الوجوب لأي تقدم، وترفض اللجوء إلى الحالة الاستثنائية، التي تحولها العولمة بتسهيلاتها، إلى وباء لا يختلف في سهولة انتشاره عن أنفلونزا الطيور.
—————————-
هيثم مناع مفكر وحقوقي عربي درس الطب والمعالجة النفسية وعلم الإناسة، دكتور في العلوم الاجتماعية، مؤلف أكثر من ثلاثين كتابا أبرزها موسوعة “الإمعان في حقوق الإنسان” و “مستقبل حقوق الإنسان”، رئيس المكتب الدولي للجمعيات الإنسانية والمتحدث باسم اللجنة العربية لحقوق الإنسان.