أبريل 18, 2024

تجمعات الضغط الصهيونية وجرائم إسرائيل: خريطة الوضع في أوربة

palestine  في أبريل 2004، وضعت خمس وخمسون دولة و220 منظمة غير حكومية نفسها في خدمة اللوبي الموالي لإسرائيل. ذلك في مؤتمر منظمة الأمن والتعاون في أوروبا الذي عقد في برلين تحت عنوان: الوقوف ضد معاداة السامية والذي ناقش مكافحة العداء للسامية، وتشجيع التسامح، ودور التعليم، ودور وسائل الإعلام مع شبكة الإنترنت.. افتتح المؤتمر الرئيس الألماني “يوهانس راو” وحضره وزراء خارجية على رأسهم كولن باول وممثلون عن دول عربية وإسلامية خلصوا إلى بيان وخطة عمل. المشكلة هنا ليست في تبني المؤتمر لمبدأ اقتران العداء للسامية بالعداء للديمقراطية في بيانه الختامي، حيث لا ديمقراطية، برأينا، مع أي شكل من أشكال العنصرية، لكنها في التركيز على تعريف جديد للعداء للسامية يشمل ما يترتب على السياسة الإسرائيلية! توجه جديد يحتل قلاع جديدة، ليس فقط على مستوى مجموعات الضغط الموالية لإسرائيل، ولكن أيضا في القوننة المتصاعدة لما يتعلق بالعداء للسامية والعديد من الأوساط الحكومية والحزبية والثقافية.

في 16/10/2004، وقع الرئيس الأمريكي على قانون مراجعة معاداة السامية 2004 (Global Anti-Semitism Review Act of 2004) وبعد ذلك بيومين قدم الكاتب الفرنسي جان  كريستوف روفان Rufin تقريره حول العنصرية والعداء للسامية  لوزير الداخلية الفرنسي.

إن كان بوسع أي مراقب القول بأن ما جرى هو محض صدفة، كيف يمكن أن يفسر الهجوم المنظم على قناة المنار بعد كسبها الجولة الأولى أمام مجلس الدولة في الصيف الماضي؟ ثم حصولها على رخصة رسمية من المجلس الأعلى للسمعي البصري في فرنسا في 19 نوفمبر 2004؟ في اليوم نفسه، انطلقت في فرنسا حملة مضادة تتوجت بعد 11 يوما بطلب المجلس عينه من مجلس الدولة منع القناة في ظروف لا سابق لها. محاسبة بطريقة أقل ما يقال فيها أنها تكفي لمنع عشرين قناة تلفزيونية ناطقة بالعربية على الأقل دون سابق إنذار، (يمكن متابعة فيلم من ثلاثين دقيقة تأسس المنع عليه). ثم بعد أقل من 72 ساعة صدر تصنيف القناة من قبل الإدارة الأمريكية على قائمة الإرهاب.من المؤكد، أمام مشهد كهذا، أن ثمة حالة استنفار وتعبئة تعيشها مجموعات الضغط الموالية لإسرائيل، وبتنسيق عال فيما بينها ومع الحكومة الإسرائيلية، من أجل إعادة رسم إستراتيجيات الحماية لدولة توسعية لم يعد بالإمكان الدفاع عن سياساتها العدوانية تجاه شعب فلسطين.

إن كانت جماعات الضغط الموالية لإسرائيل في أمريكا لها اسم ومؤسسات، ففي أوربة ثمة مؤسسات تاريخية مرتبطة بالجالية اليهودية وأخرى واضحة الانتماء للحركة الصهيونية أو تعكس جغرافية الأحزاب السياسية في إسرائيل. وهي تركز عملها على عدة محاور أهمها:

صناعة المثقف الأوربي

السيطرة على السلطة الرابعة وإرهابها

إيجاد جماعات متابعة للأحزاب السياسية والرموز السياسية

التأثير في الأوساط غير الحكومية ومنظمات حقوق الإنسان

التأثير في السلطة القضائية والقوانين

يمكن القول أن البنية التنظيمية هلامية أو مرنة، أما أسلوب العمل فهو جد منظم. وبعكس ما هو شائع، هناك أشخاص هم أصحاب دور فاعل في جماعة الضغط الموالية لإسرائيل من غير اليهود، بما في ذلك ما يعرف بعرب الخدمات. ويهود لا يشعرون بأي تعاطف مع السياسة الإسرائيلية أو دولة إسرائيل نفسها.

كان أول تحول في الرأي العام الإوربي برأينا إثر العدوان الإسرائيلي على لبنان. أسطورة الجيش الذي يدافع عن شعب يتعرض لخطر الإلقاء في البحر زالت. الجيش العبري يحتل عاصمة عربية في حرب غير دفاعية بكل المعاني. النداء الأساسي لأصحاب الضمائر كان: آن الأوان للتعامل مع إسرائيل كدولة مثل غيرها، دولة تمارس العدوان وتحتل أراضي الغير. لكن لم يكن التغيير من العمق بحيث يترك آثارا كبيرة. يومها، بدأ كلود لانزمان، رئيس تحرير “الأزمنة الحديثة” بهجوم مضاد يقوم على أن ما يحدث لا يشكل خطرا على دولة إسرائيل فحسب، وإنما هو الوقود الأكثر خطرا لنار اللا سامية. بعدها بعامين عاد شامير يتحدث بخطاب متطرف ومتعجرف. يسأله محرر النشرة الرئيسة للقناة الأولى: لم لا تضمون الضفة الغربية وقطاع غزة فيجيب: “لا يضم المرء ما هو له”. أما الموالون لإسرائيل فبدأوا يستعدون لمعركة صعبة، خاصة مع انطلاقة الانتفاضة الأولى. من ناحيته، كان الشعب الفلسطيني يكسب في صفوف الشبيبة واليسار غير التقليدي والمجتمع الأوربي المولود بعد جرائم النازية. هذه الشرائح التي ترفض عملية تحميلها ذنبا لم تقترفه وإن كانت تتعاطف بشكل كبير مع ملايين اليهود الذين كانوا ضحية أكبر مدرسة عنصرية في التاريخ المعاصر: النازية.

كان لحرب الخليج الثانية دورا سلبيا كبيرا في ذلك، حيث خلطت الأوراق وعادت بصورة إسرائيل الضحية. لقد استغلت جماعات الضغط الموالية لإسرائيل فكرة بلع دولة عضو في الأمم المتحدة من جارها العربي، مع ترويج لا سابق له لخطر الكيماوي في الصواريخ العراقية على الأبرياء الإسرائيليين. “الهزيمة التي أصابت كل العرب” يومئذ، مهدت لهجمة إسرائيلية أوربية جديدة على أساس تحجيم القرارات المناهضة للصهيونية في الأمم المتحدة، ضمن التوازن العالمي الجديد والانهيار الجماعي العربي.

هذا الاستنفار كان له أن ازداد منذ نجاح الولايات المتحدة وإسرائيل في 16 ديسمبر/ كانون الأول1991 في إلغاء القرار 3379 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10/11/1975 والذي يعتبر الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية والتمييز العنصري.

 معاداة السامية أم تغطية إسرائيل؟

 لقد شهدت التسعينيات العديد من الندوات والتحركات التي وظفت مرحلة اتفاقيات أوسلو في إعادة تجميل صورة الدولة العبرية ومقاومة أشكال النقد والشجب المختلفة لسياستها. واكب ذلك نشأة اتجاه صهيوني يعتبر انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة انتصارا لإسرائيل. وهو بالتالي يفترض أن يتم توظيفه في كل المجالات، بما في ذلك توسيع مفهوم معاداة السامية ليشمل كل انتقاد لدولة إسرائيل.

يضاف إلى ذلك قراءة وتحليل كل ما يتعلق بالتاريخ اليهودي المعاصر وتحجيم دور كل مجموعة أو جالية أو دولة يمكن أن تشكل خطرا بعيد المدى على إسرائيل. كيف يتم ذلك؟ سأعطي بعض الأمثلة القريبة جدا:

تشهد أوربة اليوم محاولة استشراس ضد الرأي المخالف لأطروحات مجموعات الضغط الموالية لإسرائيل قائم على تعزيز رهاب الإسلام وتقديم مناهضي العولمة بشكل شيطاني. بالطبع مع التذكير باستمرار بأن أوربة مذنبة بحق اليهود، ولم تعتذر بعد بتقديم الدعم اللازم لأول دولة يهودية في الأزمنة المعاصرة. كمثل على هذا التوجه، سآخذ كلمة ألقاها المحامي جان لوك ميدينا Medina في 16 ديسمبر 2004 وهو مسئول الكريف CRIF في مدينة غرونوبل (الكريف اختصار “المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا” يضع أمامه وفق تفديمه لنفسه ثلاث مهمات أساسية: الأولى النضال ضد كل أشكال معاداة السامية والعنصرية وغياب التسامح والنبذ، الثانية التأكيد على التضامن مع دولة إسرائيل ودعمه لحل سلمي في الشرق الأوسط والمحافظة على ذاكرة الشوا (المحرقة النازية) حتى لا تنسى الأجيال المقبلة الضحايا اليهود للبربرية النازية).

يذكر السيد مدينا بأن أهالي المنطقة قد اتهموا في القرن الرابع عشر اليهود بالطاعون الذي أصابهم. كذلك كان هناك تواطؤ مع عملية نقل أطفال يهود لمعسكرات الاعتقال النازية في 26 آب/أغسطس 1942. ثم ينتقل ليحدد بأن مهمة منظمته دحر الشعور المعادي للسامية ومحاولات المراجعة التاريخية. يبدأ الخطاب بنيل المراد عندما يصل للجالية الإسلامية في فرنسا. هنا يركز المتحدث على أن تقريرا للمخابرات العامة يظهر أن جماعات التبليغ والسلفية أصبحت العنصر الأساسي في الأحياء الصعبة حيث تسيطر على أكثر من 200 حي في مراكز تجمع المنحدرين من أصول مغاربية. النتيجة بالطبع، هي انتاج واسع للمتطوعين لمحاربة القوات الفرنسية في أفغانستان وقوات التحالف في العراق.

نحن أمام مشهد لشبح مصعب الزرقاوي في الضواحي الباريسية. هناك جالية يغلب عليها التيار المتطرف الذي يغذي معاداة السامية والغرب والديمقراطية والمبادئ الجمهورية ويعزز الأفكار الجهادية. لكن هذا الأسلوب التخويفي لا ينسجم مع الوقائع. فكل ما أعطت الجالية المسلمة (يتجاوز عددها الخمسة ملايين) لحرب أفغانستان ستة معتقلين في غوانتانامو، تمكنا كمنظمات غير حكومية لحقوق الإنسان من إعادتهم لفرنسا لأن ملفاتهم فارغة. أما في العراق، والكل يعلم أن رصيد الحكومة الفرنسية داخل وخارج أوربة جاء من موقفها الحكيم من العدوان على العراق، فكما أخبرني الصحفي المتابع للموضوع أوليفييه أوماهوني، عدد الفرنسيين المسلمين، وفق معطيات الأمن الفرنسي، ثلاثة معتقلين من قبل القوات الأمريكية، وثلاثة قتلى، واثنان مفقودين، ومعتقل في دمشق.

بالطبع خطاب الكريف سياسي ومستقبلي. هو يهدف لتحجيم الدور السياسي للجالية العربية والمسلمة عبر التخويف الدائم منها، بما في ذلك الهجوم المنظم على أكبر تجمع منظم لها (اتحاد الجمعيات الإسلامية في فرنسا UOIF). هذا التجمع الذي طالب مركز سيمون روزنتال الصهيوني في 2/11/2004 بحله (كذا!) بدعوى أنه يجمع تبرعات لإغاثة المنكوبين الفلسطينيين.

إن كان للانتفاضة الثانية في انطلاقتها أن تضع أمام أنظار العالم هشاشة وتعارض الممارسات الإسرائيلية منذ أوسلو مع القانون الإنساني الدولي والحقوق الأولية للشعب الفلسطيني، فقد جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول لتبني كل صمامات الوقاية للتطرف الإسرائيلي من قبل الإدارة الأميركية. ففي الوقت الذي مورست فيه أبشع الجرائم بحق الفلسطينيين، أعطت الإدارة الأميركية الحماية السياسية الضرورية للدولة العبرية ضمن ما سمته الحرب على الإرهاب.

إلا أن هذا الغطاء السياسي لإسرائيل جاء في خضم تشكل جبهات مقاومة جديدة لمناهضة السيطرة الأميركية. بعض هذه الجبهات قدم من خلفيات يسارية ومن أنصار البيئة، وبعضها الآخر من حركات السلام والدفاع عن حقوق الإنسان، وقطاع واسع منها تحدر من التيارات الديمقراطية المختلفة التي وجدت في السياسة الأمنية الأميركية وإعلان حالة الطوارئ على الصعيد العالمي تهديدا مباشرا لكل المكتسبات الحقوقية والديمقراطية التي جنتها البشرية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

هذه الاتجاهات أصبحت أيضا مع التعنت الإسرائيلي قوة دعم معنوية كبيرة للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. فلم يعد من الغريب الحديث عن إسرائيل كدولة عنصرية معتدية ومحتلة، بل واعتبارها المصدر الأول للخطر على البشرية اليوم عند شرائح واسعة من الرأي العام الأوروبي.

في هذا المعمعان،  تركزت سياسة اللوبي الموالي لإسرائيل على إعادة تعريف العداء للسامية ليشمل العداء للصهيونية. وصار من الضروري توظيف الحملة على معاداة السامية في الدفاع عن السياسة الإسرائيلية. كون معظم الدول الأوربية قد سنت قوانين للحماية من معاداة السامية في الكتابة والصحافة والإعلام السمعي والبصري والتجمعات السلمية الخ منذ عام 1881 وحتى اليوم. الأمر الذي يتجسد عمليا بحماية دولة إسرائيل من نشطاء حقوق الإنسان والخضر والحمر وكل من تسّول له نفسه التعرض للانتهاكات الجسيمة والمنهجية التي ترتكبها السلطات الإسرائيلية.

في هذا الإطار تقف الحركة العالمية لحقوق الإنسان اليوم أمام تحدّ جديد. تحدّ من نوع خاص توضع فيه مصداقيتها على المحك. فمن جهة، تستنكر هذه الحركة بكل أطرافها وتياراتها أي عمل مناهض للسامية، وترفض بنفس الوقت أن تعتبر المعضلة المركزية في العنصرية مشكلة العداء للسامية.

فلسنا اليوم أمام حملة إبادة نازية أو أمام الجماعة المستهدفة الأولى والأهم في أوروبا والولايات المتحدة والعالم الإسلامي. ومن غير المعقول مطالبة المدافعين عن حقوق الإنسان بتصنيف دولة فوق الدول وفوق القانون وتنصيب شعب في مرتبة أعلى من غيره.

 إنتاج أم مقاومة العداء للسامية؟

 لا يمكن معالجة الظواهر المجتمعية والثقافية بمجرد مراقبة أعراضها. ومن الصعب كذلك في القضايا ذات البعد الأخلاقي والحقوقي اتباع وسائل ردعية وقمعية.

فإذا كانت معاداة السامية (كمأساة عاشها اليهود في أوروبا عبر جرائم لا إنسانية ارتكبت بحقهم من الغيتو إلى المحرقة النازية) قد دخلت الوعي الجماعي الغربي بوصفها أهم التعبيرات العنصرية في قاموس المدافعين عن الكرامة الإنسانية، فهي لم تكن كذلك في الثقافتين العربية والإسلامية، وإلى حد كبير الهندية والصينية.

بالتالي، لا يمكن الحديث عن مجازر جماعية أو ممارسات عنصرية بحق اليهودي في جنوب شرقي أسيا، وما كان اليهودي في فلسطين الطرف الأضعف في الستين عاما الأخيرة.

وفي حين يملك الإسرائيليون أحدث أسلحة الدمار التي عرفتها البشرية، لا يملك الفلسطيني سوى جسده ورمزية صواريخ القسام التي تذكرنا بأسلحة الهندي الأحمر.

اعتبار معاداة السامية ظاهرة عالمية هو تجنّ على التاريخ والحاضر. كما أن مساواة الضحية، التي تعرضت لشكل ما من أشكال الأذى النفسي أو الجسدي لمجرد كونها تنتمي للدين اليهودي، بالجلاد الذي يمارس جرائم الحرب ضد الفلسطينيين، هو استغباء للعقل وتدنيس منظم للوعي.

هذا الأسلوب، الذي يحاول توسيع جبهة المعادين للسامية لتشمل من يناهض السياسة العدوانية للحكومة الإسرائيلية، يفقد الكلمة براءتها الأخلاقية وعمقها التاريخي ومخاطرها المعاصرة.

 يتم ذلك بتوظيف للألم التاريخي والخطر الذي لم يختف بعد، في خدمة جرائم يومية ترتكب بحق شعب بلا دولة وبلا حقوق.

لقد حرصت الحركة الصهيونية على تأصيل فكرة التفرد لكل ما هو يهودي. تفرد الغيتو وتفرد العداء للسامية وتفرد المحرقة وتفرد الوضع التاريخي لدولة إسرائيل. لكنها بهذا الحرص على التمييز خلقت مشاعر كارهة لهذا الغياب الصارخ لفكرة المساواة في الألم، والمساواة في المعاناة والمساواة في أسلوب التقييم والتناول.

فالجريمة هي الجريمة والعنصرية هي العنصرية والقتل هو القتل والعزل العنصري هو العزل العنصري. أما الاستثناء فهو الذي يخصب براعم العنصرية في المجتمع.

وعندما يأتي المثقف الموالي لإسرائيل بفكرة مفادها أن التعرض للدولة العبرية يمهد التربة لمعاداة السامية، فهو ينتقل من الحقل الثقافي النقدي لحقل الإرهاب الفكري لعالم بأكمله. عالم حقوق الإنسان الذي اعتبر نفسه، حقا أو باطلا، فوق الحدود والثقافات والدول. كما اعتبر مهمته شجب الانتهاكات التي يتعرض لها الأشخاص والشعوب دون تمييز، ودون معايير مزدوجة، ودون أبناء ست وأبناء جارية.

هنا يتحول المدافع عن القضية اليهودية إلى منتج لمعاداة السامية، باعتبارها رد فعل على هذا التسلط الفكري والسياسي. ومن المضحك أن يحاول المثقف نفسه الاختباء وراء جلباب مصطلحات علمية يمرر بها المبدأ العصبي القائل: انصر إسرائيل ظالمة أو مظلومة.

لكن من المؤسف أن تجد حكومات دول غربية نفسها مضطرة إلى أن ترضخ للضغوط، معتبرة هذه الأطروحات أساسا للتعامل مع ظاهرة العداء للسامية. ومن المؤسف أيضا أن نجاح مجموعات الضغط في التأثير على الطبقة السياسية التقليدية قد انعكس بصيغ رد فعلية عند الجمهور الواسع في أوربة. هذا الجمهور الذي يرى بأم عينيه التوظيف الرخيص لإحدى أهم المآسي المعاصرة في خدمة سياسات عدوانية. ففي بلد كفرنسا، نجحت المنظمات المدنية والمعادية للعنصرية في تعبئة قرابة 400 ألف شخص في 1989 بعد الاعتداء الآثم على مقبرة كاربتراس اليهودية، لم تعبئ تظاهرة مايو 2004 المستنكرة للعداء للسامية أكثر من 20 ألف شخص. لأن المواطن البسيط المناهض للعنصرية يشعر اليوم بأن المطلوب منه هو التستر على سياسة أرييل شارون والسكوت عن احتلال أراض عربية بالقوة وبناء المستوطنات والجدار الواقي. صحيح أن الإرهاب الفكري قد أجبر آلان مينارغ على الاستقالة من منصبه في إذاعة فرنسا الدولية، إلا أن مؤلف “جدار شارون” أعطى أحد الكتب الأوسع مبيعا في العام الماضي. حيث ثمة تعاطف عفوي يتجاوز المؤسسات.

 المعاداة الجديدة للسامية

ربما كان حزب الليكود أول من استعمل مصطلح معاداة السامية الجديدة (New Anti-Semitism). لكن لم يلبث هذا المصطلح أن أصبح موضوعا لندوات وحلقات فكرية وحقوقية. فقد تلقفته الـLICRA (رابطة مناهضة العنصرية ومعاداة السامية في فرنسا) و ADL(رابطة مناهضة التثليم الأميركية), والمراكز المتخصصة في معاداة السامية في الغرب، بحيث شمل معاداة الصهيونية باعتبارها شكلاً من أشكال العداء للسامية.

لقد باشرت عدة مراكز ما يمكن تسميته إصدار تقارير سنوية عن مظاهر معاداة السامية في العالم. لقد تساوى في هذه الإصدارات بين الاعتداء على مقبرة يهودية، والهجوم على عالم اجتماع، والتشهير بمسئول سياسي رفض استقبال مسئول إسرائيلي. ولعل الكاريكاتير الأشبه بالمهزلة هو ما تقوم به MEMRI من برنامج مراقبة العداء للسامية في العالم العربي و Dhimmi Watch وغير ذلك، بإشراف كولونيل سابق في الجيش الإسرائيلي تساعده زوجة وولفوفيتز.

تحاول هذه المراكز تقديم صورة سوداء عن علاقة العالمين العربي والإسلامي باليهودية. ونادرا ما تشير إلى مقالة معمقة أو جهد أكاديمي، باحثة في الصحف الصفراء والتصريحات العرجاء عن كل ما يخلق فجوة لأي تواصل مع العربي والمسلم. كذلك، لا يمكن القول أن تقارير بعض أعضاء الكونغرس أو مداخلاتهم أكثر دقة وجدية. فهي غالبا ما تكون مستقاة من مصدر للمعلومات كهذه المصادر المذكورة هنا.

كانت وحدها المؤسسات الصهيونية الأوربية تتبنى علنا هذا المصطلح، وجرت مواجهات عديدة بين المثقفين الأوربيين وجماعات الضغط الموالية لإسرائيل. لكن بالإمكان القول إن تقرير جان كريستوف روفان هو أول تقرير من رئيس لجمعية غير حكومية، عرف بتاريخه المؤيد لبعض قضايا الجنوب، قبل أن يعيش انقلابا ذاتيا يعبر عنه في هذا التقرير، يتبنى أطروحات حزب الليكود.

بالنسبة لهذا الكاتب، هناك ثلاثة أشكال اليوم لمعاداة السامية:

-الأول غريزي Pulsion:هذا الشكل يراه عند “صناع العنف”، المصنفين من اليمين المتطرف أو من الشبيبة المنحدرة من المهاجرين الذين يفتقدون للجذور ونقاط الارتكاز ويعانون من الفشل الاجتماعي وضبابية الهوية. هؤلاء  سيجدون في معاداة السامية برأي الكاتب غذاء للروح، في اعتراف ضمني بأن المجتمع المضيف قد حرمهم من أية وسيلة للتعبير عن الذات. بالطبع، وكما سبق وذكرنا، يوجد تبني لأطروحات الرهاب من الهجرة المسلمة والإسلام بشكل غير مباشر، باعتبار أن هذا الوسط لا يختلف عن اليمين المتطرف.

روفان يصنف هذه الشبيبة في عداد منتجي عنصرية هم أنفسهم ضحاياها بكل المعاني. هنا، نقف أمام توظيف تبسيطي لمصطلح Pulsion الفرويدي يخرجه عن معناه ومبناه.

-الثاني كإستراتيجية Stratégie، بحيث نجد أنفسنا أمام جماعات منظمة لاحتواء وتوظيف الناس من اليمين المتطرف والجماعات الإرهابية، بحيث نحن أمام حالات سوسيولوجية كلاسيكية.

عند الحديث عن الجماعات الإرهابية، من المفيد التذكير بزج أنصار إسرائيل، بمناسبة وبدون مناسبة، لحركة المقاومة الإسلامية حماس فيها. ووجود سياسة منظمة تعتمد طرح السؤال بشكل منهجي: “لماذا ندين إرهاب القاعدة والباسك والشاشان ولا ندين الإرهاب الفلسطيني”؟ يترافق ذلك بتنظيم دعوات وحفلات غالا للجيش الإسرائيلي لتجميل صورة المحتل. في هذه الحالة، ليس من قانون دولي أو أمم متحدة أو احتلال أو مستوطنات، كن في الحالة الأخرى، هناك إرهاب يجب استئصاله.

-الثالث بالوكالة Par procuration، وهنا ندخل في صلب التعريف الصهيوني للعداء للسامية. فهو يتحدث عن الذين يسهلون، بوجهة نظرهم أو بصمتهم، القيام بأعمال معادية للسامية.

هذه المعاداة الجديدة للسامية، كما يقول، نشأت في أوساط النضال المناهض للاستعمار والعولمة والمدافع عن العالم الثالث والبيئة ومن اليسار الثوري والخضر، وكل من يجتمع حول ما يسميه رئيس جمعية “العمل ضد الجوع”، المعاداة الراديكالية للصهيونية.

كل الأديان يمكن أن تكون موضوع نقد، إلا اليهودية. وكل الدول يمكن أن تكون موضوع شجب، إلا إسرائيل. هذا باختصار تصور اللوبي الموالي لإسرائيل لطريقة مواجهة العداء للسامية. أما السبب فيكمن، كما يقول الكاتب الصهيوني آلان فنكلكراوت، في أن المجتمع الأوربي قابل للعودة إلى العداء للسامية. بل يصل به الأمر للعب دور الضحية المطلقة بالقول: “أن تكون يهوديا في فرنسا يعني أن تكون مشبوها”.

المشكلة برأينا، أن الخوف من القوة المنظمة والضاربة لجماعات الضغط، تجعل بعض السياسيين يخوضون في مزاودة علنية معها. فعوضا عن أن يتوقف الشاعر دوفلبان، وزير الداخلية، عند مخاطر التعريف الجديد للعداء للسامية الذي يغطي جرائم دولة، يقترح علينا شيئا آخر. التفكير في فائدة نص يسمح بمعاقبة الذين يصدر عنهم مواقف أو تهم بالعنصرية أو يقارنون الجماعات، الدول أو المؤسسات بالأبارتايد والنازية. بكلمة أخرى، يجب معاقبة صديقنا محمد حافظ يعقوب مثلاً لإصداره كتاب: بيان ضد الأبارتايد، كونه يعطي صورة سلبية عن الدولة الجميلة، إسرائيل. لحسن الحظ لم تعترض اللجنة العربية لحقوق الإنسان وحدها على هذا الاقتراح، بل أخذت الموقف نفسه الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان والحركة ضد العنصرية من أجل الصداقة بين الشعوب.

مناقشة العداء للسامية تحتاج اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، للأمانة الفكرية والنزاهة الأخلاقية، ومناهضة العنصرية بكل أشكالها بما في ذلك معاداة السامية ورهاب الإسلام والتمييز العنصري. وهي أمور لا يمكن أن تحدث إلا ضمن منظومة أخلاقية وحقوقية ذات مصداقية عند الشخص المتلقي، إذ لا يمكن استخدام أسلحة مشبوهة للدفاع عن قضايا نبيلة. فمن الصعب إقناع إنسان بسيط بأن الفضيلة يمكن أن تأتي من مجرم حرب، وأن أنصار هذا المجرم يمكن أن يكونوا على رأس مرصد عالمي لمناهضة العنصرية.

لقد نشأ مصطلح “معاداة السامية” في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ليعبر عن إيديولوجية عنصرية نابذة للآخر المختلف والمقموع. أما إعادة تعريفها اليوم بشكل يغطي ممارسات القامع الإسرائيلي، أمر يخلط الحابل بالنابل، ويفقد الضحايا الفعليين لمعاداة السامية التخوم الضرورية للحئول دون توظيف قضية عادلة في خدمة الآلة الجهنمية للعدوان.

 مفهوم معاداة السامية بين الأيديولوجيا والسياسة والقانون: الأبعاد والتداعيات المستقبلية القاهرة 8- 10 مارس 2005